جيش رجال الطريقة النقشبندية

جيش رجال الطريقة النقشبندية

[caption id="attachment_55253547" align="aligncenter" width="620"]جيش الطريقة الصوفية النقشبندية جيش الطريقة الصوفية النقشبندية[/caption]


الشارقة: غادة فتحي



[blockquote]لا تكاد ظاهرة تنافس ظاهرة «الإرهاب» في حجم الاهتمام بها. وشهدت السنوات التي أعقبت اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 صدور أدبيات لا تحصى في مختلف عواصم العالم بمختلف اللغات، فضلاً عن وثائقيات وبرامج تلفزيونية وأعمال درامية.. وهذا السيل الهادر من الأدبيات – أيًا كانت وجهته – حفر ما يشبه «مجرى نهر» يصعب على أي خطاب تحليلي مغاير أن يسبح ضد أمواجه الهادرة. هذا الاتجاه السائد رسم ملامح «صورة نمطية» لمفهوم الإرهاب تجعله مرتبطًا – على نحو شبه حتمي – بالمذهب السني، مع الإحالة تاريخيًا إلى الجيل الثاني من فقهاء المذهب الحنبلي (الحنابلة المتأخرون)، وبخاصة ابن تيمية الحراني (توفي 728هـ).[/blockquote]


التصور، رغم شيوعه الواسع، متهافت. وهو السائد في الخطاب العام بفئاته المختلفة: الخطاب التحليلي، والخطاب السياسي، والخطاب الإعلامي. والتهافت هنا مداره ما ينطوي عليه التصور من تناقضات يتعايش معها منتجو هذا الخطاب – ومستهلكوه – دون أدنى شعور بالمفارقة. ولا مفر هنا من الإشارة إلى أن التشابه الكبير في مرتكزات هذا الخطاب – رغم تهافتها – يطرح تساؤلاً مشروعًا عن احتمال أن يكون الأمر يتم تسويقه بشكل مخطط ومدروس بعناية.
وقد كان مشهد استيلاء تنظيم داعش على الموصل (يونيو/ حزيران 2014) كاشفًا، خصوصا لجهة الفئات المتحالفة التي قادها «داعش»، فالتحالف ضم «سلفيين جهاديين»، (وهو نفسه مصطلح قلق فيه تناقض لكون السلفية لم تكن مشروعًا لإقامة الخلافة أو أسلمة السلطة بالقوة، ورغم هذا يستخدم المصطلح ليل نهار)!
وإلى جانب هؤلاء، قوميون بعثيون متشددون أصدر أحد رموز حزبهم بيانًا نسب فيه «الخطأ» إلى رب العزة (وحاشا لله أن يكون)، لأنه خلق اليهود والفرس والذباب. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا.



الطريقة النقشبندية نقطة التلاقي




كثيرون يرون أن «جيش رجال الطريقة النقشبندية» هو نقطة التلاقي «التنظيمية» التي جعلت هذا التلاقي بين الأضداد ممكنًا. الباحث الدكتور حسن أبو هنية يرى أن التنظيم النقشبندي في العراق له مساره الخاص المختلف بشكل كبير عن مسارات النقشبندية ذات الانتشار الواسع عالميًا.. ففي كردستان العراق، يعد ضياء الدين خالد حسين، المعروف باسم «مولانا خالد النقشبندي»، مؤسس الطريقة النقشبندية (1808). وقد استطاعت المحافظة على التسنن لدى مسلمي آسيا الوسطى، وبفضل الشيخ الخواجة أحرار (المتوفى 895هـ)، هيمنت على الطرق الصوفية الأخرى خلال القرن التاسع الهجري، ووصلت النقشبندية إلى القوقاز والأناضول، ونالت حظوة عند السلاطين العثمانيين، ووصلت إلى الهند بفضل أحمد السرهندي (المتوفى 1032هـ)، ومنذ القرن الحادي عشر الهجري امتد انتشار فرع «المجددية» التابع للسرهندي، إلى الصين وإندونيسيا.
وفي القوقاز، امتد تأثير «النقشبندية الخالدية»، وعملت على تنظيم المقاومة المسلحة ضد الاجتياح الروسي، ويعد الإمام شامل (المتوفى 1859م)، من أبرز رموزها. ففي سياق الانتماء الطرائقي، الذي حلّ محل التنظيمات السياسية أو العسكرية المباشرة، كانت الطريقة النقشبندية هي الأهم، وهي فجرت في وجه الروس أول ثورة شعبية مسلحة بقيادة الشيخ شامل لأكثر من ثلاثين عامًا، ولم تنته إلا بالقبض على الشيخ شامل ونفيه، وواصل هذا الشعب مقاومته حتى عام 1887 حين استطاعت قوات القياصرة حصد معظم شيوخ الطريقة.

[caption id="attachment_55253548" align="alignleft" width="214"]عزة الدوري عزة الدوري[/caption]


وتعد «النقشبندية الحقانية» اليوم من أكثر فروع «النقشبندية» انتشارًا، وتُنسب للشيخ محمد ناظم عادل الحقاني النقشبندي. ويرى الدكتور حسن أبو هنية – وآخرون – أن حركة «جيش رجال الطريقة النقشبندية»، لا تمثل الطريقة النقشبندية في العراق، كما لا يعد عزة الدوري (نائب الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين) شيخ الطريقة الأوحد، فـ«الطريقة» أوسع من «الحركة» ولا يوجد مرجع كبير للطريقة، ومنذ وفاة الشيخ عثمان سراج الدين عام 1997، آخر شيوخها الكبار في العراق، وبعض مشايخها ينتقد نهج الدوري بالمزاوجة بين «حزب البعث» و«الطريقة النقشبندية». فالحركة أحد فروع الطريقة، وهي زاوجت بين العسكرية البعثية والصوفية.
وكما هي الحال في تجربة المقاومة في القوقاز بقيادة الشيخ شامل، يمكن أن تتحول طريقة صوفية إلى تنظيم مسلح.. صحيح أن التفرقة واجبة بين المقاومة الوطنية المشروعة للاحتلال، وبين الإرهاب، لكن الخبرات العسكرية في حالات كثيرة تكون هي نفسها – في حالات كثيرة – سببًا في مشكلة «فائض قوة» قد ينجم عنه ظهور الخطاب الفقهي (أو الفكري) الملائم لانطلاقه في معركة ما، وهي ظاهرة من ظواهر الاجتماع الإنساني لا تقتصر – إذا استكملت شروطها الموضوعية – على دين بعينه أو على عقل سلفي أو صوفي.

هذه المزاوجة بين نقيضين (الصوفية والسلفية) ظاهرة إنسانية عرف التاريخ ما يماثلها في حالات كثيرة، لكن الجدير بالتوقف عنده هنا – في المقام الأول – هذا التناقض الجذري بنيويًا وتاريخيًا بين «السلفية» و«الصوفية» من حيث تصورات كل منهما العقائدية والاجتماعية والأخلاقية، وصولاً إلى ما بينهما في تاريخ المسلمين من صراعات لم تخل من القتال، ومخاصمات كثيرًا ما لامست حدود التكفير، أما وجود البعث شريكًا ثالثًا فيكشف عن سمة إنسانية لها وجودها في الجغرافيا والتاريخ.

يتفرع عن هذا تساؤل بشأن حقيقة التعارض بين «الصوفية» و«الأصولية»، وعند الحديث عن النقشبندية كنموذج حالة، فإن دراسة علاقة «الطريقة الصوفية النقشبندية» بالسياسة عمومًا، تعد مثالاً على إشكاليات تناول الظواهر «رمادية الحدود» بالسياسة، فالتصوف حالة وجدانية يرى غير قليل من الباحثين أنها – ربما – لا تقع ضمن نطاق العنوان الكلاسيكي الكبير: «علاقة الدين بالسياسة».. فالتصوف – على الأرجح – نسق معرفي/ وجداني مغرق في القدم تفاعل مع الأديان السماوية الثلاثة، فضلاً عن وجوده القوي في المجتمعات التي لا تعتنق أديانًا سماوية.
وبسبب هذه الطبيعة المضطربة للنظرة إلى التصوف، استخدمه مصطفى كمال أتاتورك في حركته الكمالية.. فقبل «إلغاء الخلافة» تصدرت الطرق والجماعات الصوفية واجهة المشهد المجتمعي، واستخدمها أتاتورك لتغيير نمط التدين الإسلامي الرسمي والشعبي السائد، وسمح للمريدين والمشايخ بدخول البرلمان التركي الأول (1920م)، كما استخدم الكماليون شيوخ الطرق الصوفية لتعبئة الجماهير وحثهم على التضحية والجهاد في ما عرف بـ«حرب الاستقلال» ضد القوى الأوروبية، مما حدا بواضعي دستور عام 1924م، إلى أن يتركوا الجماعات الصوفية وزواياها وتكاياها حرة دون قيود. ولم تلبث مرحلة الوفاق القصيرة أن انقلبت إلى عداء وقطيعة، فقد تذرَّع الكماليون بما عرف باسم: «ثورة الشيخ سعيد بيران» – أحد شيوخ الزوايا – (1925م) في الشرق والجنوب الشرقي، فأصدروا قوانين تقضي بحل الطرق الصوفية وحظرها.


هل التصوف علاج الإرهاب؟




هذا التناقض في الحقيقة قديم - جديد، أولاً لأنه يثير قضية الربط القطعي بين الظواهر بشكل جزافي، لا يلبث أن يتحول إلى «تيار سائد»، فالقناعة بأن التصوف قرين المسالمة و«ترياق» لعلاج الإرهاب، كانت أحد دوافع صدور عشرات، بل ربما مئات، التقارير والسيناريوهات التي كان «عمود الخيمة» الرئيسي فيها، أن على الحكومات والنخب العمل بشكل منظم لدعم التصوف بوصفه نقيضا للتطرف والأصولية، ومن ثم العنف والإرهاب.


[caption id="attachment_55253546" align="alignright" width="300"]الشيخ محمد ناظم عادل الحقاني النقشبندي الشيخ محمد ناظم عادل الحقاني النقشبندي[/caption]

ومما يغفله هذا التصور أن التصوف بوصفه نزوعًا وجدانيًا واجتهادًا في تزكية النفس، لم ينفصل تاريخيًا أبدًا عن «الطرق الصوفية» التي هي في النهاية «هياكل تنظيمية» ضخمة، فالتصوف هو في الحقيقة «متعين» بقدر ما هو رؤية أو منظومة قيم، وبالتالي فإن قدرته على الحشد، وطبيعته الهرمية، وصيغة علاقة الشيخ بالمريد فيه، يمكن أن تجعله «وعاءً» تنظيميًا يمكن أن يمتلئ بأفكار عنيفة. وهذا الفرض قد يكون التفسير الأرجح لنشوء هذا التحالف المسكون بالتضاد، فالهيكل التنظيمي النقشبندي وقع في لحظة تاريخية خلت فيها الطريقة من قامة كبيرة، فتمكن البعثيون بقيادة عزة الدوري من استخدام الهيكل التنظيمي الكبير، واستثمار الرصيد الوجداني الكبير عند المريدين في بناء هذا التحالف العجيب!
والعبرة الرئيسية من هذه القراءة في خطاب الربط الآلي بين الإرهاب والمذهب السني أو الحنابلة المتأخرين أو ابن تيمية، أن فهم الإرهاب يحتاج مزيدا من التجرد والاحتكام إلى «منطق الاتساق»، وعندئذٍ – على الأرجح – سيحل الفهم المركب محل «الصورة النمطية» و«الانحيازات المسبقة» و«الأحكام المعدة سلفًا». والمردود، في هذه الحالة، سيتجاوز ترف السجال اللفظي والتقاذف بالحجج، مما قد يجعل كثيرا من الاستنتاجات المتسرعة والحلول التبسيطية – ربما – تصبح أقل رواجًا، فالتصوف ليس نقيض الأصولية، وبالتالي، فإن دعمه ليس الحل، فهو ليس – بالضرورة – انعزالاً عن الشأن العام، ولا ارتهانًا بعالم الوجدان، وهو من ثم ليس بمنأى عن فخ الإرهاب، كما يتصور كثيرون.
font change