[blockquote]
عبارة «البيع المؤجل» أصبحت اليوم متداولة في صفوف الشركات الضخمة وسماسرة أسواق النفط، فما يتم شراؤه اليوم من كميات هائلة من النفط من قبل الشركات العملاقة أو تجار النفط يخزن في ناقلات ضخمة ويخبأ في أعالي البحار أو المياه الآمنة حسب تعبيرهم إلى حين ارتفاع السعر، لكن هذا المضاربة تحتوي على الكثير من المخاطر أيضا على البيئة والإنسان.
[/blockquote]
من يتابع أسواق النفط العالمية منذ فترة يلاحظ التأرجح الكبير في الأسعار؛ فقبل ثلاث سنوات وصل سعر برميل النفط الخام برنت إلى 95.56 دولار وقبل عام من اليوم ارتفع إلى 109.90 دولار بعدها لم يعد يستقر على سعر وتراجع قبل ستة أشهر إلى أدنى حد له وهو 50.90 دولار واليوم يحاول الاحتفاظ بسعر الستين دولار للبرميل.
ورغم التراجع في الأسعار ارتفع حجم الإنتاج لدى بعض دول المنتجة بشكل ملحوظ، لكن الأسواق لم تشهد كميات هائلة منه، مما دفع إلى التساؤل ليست كل الكميات المنتجة تباع فأين تُخزن، وهل هناك أماكن كافية لتخزينها؟
الجواب يرد حاليا في تقارير مؤسسات عالمية، إذ إن ملايين الأطنان من النفط تخزن في ناقلات وسفن صهاريج مرابطة في ما يسمى بالمياه الهادئة في أعالي البحار على أمل بيعها عندما يرتفع سعرها وتحقيق أرباح خيالية. ومن يقوم بهذه العمليات ليسوا رجال عصابات بل اتحاد شركات نفط عالمية معروفة وذلك تحت شعار «اقتناص فرصة تدني الأسعار»، ومن أجل تخزين هذه الكميات الهائلة وهي استراتيجية غير عادية أتوا على فكرة استئجار ناقلات أو خزانات عملاقة عائمة وإخفاء النفط فيها وتركها تحت حراسة مشددة في البحار العالية، فهذه يسهل تصديرها إلى الجهات التي تريد الشراء عند ارتفاع الأسعار ويمكن تركها في البحر لأن النفط مادة لا تفسد.
وحسب مصادر ألمانية مطلعة، فإن «شل» و«بي بي» من بين الشركات التي تخزن النفط بهذه الطريقة إضافة إلى تجار نفط مستقلين مثل مجموعة شركات «فيتول»، ومركزها في روتردام بهولندا، وهي موجودة في جنيف وهيوستن ولندن وسنغافورا ولها حضور كبير في أسواق الغاز والوقود الحيوي وشركة «ترافوغور بيهير» الهولندية ومركزها في أمستردام ولها موقع في أسواق المواد الخام والنفط والمنتجات النفطية والطاقة المتجددة، لكن الأهم من كل ذلك إنها شركة نقل عملاقة بحرية ووسيط نقل دولي، مما يعني أنها ليست بحاجة إلى استئجار ناقلات.
ويشارك في التخزين ناقلة النفط العملاقة «تي إي أوسيانيا» المملوكة من شركة «هيليسبونت»، وهي ذات غلافين، وطولها 380 مترا وعرضها 68 مترا، ولها قدرة على نقل 3.166 مليون برميل من النفط وتستخدم كصهريج متنقل بينما تعتمد «شل» على السفينتين «كسين ران يونغ» و«كسين تونغ يانغ».
وحسب مؤسسة الاستشارات «جي بي سي إنرجي» في فيينا، فإن إجمالي حجم ما خزن حتى اليوم من النفط يتجاوز الـ60 مليون برميل وشركة «فيتول» لوحدها خزنت على متن الناقلة أوسيانيا ثلاثة ملايين برميل من النفط مرابطة في أعالي البحار.
حالة سابقة
إلا أن التسابق على تخزين النفط ليس بجديد، فحسب محللي أسواق النفط في مؤسسة «جي بي إس أنرجي» شهد عام 2008 الموجة نفسها، وخزنت شركات كبيرة ما لا يقل عن مائة مليون برميل في عرض البحر تم بيعها عندما ارتفعت الأسعار وحققت أرباحا هائلة. فالأسعار ارتفعت مطلع عام 2008 إلى 143.95 دولار للبرميل لتتراجع بحدة إلى 33.73 دولار في ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، بعدها ارتفعت الأسعار عام 2009 وتابعت ارتفاعها لتصل إلى ما فوق المائة دولار عام 2011. وبعكس خبراء نفط آخرين ترى المؤسسة أن تخزين الكميات الهائلة من النفط مؤقتا على الأقل قد يحقق استقرارا لأسعاره في الأسواق العالمية.
بينما يقول خبير الشؤون النفطية الألماني فالتر فاينبيرغ يشهد العالم منذ أكثر من عام فائضا من الإنتاج النفطي، أي أكثر من الحاجة العالمية لأن بعض البلدان النفطية لم تعد تلتزم بخطط منظمة «أوبيك»، لكن ذلك لم يغرق السوق بالنفط، بل بالعكس، فهو فتح شهية الشركات العالمية كي تشتري أكبر الكميات وتخزنها، وبلدان مثل نيجيريا.
وأنغولا وليبيا بعد الإطاحة بمعمر القذافي رفعتا سقف إنتاجها بشكل غير عادي، مما وفر فرصا ذهبية لهذه الشركات كي تسخر كل ناقلة من أجل تخزين ملايين براميل النفط. إنها لعبة خطيرة جدا لها انعكاسات سلبية جدا خاصة على البلدان النامية لأنها سوف تشتري مستلزماتها من النفط بالسعر الذي يفرض عليها.
وتحدث الخبير عن عنصر لم يدخله أحد في الحسبان، وهو اضطرار الشركات المخزنة للنفط بيع ما خزنته بأسعار رخيصة، إذا ما واصلت أسعار النفط في البلدان المنتجة التراجع، عندها تكون كل أحلامهم قد تبددت. والأطراف التي تشارك في شراء النفط وتخزينه أيضا شركات مضاربة لا تعلن عن الصفقات التي تقوم بها.
المضاربة بإيجار الناقلات
واستنادا إلى معلومات من مصادر لوسطاء الشحن وسفن النقل في هامبورغ يصل سعر استئجار الناقلة الواحدة أو سفينة الصهاريج المتنقلة يوميا إلى 40 ألف دولار، مع أن الأسعار المتوسطية كانت ما بين الـ20 والـ30 ألف دولار، لكن الجهات المالكة لها تريد أيضا تحقيق مكاسب، بالأخص مع مواصلة شركات نفط مثل اتحاد شركات «شل» استئجار ناقلات عملاقة، بينما فضلت شركات أخرى شراء سفن قديمة أو استئجار ناقلات على أساس عقود إيجار طويل المدى بسعر يصل إلى 30 ألف دولار يوميا.
ويلفت تقرير لصحيفة «هادلبزبلات الاقتصادية» الألمانية إلى أن مستوى مخزون الولايات المتحدة من النفط أصبح أعلى مستوى منذ إصدارها أول بيانات عام 1982، ويصل حاليا إلى 449 مليون برميل، أي أقل بقليل من النسبة القصوى التي حددتها الوكالة الدولية للطاقة، وهي 521 مليون برميل، وكل يوم ينتج الأميركيون مليون برميل أكثر مما يبيعون، جزء كبير من الإنتاج يخزن في خزانات ببلدة كاشينغ في ولاية أوكلاهوما، إضافة إلى كل ما يستخرج من النفط من خليج المكسيك. ويعتبر خزان كاشينغ أهم مكان لتخزين النفط في الولايات المتحدة، وبإمكانه استيعاب ما يقدر بـ80 مليون برميل أي نحو 13 مليار لتر. وبحسب التقرير المشكلة فإن الولايات المتحدة تستخرج كميات كبيرة من النفط والخزانات لديها باتت مليئة تقريبا، ومن المتوقع أن لا تعد خزانات كاشينغ تستوعب المزيد، عندها قد تقع مشكلة، إذ عليها التخلص من هذا الكم الهائل، مما قد يؤدي إلى انخفاض الأسعار، وينعكس ذلك على أسواق النفط العالمية أيضا.
ويعيد التقرير رفع سقف إنتاج النفط في الولايات المتحدة الأميركية أيضا إلى استخراج النفط من الصخر الزيتي أو استخراج النفط الصخري المسمى فراكينغ، الذي وسع حجمها نحو 80 في المائة. والمشكلة التي قد تخفض سعر النفط بشكل عام أن الكثير من الشركات المنتجة للنفط الصخري اقترضت مبالغ هائلة وعليها الآن إنتاج كميات كبيرة كي تسدد قروضها بسرعة، وهذا بدوره قد يحدث تراجعا في أسعار النفط، مما يجعله عاملا مؤثرا لتسارع الشركات الأخرى التي خزنت في الناقلات لبيع نفطها لكن بالسعر الذي لن يحقق طموحاتها.
والعاملان الآخران اللذان قد يعجلا في بيع ما خزن من النفط بسعر منخفض هو: أولا عودة ضخ النفط بشكل طبيعي في ليبيا وثانيا إمكانية نجاح المفاوضات مع إيران المتعلقة ببرامجها النووية، فإذا ما تكللت المفاوضات باتفاق سوف تعود إيران إلى تصدير نفطها أسوة بالبلدان النفطية الباقية وهنا يتوقع الخبراء رفع سقف عروضها النفطية وإغراق الأسواق الأوروبية، وأول المتضررين عندها ستكون الشركات الصغيرة والمتوسطة المخزنة لكميات هائلة من النفط، في هذه الأثناء سوف تحاول الشركات الضخمة تقليص الخسائر إما بطرح الكمية بعد الأخرى للبيع أو الإبقاء على التخزين وانتظار فرص أفضل. لكن حتى ولو باعت الشركات الضخمة النفط بزيادة بسيطة مقارنة مع سعر المشترى فإنها تحقق أرباحا.
في المقابل يقول رأي آخر لا يمكن للشركات إبقاء الناقلات في أعالي البحار، إذ إن كل مائة يوم يكلف أكثر من 4 ملايين دولار، وإذا لم تتمكن من البيع بسعر جيد، فإنها سوف تتعرض لكارثة مالية كبيرة. إضافة إلى ذلك فإن ضخ العراق وروسيا كميات كبيرة من النفط يعني بالتالي عدم ارتفاع سعره للفترات المقبلة، فهل سيصر بعضها على عدم البيع بانتظار ارتفاع الأسعار؟
وحيال هذا التسابق في التخزين، أطلقت عدة منظمات حماية البيئة البحرية صفارة الإنذار لأن بعض هذه الناقلات أو سفن الصهاريج المحملة بملايين الأطنان من النفط قديمة الصنع، ولم تخضع منذ سنوات لعمليات صيانة، لذا ليس من المستبعد أن تتسرب منها كميات هائلة فتتكرر بذلك مأساة حرب الخليج وكارثة تلوث خليج المكسيك، ويصل التسرب إلى الشواطئ فتفتك بالثروات البحرية التي تعاني بدورها منذ سنوات من تلوث فتك بأنواع كثيرة من الحيوانات البحرية وقضى على رزق آلاف الصيادين. والمشكلة الكبرى هي أن أماكن مرابطة هذه الناقلات في أعالي البحار غير معروفة من أجل حمايتها من السطو أو أعمال التخريب لذا لا يمكن تتبع أوضاعها واحتمال تسرب نفط منها طالما أن بعضها قديم، والخطر الأكبر هو حدوث تغيير مناخي مثل هبوب عواصف قوية أو هزات بحرية عندها تقع بالفعل كارثة فمن يتحمل مسؤوليتها؟ سؤال تطرحه اليوم وبإلحاح منظمات حماية البيئة.