أثارت صفقة غرب دلتا النيل بين شركة «بي بي» البريطانية والحكومة المصرية ضجّة إعلامية كبيرة، في الأوساط الغربية والعربية على حدّ السّواء. وتداولت بعض المنابر الإعلامية البريطانية تقريرا نشره موقع «ميدل إيست آي» الإلكتروني، زاعما أن هذه الصفقة تضر بمصر وبمصالحها، بل وتُجرّدها من مواردها الطبيعية دون مقابل يذكر. وفيما يستند هذا التقرير على بعض المعلومات الصحيحة دون شك، إلا أن تحليله للصفقة افتقر للحيادية والوضوح واستند في معظمه على رأي طرف واحد منحاز.
تبيّن لـ«المجلة» من خلال حديثها مع شركة «بي بي» وعدد من الخبراء المتخصّصين في الاقتصاد المصري وقطاعي النّفط والغاز أنه رغم استبدالها لنموذج الإنتاج المشترك التقليدي، إلا أن صفقة «بي بي» كانت أفضل الخيارات المتاحة للخروج من أزمة الطاقة الخانقة التي تعاني منها مصر ولتفعيل الاستثمار في حقول غاز غرب دلتا نيل الغنية.
بنود الصفقة ودوافع الاستثمار
أعلنت شركة «بي بي» البريطانية، في ثاني يوم من مؤتمر دعم الاقتصاد المصري في شرم الشيخ، توقيع الاتفاقات النهائية لمشروع غرب دلتا النيل لتطوير خمسة تريليونات متر مكعب من موارد الغاز و55 مليون برميل من المكثفات باستثمارات تقدر بنحو 12 مليار دولار.
من المتوقع أن يبدأ الإنتاج من مشروع غرب الدلتا في 2017 وأن يغطي نحو 25 في المائة من من الإنتاج الحالي للغاز في مصر، أي ما يعادل 1.2 مليار متر مكعب يوميا. وسيساهم المشروع بشكل كبير في تخفيف أزمة الطاقة التي تعاني منها مصر، والتي تعدّ أسوأ أزمة طاقة تشهدها مصر منذ عقود. فبعد مرور أربع سنوات من الاضطرابات التي أعقبت أحداث 2011 اختلّ ميزان العرض والطلب في قطاع الطاقة المصري نظرا لارتفاع استهلاك الطاقة وانخفاض الإنتاج مما أدّى إلى تحوّل مصر من مصدّر صاف للطاقة إلى مستورد صاف لها.
وصرّحت الشركة أنها ستوجه جل إنتاج المشروع من الغاز لتلبية الاحتياجات المحلية، بموجب شروط الاتفاق. كما أشارت «بي بي» إلى أنها تملك نحو 65 في المائة من المشروع المشترك.
وقال هشام مكاوي الرئيس الإقليمي لشركة «بي بي» شمال أفريقيا تتوقع «بي بي» مضاعفة إمداداتها الحالية من الغاز للسوق المحلية المصرية خلال هذا العقد عندما يصل مشروع غرب دلتا النيل إلى ذورة إنتاجه.
وذكرت «بي بي» أنه من المقرر إنتاج الغاز من امتيازي شمال الإسكندرية وغرب البحر المتوسط بالمياه العميقة اللذين تديرهما الشركة. وأضافت أنها تعتقد بوجود إمكانية للتنقيب في المستقبل وإضافة ما بين خمسة تريليونات وسبعة تريليونات متر مكعب أخرى قد تعزز إنتاج مشروع غرب الدلتا باستثمارات إضافية.
وقالت «بي بي» إن إنتاج حقليها طوروس وليبرا للغاز سيتم ضخه للسوق المصرية عبر شبكة خطوط الأنابيب البحرية الحالية التابعة لمجموعة «بي جي» والتي تخدم امتياز البرلس.
ومن جهته، قال بوب دادلي الرئيس التنفيذي لمجموعة «بي بي» في بيان يوم الجمعة إن مشروع غرب دلتا النيل هو «أكبر استثمار أجنبي مباشر في مصر ويظهر ثقتنا المستمرة في مصر والتزامنا بالكشف عن إمكاناتها في مجال الطاقة». وأضاف أن: «إنتاج مشروع غرب الدلتا مهم لأمن الطاقة في مصر».
وتعليقا حول العوامل التي شجّعت «بي بي» على الاستثمار في مشروع غرب دلتا النيل يقول الدكتور ممدوح سلامة، خبير النفط العالمي ومستشار البنك الدولي لشؤون النفط والطاقة، لـ«المجلّة» إن: «شركة بريتش بتروليوم تعدّ من كبريات الشركات النفطية في العالم. وتستند شركات مثل بريتش بتروليوم في قرارات الاستثمار في مشروعات النفط والغاز حول العالم على المكاسب المالية والاستراتيجية المتحققة. تمتلك شركة بريتش بتروليوم تاريخا طويلا من النجاح والمنافع المتبادلة مع مصر منذ عام 1965. حيث كانت الشركة مسؤولة عن 40 في المائة من إنتاج النفط في مصر. ووفقا لتلك الخلفية، فإنني لا أستغرب إقبالهم على تنفيذ مشروع غرب دلتا النيل. وذلك لأنهم على معرفة جيدة باحتياطي الغاز الطبيعي الضخم في منطقة غرب الدلتا، وقد وافقت الشركة على إنفاق 12 مليار دولار على تطوير ذلك الاحتياطي ونقله إلى حالة الإنتاج الفعلي. وفي مقابل تلبية الطلب المحلي المصري الكبير على الغاز وإنفاقهم لمبلغ 12 مليار دولار على تطوير احتياطي الغاز، فإن الشركة سوف تحصل على أرباح ضخمة ولعدد من السنوات».
أسس انتقاد الصفقة
استبدال نموذج «تقاسم الإنتاج»
عصفت موجة من الانتقادات بالصفقة التاريخية بين «بي بي» والهيئة المصرية العامة للبترول باعتبار أنها تخدم مصالح عملاق النفط البريطاني فحسب وتحرم مصر من نموذج «تقاسم الإنتاج» الذي اعتمده الجانبان في الماضي، والذي عادة ما تقسّم فيه الأرباح بنسبة (20:80) لصالح الشركة المنتجة. واعتبر موقع «ميدل إيست آي» أن ذلك سيؤدي إلى خصخصة قطاع الغاز المصري لا محالة وإلى سيطرة شركات خاصة على موارد مصر الطبيعية.
في حديث عبر البريد الإلكتروني، أكد توبي أودون، متحدث باسم «بي بي»، لـ«المجلة» أن الغاية من تغيير شروط العقد من نموذج إنتاج مشترك إلى نموذج رسوم وضرائب على الدخل هي ضمان قابلية تطبيق المشروع. يوضّح توبي: «من المستحيل أن يتم تطوير وإنتاج الغاز من تلك الحقول (حقول الغاز الموجودة غرب دلتا النيل) تحت شروط نموذج الإنتاج المشترك واسترجاع تكاليف الإنتاج اللذين كانا معتمدين في السابق. ذلك حيث يصعب الالتزام بمواعيد وكميات الإنتاج المتعاقد عليها دون إعطاء المستثمر (بي بي) الحرية كاملة للتصرف في الميزانية وتحمل مخاطر الاستثمار كاملة لتلبية الالتزامات أو دفع غرامة إذا ما لم يتم تسليم الكميات المتفق عليها حسب الجدول الزمني».
يضيف أودون أن المستثمر يتحمّل كل التكاليف المتعلّقة بالتنقيب والتطوير وعمليات الإنتاج في كلا النموذجين، إلا أن هناك فرقا جوهريا في مرحلة ما بعد الإنتاج. يوضّح أودون: «شروط نموذج الإنتاج المشترك التقليدي تتيح للشركة المستثمرة استرداد جل التكاليف والنفقات التي تحمّلتها خلال عمليات التطوير والإنتاج من خلال آلية استرداد التكلفة المتفق عليه بين الطرفين، ثم يتقاسم الجانيبن (أي بي بي والحكومة المصرية) حصة الربح المتبقية وفقا لشروط الامتياز. أمّا النموذج المعتمد في صفقة غرب دلتا النيل، فيتصرّف فيه المستثمر في 100 في المائة من الإنتاج (الذي تحمّل هو تكاليفه كاملة) ويضعه تحت تصرف الهيئة المصرية للبترول بسعر محدّد ودون آليات استرداد التكاليف».
هل فعلاً تستفيد «بي بي» وحدها من الصفقة؟
وفقا لمذكرة التفاهم بين الحكومة المصرية والشركة البريطانية، ستبيع «بي بي» كميات الغاز التي ستنتجها خلال السنوات الثلاثة المقبلة بسعر يتراوح بين 3 و4.1 دولار للوحدة الحرارية، وهو أقل بكثير من معدل السعر العالمي للوحدات الحرارية والذي يبلغ 10 دولارات.
وأكد أسامة كمال، الوزير المصري السابق للبترول والثروة المعدنية، لـ«المجلة» أن: «مصر ستستفيد من أسعار غاز منخفضة بنسبة تقارب 25 في المائة من أسعار الغاز المستورد، مما سيمكنها من دعم الاقتصاد الوطني. أما (بي بي) فستظل أهم لاعب في قطاع الغاز المصري، خاصة وأنّ مخزون الغاز الموجود في منطقة غرب دلتا النيل سينتج نحو 25 في المائة من إجمالي إنتاج الغاز الوطني الحالي».
[inset_left]• صفقة «بي بي» كانت أفضل الخيارات المتاحة للخروج من أزمة الطاقة الخانقة التي تعاني منها مصر ولتفعيل الاستثمار في حقول غاز غرب دلتا نيل الغنية[/inset_left]
ومن جانبه، يقول ديفيد باتر، كبير خبراء مركز «تشاتهام هاوس» البريطاني والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في حديث مع «المجلة» إن: «كلا من مصر و(بي بي) يستفيدان من شروط الصفقة. ومن المتوقع أن تستفيد (بي بي) من العائدات على استثماراتها، لكن ذلك سيعتمد على عدد من الشروط يذكر منها التزام الشركة بالإنتاج وفق الميزانية والجدول الزمني المتفق عليه، والتزام مصر بدفعاتها بشكل منتظم».
وفيما ينتقد البعض احتفاظ «بي بي» بـ100 في المائة من الإنتاج وبيعه للحكومة المصرية بأسعار محددّة، إلا أن معظم الخبراء يتفقون أن هذه الصفقة لا تعفي مصر من المشاركة في تكاليف الإنتاج الباهظة فحسب، بل تضمن تغطية جزء كبير من الاحتياجات الطاقية الوطنية.
يشير الدكتور سلامة قي هذا النطاق إلى أن: «الحكومة المصرية لم تكن في وضع يسمح لها بخسارة 12 مليار دولار وبتطوير حقول الغاز بمفردها أو حتى تقاسم تكاليف التطوير الباهظة مع شركة بريتش بتروليوم. إذ إن مصر لا تمتلك هذا القدر من المال، وليس بإمكانها تحمل تكاليف ذلك المشروع في أعقاب الاضطرابات السياسية التي أطاحت بالعائدات السياحية المصرية. وعلاوة على ذلك، ومع ضمان شركة بريتش بتروليوم تغطية الاحتياجات المحلية المصرية من الغاز لعدد من السنوات، فلن تشهد مصر أي شكاوى أو مشكلات تتعلق بنقص إمدادات الطاقة محليا. عليك أن تدرك أن مصر، التي كانت حتى أربع سنوات ماضية تصدر الغاز إلى الأردن وإسرائيل، تقوم باستيراد احتياجاتها من الغاز في الوقت الراهن على أدنى تقدير». ويضيف: «وبالتالي، أعتقد أن الحكومة المصرية قامت بما يمكن لأي حكومة مسؤولة فعله للمضي قدما في المشروع وتغطية الطلب المحلي من الغاز من دون المساس بسيادة البلاد على حقول الغاز».
خسائر تقدّر بالمليارات؟
ورد في تقرير موقع «ميدل إيست آي» أن مصر تكّبدت خسائر تقدّر بـ32 مليار دولار على الأقل من الرّبح المحتمل خلال السنوات العشرين الماضية بسبب شروط الاتفاقيات بين «بي بي» والهيئة المصرية العامة للبترول، على حدّ قولهم.
واعترض كلّ من ممدوح سلامة وأسامة كمال وديفيد باتر، على حده، على هذه الفرضية واعتبروها مبنية على أسس ضعيفة للغاية. يقول باتر في هذا النطاق: «لا أعرف كيف تمّ التوصّل إلى هذا الرقم.. لكن يمكن القول إن مصر تكبّدت بعض الخسائر بسبب فشلها في تقديم شروط استثمار جذابة تحُث شركات النفط العالمية على مواصلة استثماراتها وفي إصلاح الدعم الحكومي للطاقة في السابق، مما أدّى إلى معاناة مصر من عجز طاقة مزمن».
[blockquote]
• أعلنت شركة «بي بي» البريطانية، في ثاني يوم من مؤتمر شرم الشيخ توقيع الاتفاقات النهائية لمشروع تطوير خمسة تريليونات متر مكعب من موارد الغاز و55 مليون برميل من المكثفات باستثمارات تقدر بنحو 12 مليار دولار
[/blockquote]
أما ممدوح سلامة، فيرى أن «الحكومة المصرية قامت بما كانت قد تقوم به أي حكومة مسؤولة ذات قدرات مالية محدودة.. ولم تتنازل قط عن أي حق من الحقوق المتعلقة بشبر واحدة من أراضيها لأية جهة». ويضيف: «في ظل الوضع المالي الحالي في مصر، فأنا أعتقد أن تلك الصفقة من أفضل الصفقات التي أبرمتها مصر. وقد كان البديل أن ترفض شركة بريتش بتروليوم استثمار مبلغ 12 مليار دولار على تطوير موارد الغاز المصرية مما يؤدي إلى تفاقم مشكلات نقص الطاقة في مصر في المستقبل وقد يدفع البلاد إلى المزيد من المتاعب والاضطرابات».
ومن جانبه، دافع أسامة كمال عن الصفقة وقال: «صحيح أن هذه الصفقة ليست مثالية، لكنها تعد صفقة جيدة وأولى صفقات الضرائب والرسوم.. هي بداية جيدة تتيح فرصة للتحسّن في الصفقات المقبلة».