لم يخف الوزير علي العمير الذي كان متوجها إلى سيارته على عجل لحضور جلسة مجلس الوزراء، تفاؤله بما يحدث لأسعار النفط؛ حيث أخبر الصحافيين وهم يقفون على بضع خطوات من سيارته أن ارتفاع الأسعار إلى 60 دولارا كان أمرا مفاجئا. وقال العمير: «كل الملاحظات كانت تتكلم عن تحسن في النصف الثاني.. نحن الآن نشهد هذا التحسن في النصف الأول من 2015.. إن شاء الله تعالى يستمر هذا التحسن ونشهد مزيدا من الاستقرار والطلب العالمي».
وفي نفس اليوم وفي عاصمة خليجية أخرى، وهي الدوحة، شارك وزير خليجي آخر وهو الدكتور محمد السادة وزير الطاقة القطري، تفاؤله مع الإعلام بعد صعود أسعار برنت إلى مستويات 60 دولارا بعد أن كانت حتى أواخر شهر يناير (كانون الثاني) تتداول في مستوى قريب من 45 دولارا للبرميل.
ومن حق الوزراء التفاؤل. فمنذ أن التقوا في العاصمة النمساوية فيينا لحضور اجتماع منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) في السابع والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي واتفقوا على أن لا يخفضوا سقف إنتاج المنظمة عن مستوى 30 مليون برميل يوميا، وأسعار النفط لم تعرف اتجاه الصعود.
حقول النفط الصخري
وفي الحقيقة، بدأ الانخفاض منذ يونيو (حزيران) الماضي بعد أن لامست أسعار النفط مستوى 115 دولارا ثم هبطت مدفوعة بارتفاع الإنتاج من خارج «أوبك» أو حتى من داخل «أوبك» في الوقت الذي كان فيه الطلب على النفط مخيبا للآمال والتوقعات العام الماضي. هذه الظروف أدت إلى تكون فائض اختلفت التقديرات حوله ما بين مليون كحد أدنى إلى مليوني برميل يوميا كحد أقصى.
ولكن ما الذي جعل أسعار النفط تحول مسارها من الصعود إلى الهبوط في الأسابيع الأخيرة؟ الإجابة على هذا السؤال ليست عند «أوبك» أو أي من وزرائها بل في حقول النفط الصخري في الولايات المتحدة وفي أروقة شركات النفط العالمية من أمثال بريتيش بتروليوم أو رويال دتش شل وتوتال الفرنسية في أوروبا أو شيفرون وإكسون موبيل وكونوكو فيليبس في الولايات المتحدة.
فالذي جعل أسعار النفط تواصل هبوطها طيلة هذا الوقت هو أن السوق لم تكن متأكدة أن إنتاج الولايات المتحدة بصورة خاصة أو إنتاج النفط من خارج «أوبك» بصورة عامة سيهبط هذا العام حتى يقل الفائض في السوق ويستعيد ميزان العرض والطلب توازنه.
وكانت هناك قناعة بأن النفط الصخري لن يقهر بسهولة وسيظل صامدا أمام مخطط «أوبك» بعد خفض إنتاجها والذي سعت من ورائه لخفض أسعار النفط حتى تخرج جزءا كبيرا من النفط الصخري أو نفط خارج «أوبك» من السوق.
إلا أن القناعات حول النفط الصخري بدأت تتغير في الأسابيع الثلاثة الأخيرة. وبدأت الشقوق والتصدعات تظهر في جدار النفط الصخري منذ أن هبطت أسعار النفط عالميا تحت 50 دولارا للبرميل أواخر شهر يناير (كانون الثاني) الماضي. هذه التصدعات والشقوق هي ما جعلت السوق تبدأ في تغيير قناعاتها وتؤمن بأن توازن العرض والطلب سيحدث لاحقا هذا العام ويتخلص الجميع من الفائض المتراكم الذي لا يزال يظهر جليا في امتلاء صهاريج تخزين النفط في كل الدول في العالم وبخاصة في الولايات المتحدة والتي وصلت مخزونات النفط فيها الأسبوع ما قبل الماضي إلى مستوى غير مسبوق عند 420 مليون برميل والزيادة مستمرة.
تناقص أعداد الحفارات
ومن أول العلامات التي دعمت ارتفاع أسعار النفط حاليا تراجع أعداد منصات حفر النفط في الولايات المتحدة. حيث أظهرت آخر بيانات شركة بيكر هيوز للخدمات النفطية نهاية الاسبوع الثالث من الشهر الماضي أن عدد منصات الحفر الباحثة عن النفط الخام في الولايات المتحدة انخفض بواقع 83 منصة لتهبط إلى 1019 منصة وهو أدنى مستوى لها منذ 3 سنوات على الأقل.
وشهدت أعداد الحفارات التي تحفر بصورة أفقية تناقصا كبيرا في الفترة الأخيرة حيث تم إيقاف ما لا يقل عن 80 حفارة أفقية بحسب البيانات الأسبوعية التي تصدرها شركة بيكر هيوز الأميركية. والحفر الأفقي هو الطريقة التي يتم بها حفر آبار النفط الصخري ولهذا فإن أغلب حفارات الحفر الأفقي في الولايات المتحدة تعمل في حقول النفط الصخري. وتظهر بيانات بيكر هيوز أن معدل التراجع في حفارات الحفر الأفقي هو أعلى مستوى له منذ أن انطلقت ثورة النفط الصخري قبل 6 سنوات.
وفقدت الولايات المتحدة عددا كبيرا جدا من منصات الحفر منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي إذ بلغ إجمالي المنصات التي توقفت عن حفر النفط أكثر من 556 حفارة، بحسب البيانات. وكلما تناقصت أعداد الحفارات فإن هذا يعني تناقص كمية النفط المنتج مستقبلا، وهو ما يعني أن أسعار النفط مرشحة للصعود كما يقول خبير الإنتاج الدكتور سداد الحسيني الذي سبق وأن كان نائب الرئيس التنفيذي للاستكشاف والتطوير في شركة أرامكو السعودية.
ويعتقد الحسيني أن أعداد الحفارات سيهبط إلى نحو 600 حفارة أسبوعيا بنهاية النصف الأول من العام الحالي من المستوى الحالي والذي يتراوح بين ما يزيد قليلا على 1019 حفارة والذي كان يتجاوز 1500 حفارة حتى أواخر العام الماضي.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن بعض شركات النفط الصخري بدأت في إلغاء العقود الطويلة الأجل بالنسبة للحفارات. وفي الشهر الماضي قالت شركة هليمريتش آند باين أكبر شركة لتشغيل الحفارات في أميركا إن 4 عقود حفر طويلة الأجل تم إلغاؤها فيما قالت شركة بيونير إنيرجي إنها خسرت 4 عقود كذلك.
ورغم الهبوط في أعداد الحفارات فإن بعض المصارف الكبرى مثل باركليز ومورغان ستانلي وغولدمان ساكس لا تعتقد أن الإنتاج الأميركي سيهبط بشكل كبير جدا هذا العام وبالتالي لا يكفي لخفض الفائض في السوق بكمية كبيرة. ولا زال الإنتاج الأميركي عاليا عند أعلى مستوياته منذ أكثر من 3 عقود عند ما يقارب 9.3 مليون برميل يوميا.
وقال مصرف غولدمان ساكس في تقرير حديث إن الانخفاض الحالي لأعداد الحفارات «في نظرنا» ليس كافيا كي يهبط الإنتاج الأميركي بصورة كبيرة تعيد التوازن إلى السوق. وأضاف غولدمان ساكس أن شركات النفط الأميركية بدأت في التحوط بشكل كبير في الأسابيع الأخيرة وخفضت أعداد الحفارات التي يتم استئجارها بشكل مؤقت بدلا من الحفارات ذات العقود الطويلة، كما أن بعض الشركات بدأت في البحث عن تمويل من خلال إصدار أسهم لا من خلال الديون، وكل هذا في نظر المصرف قد يؤخر تباطؤ الإنتاج الأميركي قليلا وبالتالي يؤخر إعادة توازن السوق.
أما مصرف باركليز فقد أوضح في تقرير مماثل أن ضعف الطلب سيبقي السوق ضعيفا في الربع الثاني ولهذا لن تصعد أسعار النفط كثيرا وسيبقى الفائض عند مستوى 1.5 مليون برميل يوميا. وأضاف المصرف أن بناء المخزونات بصورة كبيرة في النصف الأول قد يمنع تعافي الأسعار بسرعة في النصف الثاني من العام.
خفض الاستثمارات والمشاكل المالية
ولكن السوق النفطية ليست بهذه البساطة حتى تبني كافة توقعاتها على أعداد الحفارات وحسب، بل إن هناك أمرا آخر ساهم في تغيير قناعاتها حول اتجاه الأسعار وهو الاستثمارات المالية لإنتاج النفط، فمن دون الاستثمار في التنقيب والحفر والإنتاج لن يكون هناك ما يكفي لتعويض الإنتاج الفائت وبالتأكيد لن يكون هناك ما يكفي لزيادة الإنتاج المستقبلي.
فعلى صعيد شركات النفط الصخري فإن العديد منها وبخاصة صغيرة الحجم تعاني من مشاكل مالية كبيرة مع هبوط أسعار النفط. ومشكلة شركات النفط الصخري أن أغلبها إن لم تكن كلها مديونة، حيث أظهرت دراسة أعدتها وكالة بلومبيرغ أن غالبية الشركات استدانت أموالا للحفر أكثر من حجم إيراداتها المتوقعة.
وبدأت بعض شركات النفط الصخري إعلان إفلاسها بسبب عدم قدرتها على تسديد الديون، حيث أعلنت إحدى الشركات الصغيرة المنتجة للنفط الصخري في تكساس واسمها (WBH energy) عن تقدمها بطلب الإفلاس نظرا لأن الدائنين رفضوا تقديم قروض جديدة للشركة، ولا تستطيع الشركة الآن - مع انخفاض أسعار النفط - تسديد ديونها التي تتراوح بين 10 و50 مليون دولار، بحسب صحيفة «وول ستريت جورنال».
ويتوقع موقع «زيرو هدج» أن تتقدم المزيد من شركات النفط الصخري بطلبات للإفلاس، إذ إن الشركات الأميركية زادت ديونها بنحو 55 في المائة منذ 2010 ليصبح إجمالي الديون على هذه الشركات الآن نحو 200 مليار دولار.
وإضافة إلى الديون فهناك احتمالية كبيرة بانخفاض المبالغ المرصودة للاستثمار في عمليات التنقيب والحفر هذا العام من قبل شركات النفط الصخري، إذ قالت شركة كونتننتال ريسورز أكبر شركة منتجة للنفط الصخري في منطقة الباكن في ولاية نورث داكوتا والتي تعد أحد أكبر ثلاث مناطق للنفط الصخري في الولايات المتحدة، إنها تريد تقليص المبالغ المرصودة للإنتاج والاستكشاف بنحو 48 في المائة هذا العام لتصبح 2.7 مليار دولار بدلا من 5.2 مليار دولار بسبب انخفاض أسعار النفط. وتنوي شركات عدة أخرى لإنتاج النفط الصخري تقليص الإنفاق بنحو 20 في المائة على الأقل هذا العام.
ولن يكون خفض الإنفاق حكرا على منتجي النفط الصخري، بل إن الشركات العالمية الكبرى لديها نفس التوجه. وأعلن مؤخرا عملاق النفط شركة بيريتيش بتروليوم أو «بي بي» البريطانية خفض نفقاتها الرأسمالية 13 في المائة إلى 20 مليار دولار في 2015.
وسبق إعلان «بي بي» إعلان آخر لشركة «شيفرون» الأميركية والتي تنوي خفض الإنفاق الرأسمالي 13 في المائة هذا العام إلى 35 مليار دولار. وكانت «شل» من أوائل الشركات الكبرى التي أعلنت تخفيض نفقاتها إذ إنها تعتزم تقليص الإنفاق الرأسمالي بنحو 15 مليار دولار على مدى 3 سنوات مقبلة. أما توتال الفرنسية فستنفق نحو 23 مليار دولار هذا العام بانخفاض 10 في المائة عن العام الماضي.
وفي دافوس في يناير الماضي أوضح كبير اقتصاديي وكالة الطاقة الدولية التركي فتيح بيرول أن بقاء أسعار النفط عند 45 دولارا للبرميل أمر لن يدوم طويلا وأنها لا بد أن ترتفع في النصف الثاني من العام الحالي. وأضاف أن هبوط الأسعار الحالي سيؤثر سلبا على الاستثمارات النفطية والتي قد تتراجع بنحو 100 مليار دولار هذا العام أي ما يعادل 15 في المائة مقارنة بالعام الماضي.
وسيشهد قطاع النفط كذلك تسريح آلاف العمال هذا العام حيث إن شركة شلمبيرجير أكبر شركة لخدمات حقول النفط والغاز في العالم، تنوي تسريح ما لا يقل عن 9 آلاف وظيفة وستقوم شركة هاليبرتون بتسريح الآلاف أيضا.
ورغم كل هذه المؤشرات فمن الصعب التكهن بماذا ستحمله الأيام المقبلة ومدى السرعة التي ستتوازن فيها السوق. ولكن ما زال هناك إجماع على أن الإنتاج سينخفض في الأشهر المقبلة وتحديدا في النصف الثاني من العام الحالي. ويتوقع المحلل الكويتي محمد الشطي أن يصبح الفائض في النصف الثاني نحو 600 ألف برميل يوميا أي ما بين نصف إلى ثلث الفائض الحالي بالسوق.
وقد تعود الأسعار إلى الصعود هذا العام وقد يستغرق الصعود أكثر من ذلك ولكن المؤكد أن هناك تغييرا كبيرا قادما. وحتى نهاية النصف الأول من العام الحالي فإنه من الصعب التكهن بما ستكون عليه الأمور في النصف الثاني من العام.