ما لم يكن متوقعا هو أن تخلو المناسبة من تلك التعليقات السياسية التي عادة ما تطل برأسها عندما يقف مخرج أو ممثل داعيا، على الأقل، لوئام وسلام عالميين.
الأمر ربما كان سيتغير قليلا لو فاز فيلم «سلما»، الذي كان من بين الأفلام الـ8 التي تم ترشيحها لأوسكار أفضل فيلم، إذ ربما سمعنا تعليقا ساخنا من المخرجة آفا دوفيرناي حول الوضع العنصري الساخن حاليا في الولايات المتحدة، ذلك لأن «سلما»، وهو اسم بلدة في وسط ولاية ألاباما، تقع فيها أحداث الفيلم المبنية على وقائع دارت في منتصف الستينات، هو عن العنصرية آنذاك وتم إنتاجه وعرضه بعد الأحداث العنصرية التي دارت في أواخر العام المنصرم.
بين البداية والنهاية
في الواقع «قناص أميركي» و«سلما» على نقيض كامل: الأول يميني والثاني ليبرالي. لكن هذا النقيض لا يضع «سلما» في مواجهة فيلم كلينت إيستوود وحده، بل - إذا ما راجعنا الأفلام الأخرى التي تنافست على أوسكار هذا العام - كلها تناقض «قناص أميركي» على نحو كامل. ليس فقط أن «قناص أميركي» يلقي نظرة فاحصة على حرب العراق من دون أن يدين القرار السياسي الذي أدى إليها أو يقدم الشخصيات العراقية كضحايا فعليين للغزو الأميركي على بلادهم (ولو بحدود)، بل ينتمي الفيلم إلى منوال إنتاج هوليوودي في مقابل إنتاجات مستقلة لشركات صغيرة الحجم، ولو أن بعضها، مثل شركة «فوكس سيرتشلايت» منتجة «بيردمان»، تنتمي إلى مؤسسة «فوكس» الشهيرة.
الفيلم التقليدي حضر بفيلم واحد، والأفلام المستقلة حضرت بـ7 هي إلى جانب «بيردمان» و«سلما»، «بويهود» و«لعبة المحاكاة» و«ذا غراند بودابست هوتيل» و«نظرية كل شيء» ثم «ويبلاش». لكن قبل أن نقرأ أن هزيمة «قناص أميركي» هي هزيمة هوليوودية وقبل أن نعتبرها هزيمة سياسية لا بد من التأكيد على أن هذا الفيلم يبدي ما لا يكنّه. القراءة المتأنية الناتجة عن مشاهدة كل شيء وليس فقط خط الحدث الأساسي، تؤكد أن المخرج إيستوود ما زال على منواله من طرح العنف كنتيجة سيئة لواقع داخلي عنيف. هذا واضح في لقطات بداية الفيلم وواضح من تعليقه على النهاية الفعلية للشخصية الحقيقية كريس كايل (كما لعبها برادلي كوبر). فكريس قتل برصاص مجند أميركي آخر ولو أن إيستوود اختار تصوير مشهد القتل ليجعل من كريس كايل أسطورة.
وما بين البداية والنهاية هناك تمريرات عدة لرجل انهار تحت ثقل الإيمان الذي اعتنقه من أنه يحارب «الإرهابيين» و«المتوحشين» دفاعا عن أميركا. الفيلم يسدد ثغرات في هذه المنظومة فاتت على من أراد فيلما مباشرا في مضمونه لصالح قضيته.
خطب عصماء
التعليق الوحيد الذي تطرق إلى السياسة الداخلية كان ذاك الذي أقدم عليه مقدم الحفل نيل باتريك هاريس الذي بارك، ساخرا، حفلة «أكثر بياضا من بيضاء»، وذلك في نقد لاذع لغياب الأفرو - أميركيين من الترشيحات. عدا «سلما» (الذي فاز فقط بجائزة أفضل موسيقى مؤلفة خصيصا لفيلم) لم يكن هناك أي حضور لمواهب سوداء رئيسة.
لكن، والبعض قد يسأل، هل على حفلة سينمائية كبرى كالأوسكار أن تتحول إلى محراب إعلامي؟ الجواب أن هذا ليس فرضا. الأكاديمية لا توصي أحدا بما يجب أن يقوله على المنصة التي يعتليها. فقط تطلب منه أن يختصر كلامه إلى أقل حد ممكن لأن هناك برنامجا كبيرا من العروض والتقديمات عليه أن يحشر في 3 ساعات ونصف وإن أمكن 3 ساعات فقط.
ما يقال وما لا يقال يبقى شأنا خاصا بالمحتفى بهم، ولهذا السبب ترتفع التوقعات في أن يهبّ أحد ليقول شيئا مثيرا حول قضايا نعيشها طوال 365 يوما وليلة في ليلة واحدة.
حقيقة أن حفل الأوسكار منصة يراها أكثر من 100 مليون شخص حول العالم حال بثها، تجعله مناسبة للتواصل مع العالم بأسره. لذلك تبقى الخطب العصماء التي تنتقد وضعا أو سياسة أو حربا ما في البال لفترة أطول بكثير من مجرد كلمة يشكر فيها الفائز كل المنتجين وكل المخرجين وكل الفنانين والفنيين ويضيف إليهم أفراد عائلته.
[caption id="attachment_55252905" align="alignleft" width="193"] كلينت إيستوود[/caption]
في هذا النطاق لا يزال العالم يتذكر كيف طلب الممثل الراحل مارلون براندو من ممثلة هندية من قبيلة أباتشي، اسمها شاشين ليتلفذرز، أن تلقي خطابه بدلا عنه. ذلك الخطاب الذي أدان فيه السياسة الأميركية تجاه المواطنين الأميركيين الأصليين وذلك سنة 1973 عندما فاز عن فيلم «العراب».
بعد عامين قام المنتج بيرت شنايدر خلال تسلّمه أوسكار أفضل فيلم تسجيلي عنوانه «قلوب وعقول» تناول فيه الحرب الفيتنامية بالنقد، بقراءة رسالة تسلّمها من دينه با ثي، رئيس وفد فييتكونغ لمحادثات السلام في باريس، يشكر فيه المتظاهرين الأميركيين ضد السلام.
لكن أحد أهم المواقف السياسية التي انفجرت على المسرح، ذاك الذي عبرت فيه الممثلة فانيسا ردغراف عن موقفها الواضح حيال القضية الفلسطينية. كانت استقبلت عند الباب بمظاهرة من أعضاء «عصبة الدفاع اليهودية»، وعندما تم إعلان فوزها (عن دورها في «جوليا») لم تترك الاستفزاز التي تعرضت له يمضي هكذا. قالت: «أشكر الأكاديمية التي لم ترضخ لهيمنة زمرة صغيرة من عصابات الصهيونية الذين يهين تصرفهم كيان اليهود حول العالم».
لم يكن في هذه الكلمات ما هو مشين بحق اليهود إذ استثنتهم، لكنه كان بالتأكيد موقفا يدخل في إطار تأييد القضية التي عرف عنها حماسها لها.
الحرب في الوسط
الحرب دائما ما كانت سبب اختلاف الأميركيين بينهم وبين بعض، باستثناء أنها كانت نتيجة ذلك الاختلاف عندما وقعت الحرب الأهلية الأميركية سنة 1861 (واستمرت حتى عام 1865). الواقع أنه حتى دخول الولايات المتحدة الحربين العالميتين الأولى والثانية لم يستقبل بتأييد شامل. حرب فيتنام كانت الأسوأ مما سبقها. هوليوود استجابت لكلا الفريقين: أفلام من جون واين («القبعات الخضر») ومايكل شيمينو («صائد الغزلان») مع الحرب وأخرى من هال آشبي («العودة إلى الوطن») وفرنسيس فورد كوبولا («سفر الرؤيا… الآن») ضدها. العام 1979 كان مثاليا في تناقض الاتجاهات، ففيه فاز فيلم «صائد الغزلان» لمايكل شيمينو بأوسكار أفضل فيلم، وهو مثل «قناص أميركي» يأتي على الحرب من دون نظرة تعاطف لضحاياها، بينما أخفق فيلم «العودة إلى الوطن» للمخرج هال آشبي الذي عارض الحرب الفيتنامية من خلال قصة تدور حول الأثر السلبي على العائدين من رحى تلك الحرب (أيضا مثل ذلك الجانب من فيلم «قناص أميركي»!).
منتجة وبطلة «العودة إلى الوطن» كانت جين فوندا المناوئة للحرب الفيتنامية التي فازت بأوسكار أفضل ممثلة عن دورها هذا. لكن الممثل الرئيس لذلك الفيلم، جون فويت (دور جندي عاد مقعدا)، لم ينَل الأوسكار (بل لم يكن من بين المرشحين). مايكل شيمينو نال أوسكار أفضل مخرج أيضا، بينما لم ينَل (اليساري) هال أشبي أوسكار الإخراج عن هذا الفيلم.
بالعودة إلى أوسكار هذا العام، يتبدى أن الصمت عن القضايا والحروب التي تشغله ليس ناتجا عن جهل، بل تجاهل.
انحسار
هناك انحسار في الاهتمام بشؤون الدنيا. لا شون بن الذي صعد المنصة لتسليم أوسكار أفضل فيلم والمعروف بمواقفه الليبرالية كان مكترثا لإسماعنا شيئا مما يدور في باله، ولا إيناريتو الذي تسلّم الأوسكار مال في حديثه ليتناول أي شأن سياسي. الشأن الوحيد الذي تدخل فيه كان الشأن المكسيكي، فالمخرج المولود هناك تمنى للمكسيك مستقبلا أفضل من ذاك الذي تعيشه وسط جناح أعمال العنف.
[caption id="attachment_55252906" align="alignright" width="300"] «بيردمان».. خال من الشوائب[/caption]
هذا الانحسار في الاهتمام بشؤون الدنيا نتج عنه كذلك توجيه أوسكار أفضل فيلم أجنبي لفيلم يتناول ما حاق باليهود في الأربعينات وما بعد هو «إيدا». كما ذكر مخرجه بافل بافلوفسكي، ليس فيلما عن «الهولوكوست»، لكن كما لم يقل، يبقى فيلما عن مخاض وتجربة اليهود بسببه. هذا التقدير تجاوز فيلما أقوى صنعا هو الروسي «ليفياثان»، وفيلما يطرح موضوع الإسلام المتطرف هو «تومبكتو» للموريتاني عبد الرحمن سيساكو. كلاهما لم ينَل ما يكفي من الأصوات لدعم وصوله إلى الجائزة. وإذا كان الفيلم الروسي معقدا قليلا ويأتي في ظل علاقات مضطربة، فإن التعبير عن عدم الرغبة في إبداء موقف من الدين والسياسة وما بينهما من تجاذب يسود الموقف الناتج عن عدم تمكن فيلم سيساكو من إحراز الأوسكار.
من ناحية أخرى، لا يجب أن ننسى أن «سلما» بحد ذاته، وعلى الرغم من نبل رسالته، كان في الواقع نتاج الرغبة في دخول ميدان الجوائز أملا في الفوز. هو واحد من تلك الإنتاجات التي تنطلق من «دعونا نحقق فيلما يستحق الجوائز وليكن عن العنصرية، فهو موضوع رائج»، وذلك واضح من خلال أنه أتى سريعا في أعقاب الفيلم الفائز بأوسكار العام الماضي «12 سنة عبدا» الذي دار حول الرق والعبودية في التاريخ الأميركي. من ناحية لا نستطيع لوم صانعي «سلما» لرغبتهم في الوصول، ولا تجاهل أن غايتهم كانت احتفائية. مشكلة صانعيه أنهم نسوا أن أعضاء الأوسكار لا يمنحون الجائزة للموضوع نفسه مرتين على التوالي.