هذه التفاهمات في الحقيقة تساوي في أهميتها الوثائق الحاكمة للعلاقات الدولية، ومنذ تدشين «سياسة الوفاق» في سبعينات القرن الماضي، وهي تشكل صمام أمان في العلاقات الدولية، وقد أعيد ترسيم حدودها قبل انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينات القرن الماضي. فقبل هذا الحدث التاريخي عُقدت قمة شهيرة بين الرئيس الأميركي رونالد ريغان ونظيره السوفياتي ميخائيل غورباتشوف. لكن هذه التفاهمات الضمنية في السنوات القليلة الماضية (وبالتحديد منذ الإطاحة بنظام صدام حسين عسكريا عام 2003) «تتآكل»، وهي قبل أن ينصرم هذا العام استنفدت بتعبيرات الاقتصاديين «منفعتها الحدية». ويحدث هذا الانهيار في ظل اضطرابات واسعة تمتد من تونس إلى العراق.
وفي خلفية المشهد العالمي هناك أزمة اقتصادية عالمية تتجه نحو الأسوأ، فحسب تصريحات في نوفمبر لرئيس الوزراء البريطاني - لها ما يماثلها - فإن «المؤشرات سلبية على جدول الاقتصاد العالمي» بعد 6 أعوام من الأزمة المالية؛ فأوروبا تعاني كسادا اقتصاديا أسهم في صعود اليمين المعتدل والمتطرف على السواء، وقد كادت الأزمة تكتب شهادة وفاة اليورو، وأطاحت عواصفها باليونان، وتركت بصمات شديدة الوضوح في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال، ويكفي هنا لندرك عمق الأزمة - عالميا - أن نتوقف أمام الصدمة التي أحدثها تضخم الدين العام الياباني، فالدولة التي كانت تُعدّ خلال النصف الثاني من القرن الـ20 معجزة اقتصادية، أفاقت في نوفمبر على بلوغ ديونها 10 تريليونات ونصف التريليون دولار!
موسكو في مواجهة «الأعدقاء»
وقد شهد العام - اتصالا بسابقه - احتدام الصراع بين روسيا وأعدقائها (الأصدقاء - الأعداء) على أوكرانيا، ففي مارس (آذار) وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوم ضم شبه جزيرة القرم بعد استفتاء وصفه الغرب بـ«غير المشروع»، ليلتهم بذلك فعليا جزءا من أوكرانيا، في إجراء تحدى به القانون الدولي، وتحدى به أيضا «أعدقاء روسيا» شرق الأطلنطي وغربه؛ فبعد أن نجح - مؤقتا - في وقف توسع حلف شمال الأطلنطي شرقا، عادت التحولات لتطرق أبواب روسيا مرة أخرى، وبعد أن كانت سيطرته التامة على أوكرانيا ضمانا لأمن روسيا القومي (حسب تصور موسكو)، أصبح مضطرا لقبول واقع جديد، حده الأقصى أن يخسر أوكرانيا نهائيا، وأن تصبح روسيا مجرد دولة عادية، وتطوي، إلى أجل غير مسمى، صفحة «القوة الكبرى»، فضلا عن قبول أن تقف قوات حلف الأطلنطي على حدودها، وحده الأدنى حاكم موسكو أن يقبل الغرب «اقتسام» أوكرانيا معه.
[inset_right]روع العالم في 2014 باختفاء طائرة ماليزية وإسقاط أخرى في الأجواء الأوكرانية وشاهد فيديوهات الذبح التي أطلقته «داعش»[/inset_right]
وقد لوحت موسكو بكل ما تعتبر أنه أوراق ضغط على كييف والعواصم الغربية بالاشتراك المباشر في القتال مع الانفصاليين في شرق البلاد أو تزويدهم بالسلاح والدعم المادي والاستخباراتي، وصولا إلى الحشد العسكري على الحدود الأوكرانية. وقد أصبحت روسيا خلال العام أمام مفترق طريق؛ إما أن تقبل حقيقة أن روسيا دولة بلا «مجال حيوي» (بالتعبير النازي) وبلا مناطق نفوذ، وإما أن تخوض في مواجهة الغرب حرب تكسير عظام قد تنتهي بما هو أسوأ.
هذا المتغير الكبير - للأسف - لا يكاد الإعلام العربي يوليه ما يستحقه، صحيح أنه متغير لم يصل بعد إلى مرحلة الانفجار، لكنه وثيق الصلة بمستقبل الاقتصاد العالمي، خاصة مستقبل الطاقة، وهو من ناحية أخرى سيكون له تأثيره في مصير الصراع الدائر على مستقبل المنطقة العربية وتخومها، من طهران إلى تونس، ومن كوباني إلى الخرطوم. فقبل نهاية العام بقليل كُشِف للمرة الأولى عن جانب من فاتورة العقوبات الغربية على موسكو: احتياطي موسكو من العملة الأجنبية يخسر مائة مليار دولار.
وفي الوقت نفسه تتخذ موسكو قرارا بتدشين كيان إعلامي ضخم (سبوتنيك) لتعزز احتمال عودة أشباح الحرب الباردة بما تستتبعه من صراعات نفوذ لم يكن الشرق الأوسط بعيدا عنها أبدا، خاصة أن موسكو تصطف تقليديا ضد كل مساعي التغيير، وهو ما يعكسه تصريح للرئيس الروسي يحذر فيه من «الثورات الملونة».
عام صراع الأهلة
وفي النطاق الجغرافي نفسه الذي شهد «ثورات الربيع العربي» - وهي ضمن ما يعنيه بوتين بالثورات الملونة - ثمة صعود لا سابقة له للإرهاب من الموصل إلى قلب سوريا، ومن درنة الليبية إلى سيناء المصرية، صحيح أن الوتيرة متفاوتة، لكن الحجم ودرجة الوحشية والاتساع المتسارع لمساحة الأرض التي استطاعت هذه التنظيمات الاستيلاء عليها تبقى مؤشرا خطيرا. ويكفي أن يُشار هنا إلى أن ما يقرب 40 في المائة من أراضي سوريا خارج سيطرة النظام، صحيح أن هذا لا يعني وصم كل الفصائل التي تقاتله بالإرهاب، لكنه يعني أن «الدولة» تتراجع في قسم من الجغرافيا العربية لحساب واقع آخر يحمل في طياته نذرا خطيرة، إما لجهة كونه واقعا إرهابيا إقصائيا لا يتورع عن استخدام الإبادة، ويصل في الوقت نفسه إلى حدود التعاون التام مع ظواهر الجريمة المنظمة، أو لكونه واقعا يفتقر إلى القدرة على توفير أبسط مقومات الحياة لمن يخضعون لسلطته.
[caption id="attachment_55252561" align="alignright" width="300"] الهلال الأحمر الفرنسي ينقل فتاه ليبيرية مصابة بفيروس إيبولا إلى أحد مراكز العلاج[/caption]
وقد أصبحت أجزاء كبيرة من الحوض الجغرافي العربي وتخومه في قلب قوس قزح من الأهلة: «هلال سني»، «هلال شيعي»، «هلال الربيع العربي»، وفي نهاية الشوط أصبح هناك «هلال الإرهاب». وفي خضم صراع الأهلة، وعلى ذكر الاختبار الذي تواجهه «الدولة» كوحدة تصنيف في السياسة الدولية، تواجه عدة دول خطر البقاء بسبب أزمة مزدوجة، أحد وجهيها التهديد الإرهابي، ووجهها الآخر غياب الكفاءة، وهنا تحضر أمثلة كثيرة من غرب أفريقيا التي اهتزت فيها دعائم أكثر من دولة، إما بسبب إرهاب «بوكو حرام»، التي روعت العالم خلال هذا العام بعدة حوادث اختطاف لطالبات، وامتد نشاطها إلى الكاميرون، أو بسبب فيروس «إيبولا» الذي أوقع عدة آلاف من الوفيات ودفع عدة دول في غرب أفريقيا إلى فرض تجول هو الأول من نوعه لأسباب صحية. وقد أثار الـ«إيبولا» من الرعب ما جعل «منظمة الصحة العالمية» تصفه بأنه أكبر تهديد صحي عرفته البشرية في العصر الحديث.
وقد أكدت أحداث هذا العام المشحون بالتوتر أن مشكلة الإرهاب أكثر تعقيدا بكثير مما كانت تبدو خلال سنوات مضت، فمنذ أحداث الـ11 من سبتمبر 2001 والعالم يشهد دورات من النشاط والكمون فيما يتصل بهذه الظاهرة، وقد جاء استيلاء ما يسمى «تنظيم «داعش» في العراق والشام» (داعش) على الموصل ثاني أكبر مدن العراق في يونيو (حزيران)، ليقرع أجراس إنذار دوّت في عواصم الغرب والشرق معا، فهذا الحدث المفصلي أيقظ وحوشا لم تتوقف حتى الآن عن تمزيق الخرائط وإراقة الدماء وزرع الخراب في قوس من الاضطراب يهدد بالامتداد في نطاق جغرافي تنام تحت رماده صراعات هوية منخفضة الوتيرة لا يكاد يحصيها عد!
وكما هو متوقع دفعت الحلقة الأضعف أفدح ثمن، إذ تواجه الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية والإثنية، في سوريا والعراق معا، أهوال التهجير والإبادة وسبي النساء.. إلخ، وأما التاريخ فدفع ثمنا أدخل إلى قاموس علم الآثار تعبير «آثار الدم»، هذه التجارة غير المشروعة التي أفقدت السوريين بعض أهم آثارهم وأقدمها على الإطلاق، إذ جرى نهبها وتهريبها لتمويل آلة القتل!
تنظيمات الإرهاب.. وإماراته
و«داعش» التي أصبحت تسيطر على مساحة من الأرض لم يسبق لتنظيم إرهابي أن استولى عليها دفعت آخرين للإعلان عن إمارات إسلامية أخرى من إمارة القاعدة في جنوب اليمن، في يوليو (تموز) إلى إمارة بوكو حرام في أغسطس (آب). لكن «خلافة داعش» تظل أيقونة الرعب الأكثر شهرة، وهي تاليا أدت إلى نتيجتين: أولا إطلاق منافسة مع (القاعدة) التي وجدت نفسها تفقد بريقها إلى حد كبير، وفي الوقت نفسه اجتذاب تنظيمات إرهابية عدة من اليمن إلى شمال أفريقيا وصولا إلى سيناء المصرية، أعلنت ولاءها لـ«داعش» التي انفتحت شهيتها لتعلن - بعد أن أعلنت تأسيس ما يسمى «خلافة إسلامية» - ضم دول إلى هذه الخلافة بينها مصر، ولتظهر راياتها السوداء في «درنة الليبية» على مسافة مائتي ميل من شواطئ أوروبا الجنوبية.
وتواجه أوروبا في الحقيقة تحديا جبارا يترتب على التطورات في الشرق الأوسط وبالتحديد جنوب المتوسط، فمن هذه الشواطئ تأتي موجات من الهجرة غير الشرعية أصبحت خلال 2014 صداعا مؤلما، وأصبحت الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية جنوب المتوسط وجنوب الصحراء الكبرى تنذر بزيادة كبيرة في الظاهرة التي تهدد الأمن والاقتصاد والهوية. وعلى صعيد الأمل، خطت أوروبا بالفعل خطوات تستكمل بها ما سعت إليه قبل ثورات الربيع العربي، بتدشين أحلام إضاءة القارة الأوروبية بطاقة يتم توليدها من شمس أفريقيا الساخنة.
لكن إرهاب جنوب المتوسط هو الآخر.. لا يقل سخونة!
وتكشف تطورات ملف الإرهاب خلال العام الماضي حقائق مهمة؛ فالخلاف حول تعريف الإرهاب، وبالتالي المنظمات التي ينبغي وصفها بالإرهاب، خلاف لم يزل مؤثرا في فعالية التعاون متعدد الأطراف - دوليا كان أو إقليميا - في مواجهة الظاهرة، وخلال العام وضعت منظمات على لائحة الإرهاب ليثير إدراجها خلافا، فثمة منظمات مسلحة سورية يثير استحقاقها وصف «الإرهابية» خلافات إقليمية ودولية، وثمة ظواهر مسلحة تستند إلى أساس اجتماعي أو مذهبي تثير خلافا بين عواصم عدة، لعل أشهرها جماعة الحوثيين في اليمن. أما إدراج جماعة الإخوان المسلمين ضمن المنظمات الإرهابية في مصر والسعودية والإمارات فيثير نقاشات عربية أوروبية وعربية أميركية حول ضرورة إدراج الجماعة على لوائح الإرهاب، وهو ما لم يكن محل وفاق حتى الآن.
المالكي والسيسي وخامنئي.. والنووي
وقد شهد العام تحولات - ويرتقب العالم أخرى - في دول عدة؛ ففي مصر انتخب المشير عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع السابق رئيسا للجمهورية في يونيو، بعد عزل أول رئيس منتخب وأول رئيس من جماعة الإخوان المسلمين لأول مرة منذ تأسيس الجماعة، وشهدت الفترة التي تفصل عزل المعزول وتنصيب المنتخب تدافعا سياسيا تتابعت معه في مسارٍ موازٍ عمليات إرهابية متفاوتة الحدة في سيناء والقاهرة وعدد من المدن المصرية، بينها اعتداءان إرهابيان كبيران في واحة الفرافرة غرب البلاد في يوليو (تموز)، ومنطقة كرم القواديس أكتوبر (تشرين الأول).
وفي العراق، طويت في أغسطس (آب) صفحة حكم رئيس الوزراء المثير للجدل نوري المالكي الذي حكم البلاد بلا انقطاع منذ عام 2006، وكانت فترة حكمه شهدت عودة متصاعدة للاستقطاب الطائفي في العراق تحولت في الفترة الأخيرة من حكمه إلى ثورة شعبية حقيقية في المحافظات السنية التي كانت تعاني مختلف أشكال التمييز والتهميش، مما جعل بعض مكوناتها القبلية والسياسية والدينية تستجير من الرمضاء بـ«داعش».
[inset_left]شهد عام 2014 حربا على غزة أسفرت عن مقتل أكثر من ألفي فلسطيني، منهم 530 طفلا، و302 امرأة[/inset_left]
وكان مطلب إقالة المالكي قد تحول خلال الفترة الأخيرة من حكمه إلى ما يشبه المطلب «الوطني»، الذي ساندته بقوة مختلف ألوان الطيف السياسي العراقي، فضلا عن تأييد ظاهر من أطراف إقليمية ودولية، أهمها واشنطن التي علقت - صراحة - مساعدتها للعراق في مواجهة «داعش» بتشكيل حكومة تعددية، في إشارة واضحة إلى ضرورة تنحيه عن المنصب.
وبعد غياب المالكي عن المشهد بقليل، بدأت التكهنات عن احتمال غياب مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي (ولد عام 1939) الذي نُشرت له صورة في فراش المرض لتعزز المعلومات غير الرسمية عن حالته الصحية. وبحكم الدستور الإيراني يُعد المرشد الرقم الأول والأهم في الدولة الإيرانية، وهو منصب مكّن شاغله دائما من الإمساك بالقرار الإيراني. وسيعيد غيابه المرجح إلى الواجهة التدافع المستمر منذ سنوات بين المتشددين والمعتدلين، لا سيما أن هذا الغياب المحتمل يتزامن مع استحقاقات شديدة الحساسية إقليميا ودوليا، تتصل بمستقبل النظام السوري، المشروع السياسي للحوثيين في اليمن، والتحديات الجسيمة في العراق، والأهم الملف النووي الإيراني الذي شهد التفاوض حوله انفراجة أعقبت وصول حسن روحاني لمنصب الرئيس، تلتها انتكاسات تنذر بنفاد الوقت أمام الخيار التفاوضي.
فبعد اتصال هاتفي «تاريخي» في سبتمبر (أيلول) 2013 بين الرئيس الأميركي باراك أوباما ونظيره الإيراني حسن روحاني انطلقت عجلة جولة مفاوضات أحيطت بهالة كبيرة من التفاؤل، وتتابعت لقاءاتها في عواصم عدة لتصل إلى طريق مسدود. فالمعلن رسميا أن المفاوضات لا تشمل أي قضايا أخرى، ولن تشمل أي مقايضات على أي ملفات أخرى إقليمية أو غير إقليمية، وأن إيران لا تريد سوى الاعتراف بحقها في الطاقة النووية السلمية، ولكن ما تؤكده الشواهد أن إيران تريد الإقرار بحقها في نفوذ إقليمي معترف به من الغرب، وترفض منح الغرب ضمانات بعينها للتحقق من سلمية البرنامج، بينها حق التفتيش المفاجئ وحق دخول منشآت بعينها.
الاقتصاد يتأزم وواشنطن بيد الجمهوريين
وفي حين يرى كثير من المحللين أن طهران تجيد لعبة شراء الوقت مع الغرب، فإن القاعدة في الحقيقة ليست مطلقة، والوقت الذي يمكن شراؤه ليس بلا سقف، فالولايات المتحدة الأميركية تحت حكم رئيس ديمقراطي مثل باراك أوباما شيء مختلف تماما عن شكل الولايات المتحدة الأميركية الذي ترجحه الشواهد في حال دخل البيت الأبيض رئيس «جمهوري» في انتخابات عام 2016. بل إن التحولات بدأت بوادرها بالفعل مع حيازة الجمهوريين في نوفمبر الأغلبية في مجلس الشيوخ، بالإضافة إلى أغلبية في مجلس النواب، ولعل من اللفتات المهمة في هذا السياق، أن الأعضاء الجمهوريين في مجلس الشيوخ استهلوا معاركهم مع أوباما بتحذير شديد من احتمال عقد «اتفاق ضعيف» حول النووي الإيراني.
وكان عام 2014 العام الأكثر إيلاما لإدارة أوباما التي واجهت اتهامات قاسية داخليا وخارجيا على خلفية ما نجم عن سياساتها الخارجية، فأحد النواب الأميركيين البارزين قال إنه لو كان في البيت الأبيض رئيس جمهوري الآن لوجه لكمة لأنف الرئيس الروسي بوتين وأسال منه الدم!
أما الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، فانتقد - برفق - تمهُّل إدارة أوباما في التعامل العسكري مع الأزمة السورية محملا إياها - ضمنا - المسؤولية عن تمدد تنظيم داعش، أما وزراء الدفاع الأميركيون (السابقان روبرت غيتس وليون بانيتا والحالي تشاك هيغل) فقد وجهوا انتقادات متفاوتة الحدة للرئيس وإدارته، وجميعها مؤشرات على أن السياسة الأميركية سوف تتجه، على الأرجح، نحو مزيد من منطق الصقور، وما تصريحات أوباما المتأخرة عن احتمال أن يكون نجاح استراتيجية مواجهة «داعش» مرتبطا بالإطاحة بنظام بشار إلا بادرة تحوُّل. ومع هذا التحول الذي انطلقت عجلته بالفعل، فإن ملفات بعينها ستكون مرشحة أكثر من غيرها لأن تشهد تشددا أميركيا، في مقدمتها المفاوضات حول الملف النووي الإيراني.
عرب الربيع.. واللهيب
عربيا، شهد العام تحولات كبيرة في اتجاهات تنطوي على مفارقات، بل كانت حتى وقت قريب تنذر بصراعات عربية - عربية ضارية، فالربيع العربي أطلق صراعات هوية قديمة - جديدة اصطفت خلف رايته أنظمة خاضت أذرعها الإعلامية معارك ضارية، حتى أطلق العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، في نوفمبر (تشرين الثاني) مبادرة وفاق عربية تتضمن تهدئة وامتناعا عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول. والاصطفاف، كما يعكس سمات انقسام ثقافي سياسية عربي قديم (يجري تلخيصه غالبا بثنائية إسلامي - علماني)، فإنه يعكس واقعا جديدا وُلد مع ثورات الربيع العربي، وسرعان ما اصطدم بحقائق اجتماعية وسياسية لها رصيد كبير في الواقع العربي.
ففي مصر مثلا، نجم عن فشل تجربة الإخوان المسلمين في الحكم تداعيات داخلية وإقليمية تجاوزت ما هو سياسي، فالتجربة في ليبيا، مثلا، آلت إلى ما يشبه الكابوس السوداوي، وأصبحت وحدة الدولة نفسها في مهب الريح، فضلا عما أصبحت تمثله من مصدر للخطر على دول الجوار العربية ودول أفريقيا جنوب الصحراء. فهي بسبب ترامي وغياب الضبط عن هذه الحدود تسببت في إغراق عدة دول بالسلاح. وقد شهد عام 2014 انتخاب البرلمان الليبي في يوليو لتضع نتائجه بذور تجذر الصراع في ليبيا، بين مشروعين وعاصمتين وسلاحين وكيانين سياسيين؛ أحدهما قاعدته بني غازي، والآخر قاعدته طرابلس، أما إقليم برقة فلم يعدم من أبنائه من يعلن الانفصال بعد حكم المحكمة الدستورية الليبية ببطلان البرلمان الذي ينعقد في الإقليم.
[caption id="attachment_55252560" align="alignleft" width="300"] الرئيس الأميركي باراك أوباما يغادر المؤتمر الصحافي الذي عقده في البيت الأبيض للتعليق على التوترات بين روسيا وأوكرانيا – أبريل الماضي (غيتي)[/caption]
وتظل تونس التي أنجزت الاستحقاق الثاني في حقبة ما بعد بن علي بانتخاب البرلمان في أكتوبر لتستعد بعد قليل لانتخاب رئيس الدولة، بينما مسار التحول في مصر لم يشهد سوى إقرار الدستور وانتخاب الرئيس، رغم مرور الأجل القانوني المنصوص عليه في خارطة الطريق، فضلا عن حالة من الاستقطاب المتعدد الأوجه: آيديولوجي، سياسي، وجيلي. فالإسلاميون - حتى بعد سلسلة أحكام قضائية وإجراءات إدارية - لا يزالون يطمحون إلى تغيير الوضع السياسي المصري جذريا، وبقايا «الحزب الوطني» المنحل يعاودون إعادة إطلاق أنفسهم منافسا محتملا في الانتخابات البرلمانية المقبلة، أما الشباب - خاصة في الجامعات - فتشعر شرائح ليست قليلة منهم بأنهم يتعرضون لإقصاء سياسي يتعارض تعارضا تاما مع ما أطلقته ثورة الـ25 من يناير من توقعات إزاء مستقبل دورهم السياسي، وهم، فضلا عن ذلك، تحولوا إلى «ملف أمني»، وهو ما يستثمره الإخوان المسلمون في إطلاق حراك طلابي معارض كان خلال 2014 أحد أكثر سمات المشهد السياسي المصري وضوحا.
أما الهلال الخصيب (سوريا والعراق) فكان خلال العام ساحة المآسي الأكثر إيلاما ودموية، فتنظيم داعش أطلق بتوسعه السريع المباغت عراقيا وسوريا سلسلة من المآسي المتتالية طالت العديد من الأقليات الدينية والمذهبية والإثنية، وصلت أحيانا إلى حد الاقتلاع التام من أراضيهم التاريخية وإلقائهم في هاوية المجهول. ويمكن القول إنه، حتى دخول «داعش» الموصل في يونيو، لم يكن الحال في العراق على النحو الذي آل إليه خلال الأسابيع القليلة التي تلت ذلك، فالحدود السورية العراقية أزيلت، والرصاص يدوي في الرمادي ونينوى وكردستان العراق، فضلا عن موجات تفجيرات متتالية شهدتها بغداد وكثير من المدن الشيعية.
وفي تحول مباغت أيضا، سيطرت جماعة الحوثيين في اليمن خلال سبتمبر وأكتوبر على العاصمة صنعاء، وتمددت بسرعة خاطفة في عدد من المحافظات اليمنية بعد أن ظلوا لعقود لا يغادرون معقلهم التاريخي (صعدة)، وتعد هذه المرة الأولى في تاريخ الدولة اليمنية الحديثة التي يتمدد فيها مكون مذهبي على هذا النحو، وهو تمدد تزامن مع انقسام عميق في اليمن ونشاط عسكري لتنظيم القاعدة يستثمر الاضطراب السياسي ودعوات انفصال الجنوب.
مشهد فلسطيني
رغم تغير العنوان الرئيسي الذي يشغل العالم - لحظيا - ما بين أزمات سياسية أو اقتصادية، أو حتى صحية، من هذه البقعة من العالم أو تلك، فإن فلسطين تظل أحد أهم صراعات القرن الحالي، كما كانت أحد أهم صراعات النصف الثاني من القرن الذي سبقه. ولا تعنى الحالة الرمادية التي تمر بها، أو حتى تراجعها المؤقت لتحتل مكانها قضايا أخرى أنها فقدت أهميتها أو أولويتها. والحالة الرمادية المشار إليها تنذر بعواقب وخيمة، فلسطينيا، بسبب تكرار إخفاق مساعي الوحدة الوطنية الفلسطينية بين غزة ورام الله بتعقيداتها المعروفة، وعربيا بسبب حالة التوتر بين القاهرة وغزة منذ عزل الرئيس المصري محمد مرسي، وعلى حدود التماس العربية الإسرائيلية تتكاثف النذر العديدة التي تطلقها سلوكيات المستوطنين وحكومة نتنياهو معا في قضايا الاستيطان، وتقنين «يهودية الدولة»، والعدوان على المسجد الأقصى، والجمود المزمن في مساعي الحل النهائي للصراع.
وقد شهد عام 2014 حربا على غزة أسفرت (حسبما تشير إليه إحصائية نهائية أعدها «المرصد الأورومتوسطي») عن مقتل أكثر من ألفي فلسطيني، منهم 530 طفلا، و302 امرأة، و23 قتيلا من الطواقم الطبية، و16 صحافيا، و11 قتيلا من موظفي «أونروا» التابعة للأمم المتحدة. وبحسب المصدر نفسه، بلغت الحصيلة النهائية للجرحى أكثر من 10 آلاف، بينهم نحو ألف طفل على الأقل سيعانون إعاقة دائمة. وقد نفذ الجيش الإسرائيلي خلال هذه الحرب التي امتدت لأكثر من 50 يوما، 8210 هجمات صاروخية، و15736 هجوما بالقذائف البحرية، و36718 هجوما بالقذائف المدفعية. أدى هذا إلى تدمير 17132 منزلا، منها 2465 منزلا دُمّرت بشكل كلي، و14667 منزلا دُمّرت بشكل جزئي، إضافة إلى 39500 منزل لحقت بها أضرار. كما تسببت الهجمات الإسرائيلية بتدمير 171 مسجدا، دُمّر 62 منها بشكل كلي، و109 بشكل جزئي.
1914 - 2014
لقد كان 2014 بالفعل عام اختبار عسير للبشرية روعت فيه باختفاء طائرة ماليزية مدنية بشكل غامض في مارس (آذار) وإسقاط أخرى يوليو في الأجواء الأوكرانية، وتشاهد من فيديوهات الذبح التي أطلقته «داعش» ما يستحيل احتماله إنسانيا. ولا شك في أن التاريخ لا يكرر نفسه وإن تشابهت المحن، فالبعض رأى في كون العام هو ذكرى مرور 100 عام على بدء الحرب العالمية الأولى نوعا من «الفأل السيئ»، وها هو الدم يعزز تشاؤم هؤلاء، وهو طبعا غير مبرر، لكنه مفهوم. فالألم هو الحقيقة التي لا يكاد ينكر أحد أنها سمة مميزة للعام الماضي، سواء كانت هذه الآلام آلام مخاض يعقبها ميلاد عالم أجمل أو أفضل، أو آلام معاناة لن يجني منها ضحاياها إلا الألم.
ويبقى التفاؤل مستحقا (أولا وأخيرا)، أملا في رحمة الله سبحانه وتعالى مهما ساءت الأحوال في عالم الأسباب!