
في كثير من الحالات، تصبح منظمات المجتمع المدني مجالا لمناقشات وخلافات حول قضايا ومبادرات تتعلق بالسياسات. وفي حالات أخرى، يتحول التعامل مع منظمات المجتمع المدني إلى تصفية حسابات سياسية. وقد شاهدنا في مصر كيف تعرضت منظمات المجتمع المدني لإجراءات صارمة لدى الاشتباه بوقوعها تحت نفوذ حكومات أجنبية – سواء اتهمت بأنها ناطقة باسم هذه الحكومة أو الأسوأ من ذلك أن تتهم بالعمالة. وأحيانا لا تقوم هذه الاتهامات على أي أساس في الواقع، ولكنها كانت وسيلة للحكومة التي تبحث عن كبش فداء وعن تشتيت الانتباه عن مشكلات أخرى.
منظمات المجتمع المدني الروسية
ولا تقتصر هذه المشكلة على العالم العربي. ففي أبريل (نيسان) عام 2013، طالبت منظمات مجتمع مدني روسية الرئيس فلاديمير بوتين بإثبات صحة ادعائه بأن المنظمات في بلاده حصلت على نحو مليار دولار أميركي من رعاة أجانب. وكان بوتين أعلن هذا الادعاء لتبرير عمليات اقتحام لمئات من مقار منظمات المجتمع المدني الروسية، مما تسبب في توجيه انتقادات قوية له من الغرب. وأصر بوتين على أن المداهمات كانت ضرورية للتأكد من الالتزام بالقانون الجديد الذي يشترط على المنظمات التي تتلقى تمويلا أجنبيا وتشترك في أنشطة سياسية ذات تعريفات فضفاضة أن تسجل بصفتها «وكالات أجنبية». وادعى بوتين أن منظمات المجتمع المدني الروسية حصلت على مليار دولار من الخارج، وأن الشعب له الحق في معرفة من يمولها. ولكن نفت منظمات مجتمع مدني كبرى هذا الادعاء.
في روسيا يمنح قانون الإجراءات المدنية الروسي صلاحيات للمدعي العام في الدولة برفع دعوى قضائية مدنية «دفاعا عن الحقوق والحريات والمصالح المشروعة للمواطنين أو الشعب بأكمله أو مصالح الاتحاد الروسي».. وبدأ المدعون في استخدام هذه الصلاحيات ضد منظمات المجتمع المدني من أجل إجبارها على التسجيل بصفتها «وكالات أجنبية».
ليبيا في عهد القذافي
وتحمل كلمة «وكالة أجنبية» في روسيا معاني خطيرة؛ إذ ترتبط بعمليات التجسس في عصر الحرب الباردة، ويتعرض الوصف لانتقادات في روسيا وعلى المستوى الدولي، لما يمثله ذلك من انتهاك لحقوق الإنسان واستغلاله في قمع جماعات المعارضة. ولا يتوقف الأمر عند الإساءات التي تتعرض لها منظمات المجتمع المدني من جهة الحكومات من أجل تصفية حسابات سياسية، بل أحيانا ما تكون هذه المنظمات في مقدمة الجماعات التي تتأثر أعمالها بالتغييرات التي تطرأ على الحكومة والسياسات وانتشار العداءات.
في العراق، كما في دول عربية أخرى (مثل ليبيا)، كان هناك مجتمع مدني صغير غير منظم في عهد الديكتاتور. وبعد سقوط صدام والغزو الأميركي للعراق، ظهر العديد من منظمات المجتمع المدني. وعلى الرغم من عدم افتقار هذه المنظمات للطاقة، فإن كثيرا منها لم يملك خبرة مهمة، وهو أمر يمكن فهمه. كانت هناك فرص ضئيلة في عهد صدام والقذافي، وحرية أقل لممارسة أعمالها. ولم تكن هناك إمكانية للتعلم وتبادل الخبرات مع آخرين في مناطق أخرى من أجل اكتساب المهارات اللازمة. كانت هذه المنظمات المدنية الناشئة عاجزة باستمرار عن تقديم نتائج ملموسة في مجتمعاتها المحلية، وكانت تعاني من أزمة مصداقية بين السكان على نطاق واسع. ولم يكن غريبا أن ينشئ أي شخص منظمة مجتمع مدني لأنهم لم يكونوا يملكون مسارا مهنيا فعليا، أو لأنهم وجدوا الأمر فرصة للحصول على دخل.
ساحة المجتمع المدني العراقية
فاقم من مشكلة فقدان المهنية في ساحة المجتمع المدني العراقية تدفق مبالغ مالية طائلة إلى العراق، وكانت غالبا من الجانب الأميركي. لم تكن منظمات المجتمع المدني التي تمتلك مهارات وقدرات محدودة تستطيع أن تعمل بين عشية وضحاها بفاعلية كبيرة وتدير نشاطا بصورة جيدة وتحقق تأثيرا ظاهرا في المجتمع المعني. كان هناك في بعض الأحيان عجز عن إدراك فكرة أن ضخ الأموال إلى منظمة مجتمع مدني لا يعد ضمانة لتحقيق النجاح. ولكنه يعني أن الجهة المانحة تستطيع أن تقول إنها نفذت بنودا ضرورية، مما يوحي بأنها تؤدي دورها في تقوية المجتمع المدني.
انعكست هذه السياسة المعيبة التي انتهجتها الولايات المتحدة على مستويات متعددة في سياق ما بعد الغزو، ولم يقتصر الأمر على منظمات المجتمع المدني فحسب. بل كان الأميركيون تحت ضغط لإظهار إسهاماتهم في إعادة إعمار العراق وتقوية مؤسساته الحكومية وغير الحكومية أيضا. وكان هذا تحديا، نظرا للوضع المتقلب في العراق بعد عام 2003 – من استمرار عدم استقرار والتفجيرات وانعدام الأمن – وكان من الصعب العثور على خبرات وكفاءات المتخصصين المستعدين للمخاطرة بالسفر إلى العراق وقضاء فترات زمنية كبيرة هناك. كان ذلك يعني الاستعانة بأميركيين ذوي خلفيات مهنية متواضعة للغاية، على سبيل المثال مدرسو محاسبة عامة في كليات محلية في بلدات أميركية، ليصبحوا مستشارين في مؤسسات رفيعة المستوى مثل المحكمة العليا للمراجعة المحاسبية. وبهذه الطريقة، وجد جيك جونز من ألاباما (وآخرون غيره) أنفسهم في بيئة ترتفع فيها التوقعات كثيرا، وهم غير مستعدين لتلبية هذه التوقعات، بسبب خطأ لا ذنب لهم فيه. وكانت قرارات مثل تلك تجعل المؤسسة مثارا للسخرية.
سياسات متغيرة تنتهجها الجهات المانحة
وحتى في العراق اليوم، لا تزال منظمات المجتمع المدني في وضع لا يسمح لها بتحقيق تأثير إيجابي كبير؛ حيث تظل التوترات العرقية مشتعلة ويسود العنف والأعمال الإرهابية. وتعاني الحكومة العراقية الحالية من الفساد، كما أن الغزو الأميركي ساعد على دفع كثير من الشباب إلى التطرف. وفي مثل هذا المناخ، من الواضح أن منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية تملك قدرة محدودة على تغيير العالم.
في كثير من الأحيان، عندما ينتقد الجمهور منظمات المجتمع المدني، يعجز عن إدراك حقيقة أنه ينبغي على كثير من المنظمات حسنة الإدارة التعامل مع سياسات متغيرة تنتهجها الجهات المانحة.
في المشهد الذي تلا أحداث الربيع العربي، شهدنا كثيرا من الحالات التي تدفقت فيها مبالغ مالية طائلة وكانت قادرة على إحداث نتائج عكسية. في مصر على سبيل المثال، كان هناك كثير من منظمات المجتمع المدني الصغيرة التي كانت تحقق عملا جيدا على نطاق محلي للغاية، وبميزانية محدودة. ولكن لا يعني مضاعفة ميزانية أي جمعية إلى خمسة أضعاف أن تتمكن من تحقيق نتائج أكبر خمس مرات. يعني ذلك أحيانا أن العاملين بها مرتبكون، حيث إنهم لا يمتلكون نظم محاسبة قائمة (أو خبرة) لإدارة مبالغ كبيرة. علق أحمد حسين، وهو منسق في إحدى منظمات المجتمع المدني الصغيرة التي تعمل في مساعدة المجتمعات المحرومة في مناطق فقيرة بالقاهرة، قائلا: «وجدنا أنفسنا فجأة مسؤولين عن ميزانيات كبيرة. على الرغم من أن المال يعني بالطبع أننا على المدى البعيد سنستطيع مساعدة مزيد من الناس، وفي الوقت ذاته كنا نحمل عبئا كبيرا للغاية من مسؤولية إضافية في التعامل مع نظام المانح وتقديم تقارير مفصلة ومحاسبية تطلبها الجهة المانحة. قد يستغرق ذلك وقتا أكبر مما يتطلبه العمل الأساسي الذي نقوم به من سعي فعلي لمساعدة الناس».
أحداث الربيع العربي
جعلت الفوضى التي تبعت أحداث الربيع العربي من الصعب على الجهات المانحة حسنة النوايا اتخاذ قرارات مطلعة بخصوص أي المنظمات أكثر جدارة بالحصول على الدعم. في تونس، بعد أسابيع من سقوط بن علي، تزايد عدد منظمات المجتمع المدني الراغبة في العمل على مكافحة الفساد. وعلى الرغم من أن هذا في حد ذاته أمر طيب، فإنه كان يعني زيادة المنافسة للحصول على أموال المانحين وجذب انتباههم. وفعليا، كانت المنظمات التي استطاعت الاستمرار هي تلك التي تمكنت من تقديم خطة ملموسة وكانت تمتلك هيكلا، ودرست المشكلات جيدا، وكانت لديها أفكار إبداعية بشأن كيفية البدء في البحث عن حلول. ومع مرور الوقت، اختفى كثير من تلك المنظمات بمجرد أن أدركت حجم العمل المطلوب.
تتنوع ساحة المجتمع المدني والتحديات التي تواجه منظماته بصورة كبيرة من دولة عربية إلى أخرى. في ليبيا على سبيل المثال، لا توجد منظمات غير حكومية أو مجتمع مدني يذكر، بالإضافة إلى كون ذلك انعكاسا لما خلفته أعوام حكم القذافي، فهو يعكس أيضا وضع المجتمع ككل. لم يستطع الليبيون حتى الآن العمل معا على تكوين رؤية وطنية أو دولة قوية. الوضع هناك ليس أفضل كثيرا مما كانت عليه ليبيا منذ 40 عاما، وسوف يتطلب الأمر تنفيذ عملية شاقة وهشة بهدف بناء مؤسسات دولة شرعية وكبح جماح الميليشيات وتحقيق التوازن بين المصالح الإقليمية والقبلية المتضاربة. لقد سددت ليبيا ثمنا باهظا من حياة أبنائها في العملية الانتقالية. وفي ظل ارتفاع نسبة عدم الاستقرار في البلاد، أُجبرت جهات مانحة عديدة، والتي كانت شديدة التفاؤل في بداية الربيع العربي وتواصلت مع عدد قليل للغاية من منظمات المجتمع المدني الموثوق بها في الدولة، على إعادة تقييم استراتيجيتها، وأدركت أن قدرة هذه المنظمات القليلة على إحداث تغيير إيجابي محدودة في مثل هذا الوضع العصيب.
في دول مثل أفغانستان، تواجه عملية إعادة بناء وتعزيز مؤسسات مدنية وحكومية صعوبات أكبر. على عكس العراق، الذي ترتفع فيه نسبة المتعلمين إلى أكثر من 80 في المائة، تصل نسبة من يستطيعون القراءة والكتابة في أفغانستان إلى 28 في المائة فقط. يعني ذلك أنه من الصعب للغاية على الجهات المانحة العثور على نظراء ملائمين حتى لتنفيذ مشروعات المساعدات. وفي أثناء الفترة ما بين عامي 2008 و2010، كانت المزحة منتشرة بين العاملين في مجال التنمية تتعلق بوزارات محددة. كانت هناك وزارة أو اثنتان تؤول إليهما غالبية أموال المانحين، وذلك لمجرد أن هناك من يتحدثون باللغة الإنجليزية في هذه الوزارات مما سهّل الأمر قليلا على الجهات المانحة.
تحديات غير مسبوقة
بيد أن بعض الجهات المانحة المستنيرة، استثمرت في محاولة معرفة سبب عدم ظهور آثار للمبالغ الطائلة التي تدفقت إلى أفغانستان على تنمية البلاد. لم يكن غريبا أن يجري تفجير الطرق أو الكباري أو أن تتعرض مشروعات إنشائية أخرى للتخريب أثناء عمليات البناء أو بعدها بفترة وجيزة. وبعد استشارة زعماء القبائل في محاولة استيعاب مكمن الخطأ، اتضح أنه لم يجر التشاور مع السكان المحليين الذين يقفون وراء هذه الأعمال قبل أو أثناء عمليات الإنشاء. وقد وجدوا أن تصرفاتهم، على الرغم من أنها مدمرة، وسيلة للتعبير عن وجودهم. ولكن لا شك في أن أفغانستان تقدم ساحة من الصعب للغاية أن تحقق فيها الجهات المانحة أو منظمات المجتمع المدني نتائج ملموسة، وربما تمر أعوام عديدة قبل أن يبدأ هناك أي تقدم ملحوظ.
في الفترة الأخيرة، دخلت جهات مانحة في مزيد من الحوارات مع منظمات المجتمع المدني، وتعلمت دروس مستفادة وتبنت منهج «عدم إلحاق الضرر». بمعنى أنها أدركت حقيقة أنه حتى إن كان من الصعب تنفيذ تغيير كبير إلى الأفضل، فعلى الأقل، يجب ألا تتسبب هيئات التعاون الإنمائي الدولي في تحويل الأوضاع إلى الأسوأ.
لا شك في أن منظمات المجتمع المدني على وجه التحديد، وأيضا الجهات المانحة التي تمولها، تواجه تحديات غير مسبوقة في المناخ السياسي الحالي المتقلب وغير المتوقع. وبغض النظر عن الانتقادات التي قد تثار بشأن النظام القديم، فإن القدرة على التوقع جعلت من الأسهل تنفيذ مشروعات تعاون تنموية ومساعدات إنسانية. تعني التحالفات الجديدة التي تتغير باستمرار، وتفكك النظام القديم، أن منظمات المجتمع المدني اليوم في حاجة لأن تصبح أكثر مهنية من ذي قبل، وأن تحظى بإدارة داخلية أقوى، وفرق عمل أعلى تأهيلا، واستيعاب أفضل للتحديات التي تواجه مجتمعاتها. في الواقع تحتاج المنظمات إلى أن تصبح أفضل من حكوماتها.