فكر فؤاد عجمي لم يكن معقدا كتعابيره، بل كان بسيطا كمحياه. الهدف هو رفاه الشعوب العربية على غرار نظيرتها الغربية. المشكلة كانت في مطلع شبابه سببها إسرائيل التي كانت تجتاح قناة السويس في العام 1956 وتبتلع الضفة وغزة والجولان في العام 1967. لكن الزمن تغير والعقل العربي بقي على حاله.
كيف تصفي حركة حماس أكثر من 200 عضو في فتح إبان انقلابها الذي استولت فيه على قطاع غزة في العام 2007. ويكون الحق على إسرائيل؟ كيف يقتل بشار الأسد أكثر من 150 ألف سوري في ثلاث سنوات وتبقى فلسطين القضية المركزية؟ هناك في فلسطين، بالكاد يصل عدد القتلى الفلسطينيين إلى 10 آلاف منذ العام 1987، أي بعد انتفاضتين فلسطينيتين وثلاث حروب إسرائيلية، واحدة على الضفة واثنتين على غزة؟
نقد الذات العربية كان في صلب تفكير عجمي، وهو أمر كان يتناقض مع سعيد وأمثاله الذين ألقوا باللائمة في الشقاء العربي على الكولونيالية الأوروبية أولا، ثم الإمبريالية الأميركية ثانيا، وكأن الإمبريالية أمر طارئ على العرق البشري، وكأن إسكندر المقدوني، الذي ورد اسمه في القرآن على أنه «ذو القرنين»، لم يغز الشرق، ولم يؤسس مدينة حملت اسمه في مصر، أو كأن العرب لم يغزوا بلاد فارس وبلاد الروم وشمال أفريقيا وجنوب أوروبا.
قد تساهم الإمبريالية في تعميق أزمة العرب، ولكن قد يمكنها أن تساهم في حلها. سعيد ومؤيدوه تبنوا الفكرة الأولى. عجمي تدرج من الأولى إلى الثانية.
معاداة الإمبريالية
لكن مدرسة «معاداة الإمبريالية» لا تؤمن بالتعددية في الرأي العربي. كلّ من اختلف معنا فهو «خائن» ومع الآخرين، يقول هؤلاء. عزز الانطباع حول «خيانة» عجمي للعرب وقضيتهم المزعومة أن الأخير راح يتحدث عن الأميركيين بصيغة «نحن»، فكان أول من تصدى له بعض عرب أميركا.
لكن هؤلاء، مثل عجمي، وفدوا من دولهم، عاشوا في أميركا، عملوا فيها ودفعوا ضرائب لحكومتها، أقسموا «يمين الولاء» للولايات المتحدة وحملوا جوازها. لكن لسبب ما، لا يقدم عرب أميركا من «معاديي الإمبريالية» أنفسهم على أنهم أميركيون على غرار باقي المهاجرين، بل يتصرفون كزوار أو كأن جوازاتهم الأميركية هي بطاقات إقامة مؤقتة، وهو ما يدفع الأميركيين بدورهم إلى معاملتهم بالصورة نفسها.
لم يتصرف عجمي كأميركي مؤقتا، فالرجل الذي ولد في قرية ارنون الجنوبية اللبنانية في العام 1945 وصل الولايات المتحدة في العام 1963 وقضى فيها 50 عاما حتى وفاته، ما يعني أنه قضى فعليا عمره في الولايات المتحدة أكثر من وطن منشئه لبنان، الذي ضاق ذرعا به وبآرائه المختلفة عن آراء الحزب الحاكم، فابتعد عجمي ولم يزر الوطن الأم لعقود قبل مماته.
[inset_right]كان فؤاد عجمي، من أشد المؤيدين لتوجيه ضربة عسكرية أميركية لقوات نظام بشار الأسد[/inset_right]
على أن عجمي لم يتصرف يوما كعربي كاره لنفسه، على ما يحلو لناقديه القول. إنجليزيته كانت دوما جميلة ومعقدة، لكنه لم يتخل عن لكنته العربية. في الأشهر الأولى التي تلت الثورات العربية في تونس وليبيا ومصر وسوريا، أطل بشكل شبه متواصل على القنوات الأميركية. قدم عجمي صورة بهية عن الشعوب العربية وعن طموحاتها، ووصفها بمحبة للسلام والكرم وصديقة للشعوب الأخرى، بما فيها الغربية. أما المذنب الرئيسي، في فكر عجمي، فكان الاستبداد، إن في شخص صدام حسين في العراق أو حافظ وبشار الأسد في سوريا أو معمر القذافي في ليبيا. الحل، برأي الأكاديمي الراحل، يكمن بالتخلص من المستبدين. بعد ذلك يصبح الطريق مفتوحا لغد أفضل يقدم فيه العرب طاقات مجتمعهم الشاب ويلتحقون بركب العالم المتقدم.
كان عجمي يستمتع بشعر نزار قباني وبموسيقى أم كلثوم، ويكيل المديح للحضارة العربية أمام محدثيه، وخصوصا من الأميركيين. لم يكن عند عجمي مشكلة الدونية التي اتهمه بها البعض، لكنه لم يعتقد أن الجذور كانت تحتم على العرب أن ينطقوا بلسان واحد أو أن يتشاركوا برأي واحد، وهو الأمر الذي يبدو أنه فات معظم منتقديه، من العرب كما من الأميركيين.
مأزق العرب
وعجمي كان يردد كلمة «عرب» بشكل متواصل، حتى أثناء حديثه بالإنجليزية، التزم بحرف العين ولم يلفظها «آراب». اثنان من كتب عجمي حملت كلمة عرب في عناوينها: «مأزق العرب» و«قصر حلم العرب».
تصور عجمي أن العرب طيبون بفطرتهم. في الكويت، سيسعدهم التخلص من قوات صدام التي احتلتهم، وسينثرون الورود والحلوى على المحررين الأميركيين، وهو ما حصل. وكما في الكويت، اعتقد عجمي أن العراقيين سيستقبلون الاجتياح الأميركي بالورود والحلوى. ربما العبارة لم تكن من صنع عجمي نفسه بل من صناعة صديقه العراقي كنعان مكية، مؤلف كتاب «جمهورية الخوف» تحت اسم سمير خليل. لكن عجمي آمن أن الشعوب العربية، مثل الشعوب الأخرى، تصبو للتحرر من الديكتاتوريات الدموية مثل في العراق وسوريا.
لم ينظر عجمي إلى العرب كقبائل وطوائف متناحرة، ولم يعتبر أن ما جرى في العراق بعد صدام كان بسبب العراقيين، فكتب كتابه عن «الثور السورية»، وصور فيها معاناة، لا السوريين السنة فحسب، بل العلويين كذلك، من حكم آل الأسد. ومن نافلة القول: إن عجمي، كعرب وعرب أميركيين كثيرين، كان من أشد المؤيدين لتوجيه ضربة أميركية لقوات نظام الأسد. الضربة لم تأت، وهو ما ساهم في زيادة حنق عجمي ضد إدارة الرئيس باراك أوباما.
ربما راهن عجمي على بعض الشعوب العربية أكثر مما تحتمل. فهو عاد واتهم رئيس حكومة العراق نوري المالكي بالديكتاتورية في آخر مقالة له في «وول ستريت جورنال» قبل أسبوع من وفاته. ووجه المالكي أصابع اللوم في الفشل في العراق للرئيس باراك أوباما لتقاعسه وتراجعه عن سياسات سلفه جورج بوش.
سياسة المالكي
لكن من أين أتى صدام؟ ومن أين أتى المالكي؟ ألم يكن الرجلان نتاج مجتمع تبنى العنف وسيلة لحل النزاعات على مدى القرن الماضي على الأقل؟ ثم إن أوباما لم يبتكر سياسة جديدة في العراق، ولا حتى هو التزم بموعد سحب القوات الأميركية في ستة أشهر من تسلمه الحكم في مطلع 2009 كما وعد في حملته الانتخابية للرئاسة، بل التزم الجدول الذي كان حدده بوش للانسحاب.
ربما راهن عجمي أكثر من المعقول على مقدرة القوة العظمى في التغيير أو في المساهمة في صناعة مصير الشعوب. التجربة الأميركية نفسها نجحت في دول كثيرة أخرى، من اليابان وألمانيا إلى كوريا الجنوبية ودول يوغوسلافيا السابقة. لكن التجربة الأميركية تعثرت في العراق. الأداء الأميركي في العراق يتحمل جزءا من الفشل، ولكن العراقيين يتحملون الجزء الأكبر، وفي هذا عودة إلى المبدأ الأساسي الذي التزمه عجمي والقائل بضرورة «نقد الذات» كمقدمة لأي تغيير، حتى لو بمساعدة أميركية.
من عرفوا عجمي عن كثب يتذكرون أن الرجل كان مميزا في شخصيته وهندامه وآرائه وثقته بنفسه. أحبه طلبته في جامعة «جونز هوبكنز»، حتى الذين اختلفوا معه في الرأي. كان يصادقهم، ويسأل عنهم، ويتابع تطورهم الفكري، ويشاكسهم فكريا، ويشاكسونه.
قبل أعوام قليلة، اشتكى عجمي من ألم في رقبته. اعتقد أنه ناتج عن جلساته الطويلة على جهاز آيباد وأجرى فحوصات طبية، فتبين أنه كان يعاني من مرض خبيث انتشر في عظمه. كان العام الدراسي لم ينته بعد، لكن عجمي أعلن تقاعده وحصر نشاطاته بالكتابات الصحافية والإطلالات التلفزيونية.
عجمي كان إنسانا متكتما على شؤونه الشخصية، لكن أصدقاءه نقلوا عنه أنه أبدى تجاوبا مع العلاج وتحسنا كثيرا. الشهر الماضي، ردد مقربون من عجمي أن وضعه يسوء وأنه انتقل إلى بيت صيفي له في ولاية ماين الشمالية ليقضي فيها آخر أيامه. بعد ذلك بقليل، أصدر مركز أبحاث هوفر، التابع لجامعة ستانفورد المرموقة، بيانا أعلن فيه وفاة الأكاديمي، الذي شغلت أعماله وآراؤه رجال القرار والسياسة والثقافة في العاصمة الأميركية وعواصم أخرى.
[inset_left]منذ مطلع الثمانينات، ألف عجمي أكثر من عشرة كتب، جاءت باكورتها في العام 1981 بعنوان «مأزق العرب» أما آخر كتبه، فصدر في العام 2012 وحمل عنوان «الثورة السورية».[/inset_left]
رحل ابن بلدة ارنون الجنوبية اللبنانية الذي كان يردد أن عائلته من أصول إيرانية انتقلت إلى لبنان بسبب أعمالها في زراعة وصناعة التبغ. مع حلول الخمسينات، انتقلت عائلته إلى بيروت حيث درس في مدرسة «إنترناشيونال كولدج»، ولم يكد يتم الثامنة عشرة حتى انتقل إلى الولايات المتحدة حيث أتم دراسته الجامعية، وتزوج الأميركية ميشال وأنجب منها.
ومنذ مطلع الثمانينات، ألف عجمي أكثر من عشرة كتب، جاءت باكورتها في العام 1981 بعنوان «مأزق العرب» وتناول فيه «الفكر السياسي العربي بعد العام 1967». وفي العام 1986. أصدر عجمي كتاب «الإمام المختفي» الذي عرض فيه سيرة حياة رجل الدين الإيراني اللبناني موسى الصدر الذي اختفى في العام 1978 في ظروف غامضة.
وفي العام 1998 أصدر عجمي كتابا شيقا آخر حمل عنوان «قصر أحلام العرب». أما آخر كتبه، فصدر في العام 2012 وحمل عنوان «الثورة السورية».
علاقات وطيدة مع إدارة بوش
وكان لعجمي علاقات وطيدة مع إدارة الرئيس جورج بوش الابن، الذي كان يستقبله بشكل متواصل في البيت الأبيض، وظل على علاقة شخصية معه حتى بعد خروجه من الحكم، فكان بوش يرسل لعجمي بطاقات المعايدة الشخصية بشكل دوري. وفي إدارة بوش الابن أيضا، كان لعجمي علاقات وطيدة بنائب الرئيس ديك تشيني ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ومساعد وزير الدفاع ديك تشيني.
هكذا، كان من الطبيعي أن تتكئ إدارة بوش الابن إلى أفكار عجمي وأقواله ومقالاته أثناء حملتها لإقناع الرأي العام الأميركي بضرورة الذهاب إلى الحرب في العراق. وهكذا كان عجمي يطل، في حرب العراق الثانية كما في الأولى، مدافعا عن ضرورة الحرب من أجل المصالح الأميركية، ومن أجل نشر الديمقراطية وتحرير الشعب العراقي من نير الاستبداد الذي كان يعيش في ظله.
ومع أن عجمي تعرض لحملات انتقاد كبيرة لمساندته حرب العراق، إلا أنه وجد نفسه فيما بعد صديقا لكثير من منتقديه أنفسهم الذين راحوا يطالبون الإدارة الأميركية بشن ضربة عسكرية ضد أهداف لقوات الرئيس السوري بشار الأسد.
على أن الحزبية الأميركية سيطرت على مواقف عجمي، وهو ثابر في مهاجمة الرئيس باراك أوباما منذ ما قبل انتخابه رئيسا في العام 2008 وحتى المقالة الأخيرة التي كتبها في «صحيفة وول ستريت جورنال» في الثالث عشر من الشهر الماضي، أي بعد ثلاثة أيام على أحداث الموصل العراقية، ووجه فيها أصابع اللوم إلى أوباما ورئيس حكومة العراق نوري المالكي، معتبرا أن عدم متابعة الأول لسياسة بوش وسحبه القوات الأميركية من العراق من دون الإبقاء على قوة صغيرة، مترافقا مع الممارسات الديكتاتورية للمالكي، هي التي أطاحت بالإنجازات التي تعبت إدارة بوش من أجل التوصل إليها لتثبيت الوضع الأمني في العراق مع حلول العام 2009.
رحل عجمي، لكن آراءه باقية، والنقاش حولها سيستمر لسنوات كثيرة، أو هذه على الأقل سنة المثقفين من أمثاله.