[caption id="attachment_55251655" align="aligncenter" width="620"] مارك سايكس [/caption]
عاش مارك حياته متنقلا بين والدته التي أقامت في لندن ومزرعة والده في يوركشاير الشرقية ومنزله في قصر سيلدمير. سافر مارك كثيرا مع والده لمناطق الشرق الأوسط ضمن الدولة العثمانية في صباه بالإضافة للهند ومصر والكاريبي والمكسيك وكندا والولايات المتحدة الأميركية. وتلقّى مارك تعليمه في موناكو وبروكسل، كما درس في جامعة كمبردج العريقة. وبعمر الخامسة والعشرين نشر أربعة كتب عن العسكرية وعن رحلاته للشرق الأوسط.
وبهذه المؤهلات، فنحن أمام وجه من عالم كان في قمة الجموح السياسي والثقافي، وكان على أعتاب تحول صناعي وتكنولوجي كانت بوادره واضحة. ينتمي لأسرة عريقة تعكسها الألقاب التي حملها، وهو في هذا العمر القصير (39 عاما) ترك صفحات في تواريخ: العسكرية والدبلوماسية والثقافة، فضلا عن أنه رحالة!
كان مارك سايكس مع بدء العالمية الأولى معروفا كمختص بشؤون الشرق الأوسط وما عرف بـ«مناطق سوريا الطبيعية». لكنه في العام 1916 ارتبط اسمه بواحدة من أشهر الاتفاقيات في التاريخ الحديث وعرفت اختصارا «سايكس – بيكو»، وبيكو لقب جورج بيكو وزير خارجية فرنسا آنذاك، وكانت روسيا الطرف الثالث ممثلة بوزير خارجيتها سازونوف. وكان هدف الاتفاقية تقسيم أملاك الدولة العثمانية فيما بينها بعد سقوطها، وذلك انتقاما من الدولة العثمانية التي وقفت بجانب ألمانيا في الحرب (وكانت الاتفاقية سرية إلى أن قام النظام الشيوعي في روسيا بكشفها).
وقد شهد العام التالي لتوقيع الاتفاقية التي ارتبطت باسمه (1917) نشوب الثورة البلشفية في روسيا لتطيح بالقيصرية وتطيح معها بعصر من التفاهمات الروسية الأوروبية، فكشفت الحكومة الشيوعية الجديدة عن الاتفاقية وانسحبت من الحرب العالمية الأولى.
ولكن أحد أهم روافد تكوين شخصية مارك وثقافته كانت ثقافته العسكرية، إذ جرى تجنيده عام 1897 في السرية الثالثة ضمن كتيبة يوركشاير للمشاة. وقد عمل في الجيش البريطاني بعض الوقت في جنوب أفريقيا (1902). وفي مشواره الدبلوماسي، عُيّن مارك ملحقا فخريا للسفارة البريطانية في إسطنبول. وعُيّن بسبب خبرته الواسعة في شؤون الشرق مساعدا لوزارة الحرب البريطانية، وكانت وظيفته تزويد مجلس الوزراء بالمعلومات والمشورة حول شؤون الشرق الأوسط. ولم يكن سايكس من صانعي القرار إلا أنه كان مؤثرا جدا فيهم بسبب شهرته كخبير في شؤون الشرق الأوسط وحظوته لدى أصحاب السلطة.
اشترك مارك سايكس، بحكم منصبه، في المباحثات التي جرت في لندن وكان يمثل فيها الجانب البريطاني. أما فرنسوا جورج بيكو، القنصل الفرنسي السابق في بيروت ومستشار السفارة الفرنسية في لندن، فكان يُمثل الجانب الفرنسي فيما يتصل بما كان يُسمّى «المسألة السورية»، أي مستقبل المنطقة العربية (وخصوصا الشام) وتقسيم ممتلكات الدولة العثمانية في آسيا. وقد انتهت هذه المباحثات، بشكل مبدئي (عام 1916) بتوقيع اتفاقية سايكس ـ بيكو الشهيرة لتقسيم مناطق النفوذ بين إنجلترا وفرنسا. وقد وُضعَت فلسطين بمقتضى الاتفاق تحت إشراف إدارة دولية.
كان سايكس في باريس عام 1919 يفاوض من أجل اتفاق سلام بعد الحرب العالمية الأولى ومات هناك بعمر 39 سنة في غرفته بالفندق متأثرا بجائحة الإنفلونزا الإسبانية المنتشرة آنذاك. نقل رفاته لبيت عائلته في سيلدمير في يوركشير الشرقية ودفن هناك. فيما بعد، في عام 2007. أي بعد 90 سنة من وفاته، سمح أحفاده للأطباء بنبش جثته وفتح كفنه لأخذ عينات من بقاياه كونه دُفن بتابوت من الرصاص إذ يُعتقد أن هذا سيحفظ فيروسات النزلة الإسبانية بشكل ملائم للبحث العلمي.
ويرى كاتب سيرة حياته أنه كان القوة المحركة للسياسة البريطانية الخاصة بفلسطين التي أدّت إلى إصدار وعد بلفور ثم الانتداب البريطاني على فلسطين. وبعد هذا التوقيع المبدئي، اطّلع السير مارك سايكس على المذكرة التي وزعها هربرت صمويل على أعضاء الوزارة البريطانية يقترح فيها أن تتبنّى إنجلترا مشروع إيجاد وطن لليهود وقد اكتشف سايكس على التو أنه لو تبنّت إنجلترا المشروع، فإن هذا سيوفر لها موطئ قدم راسخا في الشرق الأوسط.
ومن المفارقات التاريخية أن مارك سايكس الذي ارتبط في الوجدان العربي باتفاقية سايكس بيكو وبدعمه إقامة دولة لإسرائيل، وضع بهذه الاتفاقية نواة ما يمكن أن نسميه «النظام الإقليمي العربي»، وهو ما استكملته الدبلوماسية البريطانية في الأربعينات من القرن الماضي برعايتها إنشاء جامعة الدول العربية.
حقيقة الأمر أن الدبلوماسية البريطانية كانت جزءا من منظومة بريطانية واضحة المعالم لم تقم على مسخ الشخصية الوطنية للشعوب المستعمرة، شأن المدارس الفرنسية والإسبانية والبرتغالية، التي ربطت الشعوب التي استعمرتها بخيوط من التبعية السياسية والثقافية لسنوات طويلة، وما زالت لغات هذه الدول هي السائدة في مستعمراتها السابقة. كما أن سايكس بيكو لم تمزق النسيج الوطني للوحدات السياسية التقليدية التي كانت صاحبة ملامح حدود ثابتة أو شبه ثابتة. وهي أنشأت كيانات مختلفة عما كان موجودا قبلها وبخاصة في الهلال الخصيب دون أن تستجيب لأي مشاعر قومية لغير العرب المقيمين في هذا الحوض الجغرافي، ولست هنا في معرض تبرير ما تعرضت له الجماعات القومية الأخرى بسبب هذه الاتفاقية، لكنني أقرر واقع أنها وضعت أساس نظام إقليمي – رعت بنفسها المرحلة الثانية منه – بالمخالفة لما يبدو أنه عمل تآمري قضى على مستقبل العرب بعده!
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.