هذان الموقفان المتزامنان أكدا حقيقة مهمة هي أننا مشغولون دائما بـ«حدود الدولة» بأكثر مما نحن مشغولون بـ«القيمة السياسية للدولة»، أي الكفاءة والقدرة على التأثير، لكن هذا ليس الوجه الوحيد لعاصفة البكاء المرير في الإعلام العربي على الخريطة التي تتغير.
ومن يأخذ عينة من الإعلام المقروء والمرئي ربما لا يلفت نظره هذا الكم الكبير من «السيناريوهات التآمرية» التي يجب علينا جميعا أن نحذر منها وجميعها – تقريبا – تستهدف تمزيق العالم العربي، فمع كثرة هذه المخططات ألفناها ولم نعد نشعر بأنها ظاهرة يجب رصدها. كما أن تداخلها – بل أحيانا تناقضها – لا يبقي للمواطن العربي إلا عملة واحدة ذات وجهين: البكاء على الخرائط وتدبيج الهجائيات بحق الغرب!
ومع الخوف المرضي من المؤامرات يبقى خيار واحد: «تثبيت كل الأوضاع» مخافة أن يكون أي جديد نختاره، حلقة معدة مسبقا من مؤامرة، وبهذه الأيدي المرتعشة أديرت ملفات عربية كثيرة – أولها التغيير الديمقراطي – حتى تغيرت الدنيا حولنا وأصبحت قائمة من تستهدفهم هجائياتنا تضم قوى إقليمية بل «أقليات»!
ما يعني أننا صرنا نرى أنفسنا أضعف، ولم يعد بعضنا يشعر بغضاضة في أن يتحدث عن مؤامرة إثيوبية أو مؤامرة تركية أو مؤامرة إيرانية أو مؤامرة كردية أو مؤامرة أمازيغية أو.....
ومن الأسباب الرئيسة للداء أننا ننظر إلى أنفسنا بإصرار عجيب كـ«استثناء»، وفي موضوع الخرائط هذا بالتحديد، يتم عمدا اقتطاع الحقائق المتصلة بالتغيرات المحتملة على خريطة المنطقة من كل سياق وتعليبها بخطاب خشبي يؤكد أن ما يحدث هو مؤامرة الآخرين ضدنا، فلا سابقة له ولا نظير له، ولا هدف له إلا خريطتنا. وهذا المنظور أحد أهم أسباب «سوء التفاهم التاريخي» بيننا وبين الغرب، ومما يؤكد أنه (على الأقل في جانب منه) «سوء تفاهم» أنه الآن يعاد إنتاجه إقليميا مع كل القوى الإقليمية تقريبا بسيناريوهات متفاوتة.
ومما يتم إخفاؤه عمدا – مثلا – أن العالم يشهد ازديادا مطردا في عدد دوله التي أصبحت تراوح حول المائتين، مقارنة بـ50 دولة أسهمت في تأسيس الأمم المتحدة عام 1945 وعدد يقدر بما يزيد قليلا عن 150 دولة قبل عقود قليلة، ويكفي أن نشير هنا إلى أن مصر والسودان كانا كيانا سياسيا واحدا حتى خمسينات القرن العشرين، وأن وحدتهما كانت من القضايا المجمع عليها وطنيا!
وخلال السنوات التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينات القرن الماضي شهد العالم موجة تغيير كبيرة في الخرائط. فعلى سبيل المثال، كانت كل من: أستونيا ولاتفيا وليتوانيا ترتبط برابطة سياسية انحلت في هدوء، وعاشت تشيكيا وسلوفاكيا ضمن وحدة استمرت قرابة نصف قرن وانتهت بـ«الطلاق المخملي»، وانحلت يوغوسلافيا بعد حرب أهلية دامية إلى عدة كيانات سياسية، واستقلت إريتريا عن إثيوبيا وانفصلت تيمور عن إندونيسيا، واستقلت كوسوفا عن صربيا. وفي المقابل لا يكاد الحديث يتوقف في بلجيكا عن احتمال انقسامها إلى دولتين، ويحاول إقليم كيبك ذو الثقافة الفرنسية – منذ عقود – الانفصال عن كندا ذات الثقافة الإنجلوفونية، وبين عامي 2008 و2014 ضمت روسيا إلى أراضيها جزءا من جورجيا ثم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا.
بل إن العالم – بشكل عام – يسير باتجاه زيادة عدد دوله، وثمة دراسات في فرع جديد من فروع دراسات الدولة في العلوم السياسية هو «Mini State» يتوقع زيادة دول العالم – في الحد الأقصى – إلى أكثر من 3000 دولة!!
أما درس جنوب السودان فما زلنا عاجزين عن استيعاب دروسه من زاويتين: الأولى أن السودان – قبل انفصال الجنوب – كانت مساحته تساوي مساحة أوروبا الغربية (أكثر من عشرين دولة) أما كفاءته وتأثيره فكانا أقل من أصغر دولة أوروبية. الدرس الثاني في تجربة انفصال الجنوب فهو أن التاريخ له مسار وأنه لا ينكسر أمام إرادة أحد، وقد قتل بسبب هذا الصراع أكثر من مليوني مدني وفي النهاية انفصل الجنوب، فالإرادة والاستعداد للحرب الطويلة لم يعالجا فشل الدولة ولا حققا التناغم بين مجموعات سكانية كلها ترى العالم من خلال «الهوية الأحادية».
وفي إشارة مهمة إلى حقيقة أن الوقائع لا يمكن فصلها عن معايير التقييم يفرق ألكسندر هيغ وزير خارجية بريطانيا بين استفتاء استقلال أسكوتلندا واستفتاء انضمام القرم لروسيا قائلا: «إن أسكوتلندا دخلت ضمن المملكة المتحدة مع المقاطعات والأقاليم البريطانية الأخرى طواعية وإن الاستفتاء هناك يجري بموافقة ورضا المملكة المتحدة نفسها وليس من جانب واحد ومن طرف جماعات انفصالية وبدعم من دولة أو قوة أجنبية كما هو الحال في شبه جزيرة القرم». وعندما يجري عمدا إغفال هذه الفروق عند تناول المشكلات المماثلة في العالم العربي، عبر إشاعة خطاب «ازدواجية المعايير» بشكل دائم، فمن الطبيعي أن يتعاظم إحساس المواطن العربي بأنه ضحية مؤامرة.
استنساخ «سايكس بيكو»... ولعنها!
وفي كل مرة يعود العالم العربي إلى «حديث الخرائط» يتم اختصار كل شيء في «سايكس بيكو»، وفضلا عن هذا يجري استنساخها: 1. 2. 3..... والخطر في تحميل سايكس بيكو كل خيباتنا ليس تبرئة الغرب من المسؤولية عما ارتكب في حق شعوبنا، بل الخطر أن تتحول إلى «تفسير سحري» يريحنا من عناء الاعتراف بما ساهمنا به في الكارثة. وهذا المنهج الاختزالي في تفسير التاريخ (والواقع) يشيع في الثقافات حال الأزمة والعجز عن الاعتراف بالواقع، وكأنه «ديك غفران» سياسي يحمل عنا خطايانا، كما هي عقيدة اليهود في «ديك الغفران اليهودي» الذي يتم تمريره فوق رأس كل يهودي ليأخذ خطاياه، وبذبحه تغفر هذه الخطايا.
وأول ما يجب أخذه في الاعتبار عند التعامل مع خرائط ما يسمى «التقسيم الجديد» للعالم العربي أن العالم العربي لم يكن موحدا أبدا حتى يقسمه أحد. وأنه كان دائما وحدات سياسية تتمتع بدرجة استقلال ما، حتى تحت الحكم العثماني، وأن حدود هذه الوحدات السياسية كانت غالبا «رمادية»، كما أنها انكمشت وتمددت عدة مرات.
والتعامل السائد مع قضية الخرائط في الحقيقة يغلب عليه تشاؤم لافت، أولا لأنه كاشف عن أننا نحتكم – أولا – إلى مشاعرنا بدلا من المزاوجة المتزنة بين ما هو عقلي وما هو عاطفي. وهذا التشاؤم يكشف عن أننا – في أعماقنا – شاعرون بالعجز الشديد بل المهانة، رغم علو صوت الحديث الشعاراتي عن الإرادة، فالعالم الذي يتغير باتجاه التفكك يشهد أيضا – ولو حالة واحدة – باتجاه الوحدة هي وحدة شطري ألمانيا، ما يؤكد أن مسار التفكك ليس ثمرة تآمر الآخرين بل ثمرة غياب الأسباب الموضوعية لأن يكون المسار العربي باتجاه «الوحدة».
ومما يجب أخذه في الاعتبار أيضا أن الخرائط التي يشار إليها كثيرة جدا وليس لها أي صفة رسمية، فهي بالتالي إما جهد فرد أو مؤسسة بحثية، وقد تكون – في الحالتين – مغرضة، لكن هذا لا يجعلها مخططا تنفيذيا له صفة رسمية على الإطلاق. وهي تنشر بلا انقطاع – تقريبا – منذ منتصف الثمانينات عندما نشر الدكتور حامد ربيع سلسلة مقالات في مجلة «الأهرام الاقتصادي» المصرية. وواحدة من هذه الخرائط أخبرني المفكر القومي الراحل الدكتور عصمت سيف الدولة أن مخابرات يوغوسلافيا سرقتها له من وزارة الخارجية الإسرائيلية لتكون ضمن أوراق قضية «تنظيم ثورة مصر» الشهير.
ومن الأمور المثيرة – مثلا – أن استقلال كوسوفا كان موضوع استهجان واسع من شرائح من النخبة العربية الرسمية وغير الرسمية، بينما ضم القرم لروسيا لم يشهد رد الفعل نفسه، في إشارة واضحة إلى التأثير الكبير لعوامل: التحامل والتعاطف في صياغة مواقفنا. ففي المقابل كان هناك اهتمام غربي كبير بـ«الحالة القرم»، لا بوصفها «ملف صراع» أميركي روسي، وبالتالي حالة فردية، بل بوصفها توجها عالميا في شأن «الدولة».
خنا باراغ خبير أميركي هندي المولد في الجغرافيا السياسية (يصدر له قريبا كتاب بعنوان: «تغيير خريطة العالم») يتنبأ بظهور «عالم دون حدود سياسية»، وهو فرض يبدو مغرقا في التنظير، لكنه – على الأقل – يوفر منظورا أكثر موضوعية للنظر إلى التغيرات في الخريطة في منطقتنا بعيدا عن حديث المؤامرة الكونية. فهو يرى أن ضم القرم «سيرورة طبيعية» باتجاه تفكك الدول وإعادة إنشائها للمواءمة – حسب تصوره – بين «السيادة السياسية» و«المعطيات السكانية والإثنية»، وهو لهذا السبب يرى أن ضم القرم لن يطلق شرارة حرب باردة ولا ساخنة. وحسب باراغ فإن عددا كبيرا من دول الشرق الأوسط مهدد عقدها بالانفراط، فسوريا والعراق أو الأردن لن يسعها الحفاظ على حدودها الحالية. وهذا التغير يمكن أن يحمل مستقبلا واعدا إذا أمكن بناء وحدات مناطقية أكثر اندماجا.
مؤامرات أم رؤى؟
ومن الآفات التي تؤثر تأثيرا شديدا في تعاطينا مع التحولات إيمان شرائح واسعة من النخبة السياسية العربية بوهم فرانكفوني مضلل هو «ديمقراطية العلاقات الدولية» فمروجو الوهم أنفسهم هم من أكثر أمم الغرب على الإطلاق إيغالا في ممارسة الهيمنة، والعلاقات الدولية دائما كانت تقوم على الواقعية، ولعل من المفارقات المعبرة هنا أن النظم التي دفعت شعوبها للنظر إلى العالم وفق هذه النظرة – وهي نظم شمولية غالبا – كانت علاقتها بشعوبها استبدادية حتى النخاع، وهو منطق مقلوب في التفكير، فما يجب التعامل معه بواقعية – العلاقات الدولية – جرى النظر إليه دائما في الخطاب المعلن بلغة «مبدأي»، وما كان يجب التعامل معه بمبدأي (الحاكم والمحكوم) تم التعامل معه بنفعية وواقعية تستلهم غرائز الذئاب!
ويزيد الطين بلة حالة تقوقع شديد حول الذات والإيمان المفرط بأننا هدف استراتيجي أول – بل ربما وحيد – لكل القوى الدولية، وأننا العالم، أو على الأقل «قلب العالم»، وبالتالي فإن كل حركة وكل إشارة هي جزء من مؤامرة، وما يريده الآخرون لا يمكن أن يكون «رؤية» نتفق أو نختلف معها!
الدولة والهوية والأمة
والقصة في سياقها الدولي باختصار شديد – حتى نصل إلى اللحظة الراهنة – أن نزاعات السيادة والحدود ليست طارئة، بل عرفها العالم شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، قبل أن يتبلور مفهوم «سيادة الدولة» وبعد تبلوره. والعلاقات الدولية في العالم الحديث تأسست على «صلح وستفاليا» (1648) الذي وضع بذرة «الدولة الحديثة» على مبادئ السيادة وعدم التدخل في شؤون الآخرين. وعلى هذه الأسس وضعت وستفاليا ركائز النظام الدولي وعلاقاته المعاصرة. وتشهد الحربان العالميتان الأولى والثانية وحروب أخرى سابقة ولاحقة على أن هذا المفهوم تعرض كثيرا للانتهاك. وفي مرحلة تالية حدث ما يمكن اعتباره تجديدا للنظام الدولي: إنشاء الأمم المتحدة. بعدها جاءت العولمة التي طغى معها التداخل على الاستقلال، لكن دون استباحته.
وأصل المشكلة ثقافيا أن «الدولة» لم تلغِ «الهويات الدينية» (ولاحقا صعدت الهويات المذهبية وبخاصة في منطقتنا بعد الثورة الإيرانية)، ومع استنساخ «الدولة الوطنية الحديثة» عربيا تم حجب «الهوية الدينية» مؤقتا بهوية وطنية بدت أوسع. والخطأ الأول فيما حدث بالفعل في التجربة التاريخية العربية أن الدولة الحديثة فكرة مغرقة في التجريد بل لا أبالغ إذا قلت إنها غير ممكنة التطبيق إلا في مجتمع متناغم على نحو خيالي، أو عبر عمليات إبادة وقمع واسعين لكل المكونات المخالفة لـ«العنصر المؤسس»، وهذا ما حدث بالفعل في مسقط رأسها: فرنسا!
وقد تأزمت الأمور أكثر – في التجربة العربية – بعد الحرب العالمية الثانية مع جنرالات الانقلابات العسكرية الذين أضافوا إلى الأصول الفرانكفونية تأثيرات واضحة من الفكر القومي الألماني فأصبحنا أمام تجارب مثل جمال عبد الناصر وحافظ الأسد وهواري بومدين وصدام حسين بكل خيباتها التي ما زلنا ندفع ثمنها للآن.
وفي إطار محاولتنا التفرقة التي نراها ضرورية بين «المؤامرات» و«الرؤى» نشير إلى تصور يرى أصحابه أنه أكثر اتساقا مع الواقع الثقافي في منطقتنا من التصور الذي جرى استيراده وتعميمه – دون تكييف – المسمى: «الدولة الوطنية الحديثة» (حسب التقليد الأوروبي). ففي يونيو (حزيران) 2006 نشر مقال في دورية «القوات المسلحة» اعتبر تقديما نظريا لاستراتيجية إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط على أساس الانتماءات الدينية والروابط العرقية (روابط الدم). ويقترح المقال إعادة تشكيل دول المنطقة ممثلة في السعودية والأردن وسوريا وإيران وأفغانستان والعراق على أساس روابط الدم والانتماءات المذهبية، ويقدم خريطة جديدة للمنطقة بدلا عن الخريطة الحالية.
الحدود الاعتباطية
ويرى كاتب المقال أن الحدود الدولية لا تبدو مرسومة بعدالة، لكن درجة انعدام العدالة التي تفرضها على هؤلاء الذين ترغمهم الحدود على أن يكونوا مجتمعين أو منفصلين تحدث فرقا هائلا، هو غالبا ما يكون فرقا بين الحرية والقمع بين التسامح والعنف بين سيادة القانون والإرهاب أو حتى بين السلم والحرب. و«الحدود الأكثر اعتباطية والأكثر تشوها في العالم توجد في أفريقيا والشرق الأوسط وهي التي رسمتها المصالح الخاصة للأوروبيين (الذين كانت لديهم اضطرابات كافية لتحديد حدودهم) إذ لا تزال الحدود في أفريقيا تسبب موت الملايين من السكان المحليين، لكن الحدود غير العادلة في الشرق الأوسط (والاستعارة هنا من رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل) تولد مشاكل أكبر من أن تُحَل محليا».
ويضيف كاتب المقال أنه، بينما يعاني الشرق الأوسط «مشاكل أكثر بكثير من موضوع الحدود وحدها، مشاكل تمتد من الركود الثقافي الذي تتسبب فيه عدم المساواة إلى التطرف الديني القاتل فإن العقبة الكبرى التي تعيق محاولة فهم الفشل الشامل للمنطقة ليس الإسلام بل هو الحدود الدولية المشوّهة والتي تبدو مقدسة في نظر دبلوماسيينا». و«بالطبع لن يؤدي أي تعديل في الحدود لإسعاد جميع الأقليات في الشرق الأوسط ففي بعض الحالات تعيش الجماعات العرقية والدينية تداخلا وتزاوجا وفي مكان آخر ربما لا يحقق الاتحاد على أساس الدم أو المعتقد السعادة المرجوة كما يتوقعها المؤيدون».... «حتى أولئك الذين يكرهون موضوع تعديل الحدود سيستفيدون جدا من المشاركة في محاولة تصوّر تعديل مُنصِف وإن كان لا يزال ناقصا للحدود الوطنية بين البوسفور والهند». وفي عبارة لا تخلو من دلالات مهمة يقول بيترز: «إن قبول فكرة أنّ التقاليد الدولية لم تطوّر أدوات فعّالة - سوى الحرب - لتعديل الحدود الخاطئة سيجعل من مثل الجهد العقلي الذي نحن بصدده لفهم الحدود العضوية للشرق الأوسط وسيلة تساعد على فهم مدى الصعوبات التي نواجهها والتي سنستمر في مواجهتها فنحن نتعامل مع تشوهات ضخمة صنعها الإنسان، وهي لا تكف عن توليد الكراهية والعنف إلى أن يتم تصحيحها. أما بالنسبة لأولئك الذين يرفضون التفكير في غير المفكر فيه ويقولون: إن الحدود يجب أن لا تتغير وأن الحال يجب أن يبقى على ما هو عليه فإنّ عليهم أن يتذكروا أن الحدود ظلت تتغير عبر القرون لم تكن ثابتة أبدا، والكثير من الحدود من الكونغو وحتى كوسوفا والقوقاز تتغير حتى الآن».
تفاهمات بوتين أوباما
ومن الناحية السياسية المباشرة لا يستطيع منصف تجاهل أن التغيرات في الحدود في مناطق أخرى من العالم تشير إلى «تفاهمات ضمنية» تستبق تغييرا في معنى السيادة وحدود الدولة، وربما تمهد له عمدا، فالخطوتان اللتان قامت بهما روسيا بضم القرم، وقبلها في العام 2008 القيام بعمل عسكري لضم أجزاء من جورجيا يعكسان قبولا – لم يتم تقنينه بعد – لفكرة تطابق السيادة مع نطاق مصالح معين يحقق «الأمن القومي» للدولة أو يتسق مع خريطة وجود مواطنيها أو الناطقين بلغتها. وهذا التحول يتم بقدر غير قليل من الحذر والتمهل لما له في الذاكرة الغربية من تاريخ دموي.
فالحروب القومية أوروبية نشبت في حالات عدة بسبب التداخل السكاني، وتعد المشكلات الفرنسية الألمانية حول منطقتي الإلزاس واللورين مثالا كلاسيكيا لهذا النوع من مشكلات الحدود المرتبطة بالخرائط السكانية. وإذا أقرت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الأوروبيون «مبدأ مشروعية ضم الأراضي» لتتطابق مع الخريطة السكانية فسيفتح هذا الباب واسعا أمام سيل من المطالبات التي قد تصل إلى حد الضم الفعلي بالقوة لأراضي الغير.
وقد يصح أن صفقات مصالح كبرى جرى تبادلها بين واشنطون وموسكو بين البلطيق والبلقان والشرق الأوسط، وهي صفقات مصالح شواهدها واضحة لكنها ليست معلنة، ومن الأفضل لسلام العالم ألا تتحول إلى «مبادئ» في العلاقات الدولية. والأهم في هذه التفاهمات أنها تستند إلى مقومات يمكن أن تضمن لها الاستمرار وتحقيق الاستقرار لمن تمس أوضاعهم القانونية، حتى لا تتحول هي بدورها إلى قنابل موقوتة تنفجر لاحقا، فالهوية وكل ما يمكن اعتباره مكونات «فوق مادية» تكتسب باستمرار تأثيرا ينافس المصالح، وقد يساويها، في أماكن كثيرة من العالم.
فهل يقف اللاحقون أمام أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، مكررين مشهد الربع الأول من القرن الماضي، ليدونوا هجائياتهم الخاصة بحق «اتفاقية بوتين أوباما» غير المكتوبة؟!.