يقول محمد علي الطاهر: «... لأن الأمير شكيب الذي اشتغل خمسا وستين سنة من حياته وهو يكتب ويخطب وينظم ستشتغل الدنيا عليه خمسمائة سنة، بل أكثر، وستصدر كتب كثيرة عنه تتناوله بالتحليل والشرح شأن أهل الخلود الذين عاشوا للناس وعملوا من أجلهم فاهتم بهم الناس وعملوا على تخليدهم».
لقد ظل شكيب بن حمود الأرسلاني الذي ينحدر في نسبه من سلالة الملك النعمان بن المنذر بن ماء السماء اللخمي فخورا بنسبه العربي الذي أثر في تكوينه وبناء شخصيته طوال حياته.
ولد في قرية الشويفات في لبنان ليلة الأول من رمضان 1286هـ / 5 ديسمبر (كانون الأول) 1869م لعائلة سياسية أدبية؛ فوالده كان يجيد النثر ويقرض الشعر، وأخواه نسيب وعادل كاتبان شاعران، وكلهم شغل بالسياسة.
اهتم والده بتعليمه القراءة والكتابة، وحفظ جانبا من القرآن الكريم وهو صغير السن، وأتم تعليمه في المدرسة الأميركية، لينتقل في سنة 1879م إلى مدرسة الحكمة وتتلمذ فيها على يدي عبد الله البستاني. انتقل إلى المدرسة السلطانية في سنة 1887م التي كان يدرس فيها الشيخ محمد عبده فلازمه وحضر مجالسه وتأثر به وتوثقت الروابط بينهما، تفتقت موهبته الشعرية مبكرا وانصرف إلى الكتابة والتأليف والسياسة بقية حياته.
مراحل حياته السياسية
ويمكن إيجاز حياته السياسية في أربع مراحل:
- المرحلة العثمانية (1887 - 1918): بدأت بعد وفاة والده سنة 1887م حيث أصبح مديرا للشويفات، ثم تولى منصب قائمقام الشوف في 1902م، تخللها تطوعه للدفاع عن الأراضي الليبية بعد تعرضها للاحتلال الإيطالي سنة 1911م، ومشاركته بتأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية سنة 1913م، وانتدابه إلى المدينة المنورة للإشراف على تأسيس مدرسة «دار الفنون» ثم مشاركته في مجلس «المبعوثان» الذي أصبح عضوا فيه ونائبا لحوران إلى سنة 1918م.
- المرحلة الأوروبية الأولى (1918 - 1923): حيث انهزمت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وهو في مهمة سياسية في برلين فاضطر إلى الإقامة فيها، ثم غادرها إلى جنيف في آخر العام، ليعود إلى برلين مرة أخرى في سنة 1920م ويرافق أنور باشا الذي لجأ إلى برلين في رحلة إلى موسكو سنة 1921م. انتخب سكرتيرا عاما للمؤتمر السوري الفلسطيني المنعقد في جنيف سنة 1921م ثم قررت اللجنة التنفيذية للمؤتمر في القاهرة سنة 1922م تأليف وفد لبسط القضية السورية وبيان حقيقتها أمام الرأي العام الأوروبي بوجه عام وأمام مجلس جمعية الأمم في جنيف بوجه خاص، وتولى شكيب أرسلان المقيم في برلين في ذلك الوقت رئاسة الوفد.
[caption id="attachment_55251477" align="alignleft" width="300"] آخر صورة لشكيب أرسلان على الباخرة بروفيدانس في ميناء الإسكندرية 1946[/caption]
- مرحلة مرسين (1923 - 1925): حيث عاد من أوروبا سنة 1923م وأقام في مرسين الواقعة على الشاطئ الجنوبي لتركيا نظرا لقربها من سوريا حتى تتمكن والدته من زيارته بسهولة، واستدعى أسرته للإقامة معه فوصلت إليه في مارس (آذار) 1924م وكان لم يلتق بأسرته طيلة ستة أعوام، ولكن لم تطل إقامته في مرسين إذ سرعان ما انتقل للإقامة في جنيف في منتصف 1925م ثم لحقت به أسرته.
- المرحلة الأوروبية الثانية (1925 - 1946): حيث استقر في سويسرا مواصلا من هناك أعماله كرئيس للوفد السوري في متابعة القضية السورية ومراجعة جمعية الأمم، وكانت المرحلة الأكثر سخونة في حياته السياسية في ظل سيطرة الاستعمار على معظم العالم العربي، وقد سافر إلى أميركا في يناير (كانون الثاني) سنة 1927م للمشاركة في مؤتمر حزب الاستقلال السوري، ثم سافر في أكتوبر (تشرين الأول) من نفس العام إلى موسكو بدعوة من الحكومة السوفياتية لحضور احتفالاتها بمناسبة الذكرى العاشرة للثورة البلشفية، كما شارك في مؤتمر مكافحة الاستعمار المنعقد في بروكسل في ديسمبر 1927م وشارك أيضا في المؤتمر الاشتراكي الثاني في بروكسل سنة 1928م، كما أسس مكتب إعلام البلدان الإسلامية بجنيف في سنة 1928م، وزار الحجاز لتأدية فريضة الحج 1929م، وتوجه إلى فرنسا ومنها إلى إسبانيا والمغرب سنة 1930م، وأصدر في نفس السنة جريدة سماها «الأمة العربية» باللغة الفرنسية في جنيف، وحضر مؤتمر المستشرقين المنعقد في لايدن 1931م، وزار أوروبا الشرقية 1932م، ثم قام بجولة في أوروبا شملت ألمانيا ويوغسلافيا وهنغاريا وإيطاليا في 1933 - 1934م، وشارك في وفد المصالحة الذي شكله المؤتمر الإسلامي في القدس أثناء الحرب بين السعودية واليمن 1934م، ثم اشترك في مؤتمر عربي عقد في روما في نهاية 1934م، وترأس المؤتمر الإسلامي الأوروبي المنعقد في جنيف في سبتمبر (أيلول) 1935م، وبعد عقد المعاهدة الفرنسية السورية سنة 1936م سمح له بالعودة إلى وطنه فوصل إلى بيروت في 3 يونيو (حزيران) 1936م واشترك في مؤتمر بلودان في سوريا في سبتمبر 1937م وانتخب نائبا ثانيا لرئيس المؤتمر، وكان يعتزم الاستقرار في وطنه ولكن رفض حكومة فرنسا الجديدة تصديق المعاهدة اضطره إلى العودة إلى جنيف في آخر 1937م. وزار برلين في أكتوبر 1939م فشنت عليه فرنسا حملة تشهير مكثفة بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، وحين عاد إلى جنيف أنذرته الحكومة السويسرية بسبب ضغوط الحلفاء بأنها لن تسمح له بالعودة في حال خروجه منها، وبعد انتهاء الحرب وإعلان استقلال سوريا ولبنان عاد شكيب إلى وطنه في 30 أكتوبر 1946م، ولم يطل به المقام حيث توفي بعد وصوله بنحو أربعين يوما في 9 ديسمبر 1946م وصلي عليه في اليوم التالي في الجامع العمري في بيروت ثم نقل جثمانه إلى مسقط رأسه في الشويفات حيث دفن هناك.
[blockquote]حصل شكيب أرسلان على الجنسية الحجازية وأقام في أوروبا كمواطن سعودي.. وهو الأمر الذي أضفى على إقامته في جنيف طابعا شرعيا[/blockquote]
وقد خلف أمير البيان تراثا كبيرا من المطبوع والمخطوط في الشعر والأدب والتاريخ والجغرافيا والفكر والسياسة تأليفا وتحقيقا وترجمة وتقديما يصعب حصره، كما كتب في أدبه وسيرته ونضاله الكثير والكثير من المقالات والمباحث في الصحف والمجلات والكتب والدوريات أثناء حياته وبعد وفاته، ولم تقتصر هذه الكتابات على اللغة العربية، بل تعدتها إلى لغات أخرى لأنه كان ممن يلفت الأنظار بفكره وقلمه وجهاده كما ظلت سيرته ونشاطه السياسي وأدبه ومؤلفاته موضوعا لعدد من الدراسات الأكاديمية والرسائل العلمية والمؤلفات الأدبية.
علاقة شكيب أرسلان بالسعودية
أ - التعارف والارتباط:
لا شك أن سيطرة الملك عبد العزيز على الحجاز كان سببا رئيسا في فتح قنوات الاتصال مع كثير من الشخصيات المهتمة بالقضايا العربية، فقد جذبتهم قدراته السياسية والعسكرية التي جعلته يطوي أراضي شبه الجزيرة العربية تحت ظلال لوائه، ورأوا فيه رمزا للعروبة التي انتهك الاستعمار استقلالها خارج الجزيرة فعقدوا عليه الآمال في المساعدة والدعم لإنقاذ الشعوب العربية وتخليص أراضيها من براثن الاستعمار، سواء في فلسطين أو سوريا ولبنان، فمنهم من التحق بخدمته وعمل في بلاطه ومنهم من توثقت علاقته بهذا الملك العربي النبيل، ومن هؤلاء الأمير شكيب أرسلان الذي أظهر إعجابه بشخصية الملك عبد العزيز من خلال مقالاته التي كان ينشرها في الصحف العربية، ونجد جريدة «أم القرى» تنقل إحدى مقالاته حول مسألة الحجاز أثناء حصار جدة والتي كانت بعنوان «الأشياء فوق الأشخاص»، محتفية به في زمن مبكر.
وفي رسالة كتبها شكيب أرسلان وهو في مرسين إلى نبيه العظمة في القاهرة مؤرخة في 26 / 5 / 1925م قال: «... ثم إنني بعد ذلك اطلعت على بعض مراسلات سرية أكدت لي أن ابن سعود لا يفرط في حقوق العرب وأنه باذل الجهد في تقليص النفوذ الأجنبي في الجزيرة.»... ولا نعلم هل هذه المراسلات السرية كانت بين شكيب أرسلان شخصيا والملك عبد العزيز أم أن اطلاعه عليها من طرق أخرى! ولكنها من دون شك تدل دلالة كبيرة على الانطباع الإيجابي الذي تشكل لديه نحو الملك عبد العزيز.
ثم نجده يكتب مقالة من مرسين بتاريخ 29 يونيو 1925م تحت عنوان «عين الإنجليز على العقبة وقسم من الحجاز»، محذرا من الأهداف الاستعمارية التي يجري التخطيط لها بضم بعض أراضي الحجاز وخصوصا العقبة ومعان إلى منطقة انتدابها، ومعرضا بالأمير عبد الله بن الحسين أمير شرق الأردن ووزارته الخاضعة للانتداب البريطاني، مؤكدا أن ابن سعود أصبح كالشوكة في حلق بريطانيا بسيطرته على الجوف وما صاقبها، وأن استمرار الصراع بين ابن سعود والأشراف يمكن أولئك المستعمرين من إنشاب مخالبهم في الجزيرة العربية، ويدعو ابن سعود إلى قطع الطريق عليهم وإطفاء الفتنة بين أمراء العرب بقبول الصلح في ظل احتمال بعيد بسقوط جدة في يده كما كان يظن.
ومن الواضح أن شكيب كتب هذا المقال قبل علمه بتنفيذ الخطة، حيث اتفق الملك علي بن الحسين وأخوه الأمير عبد الله على ضم ولاية معان والعقبة إلى إمارة شرق الأردن، وكان 25 يونيو 1925م التاريخ الرسمي لهذا الإلحاق، وهو الأمر الذي جعل الجريدة تشير إلى ذلك في حاشية المقال محيلة إلى ما نشرته من وصف لصورة هذا الضم العجيبة في الصفحة الأخيرة من نفس العدد تحت عنوان «تأمل في هذا!!».
[caption id="attachment_55251478" align="alignleft" width="300"] شكيب أرسلان الأول يساراً فمحمد الطاهر ثم أحمد حلمي وفوزان السابق السفير السعودي في القاهرة باللباس العربي[/caption]
وكان شكيب أرسلان يرى بأنه لا سبيل إلى الوقوف ضد المشاريع الاستعمارية والنفوذ الأجنبي إلا اتحاد العرب جميعا واندماجهم في صف واحد ضد المستعمرين، فكتب مقالة من مرسين بتاريخ 15 أغسطس (آب) بعنوان «أزفت ساعة الاتحاد أيها العرب»، دعا فيها إلى وجوب جمع كلمة ملوك العرب وتحالفهم على عدم إدخال الأجانب في أمور الجزيرة والعربية، مقترحا ترك الفصل في مسألة الحجاز لمؤتمر إسلامي. وقد تضمنت هذه المقالة كلاما وجهه إلى الملك الحسين يعبر فيه عن موقفه بكل صراحة، حيث قال: «لا جرم أن هوانا مع ابن سعود من أجل أعمال ابنك عبد الله والزمرة المحيطة به وبابنك علي، وأنهم يرون لأنفسهم الحق في إهدار كل ما يقدرون على إهداره من حقوق العرب وأملاكهم غنيمة باردة للإنجليز إذا كان هؤلاء يمكنون عليا من الحجاز ويتركون عبد الله في شرق الأردن».
فشكيب في تلك الفترة التي سبقت تسليم جدة للملك عبد العزيز بنحو أربعة أشهر يظهر دوافعه إلى تأييد ابن سعود وميله إليه دون مواربة، حيث أعلنها صريحة «هوانا مع ابن سعود» لأنه يرى أنه لا يمكن أن يهدر حقوق العرب أو يفرط في ديارهم أو أن يكون مطية للأجانب، بل إنه اعتبره كما سبقت الإشارة شوكة في حلوقهم، ومع ذلك لم يدع إلى إخراج علي بن الحسين من الحجاز أو إنهاء حكم الأشراف في جزيرة العرب، بل كان يفضل الاتحاد والاتفاق بين الزعماء في الجزيرة العربية ليقفوا صفا واحد، وهو الأمر الذي يجعل منهم قوة مرعبة للمستعمرين.
ويظهر بعد ذلك أن شكيب بدأ بمراسلة الملك عبد العزيز بطريقة مباشرة قبل استسلام جدة وانضوائها تحت لوائه، وقد نشرت جريدة «الشورى» رسالة جوابية من الملك عبد العزيز موجهة إلى شكيب أرسلان مؤرخة في 21 جمادى الأولى 1344هـ نصها:
«من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود إلى سمو الأمير شكيب آل أرسلان الكرام دام كننا للمسلمين والعرب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.
فقد حظينا بكتاب نابغة العرب فألفيناه المحجة الوضحاء، وشكرنا فيه الجد والهمة القعساء، ولعل زمن تحقيق أماني الصديق الكريم قريب إن شاء الله تعالى، وإننا على ما تعهدوننا من تلقي نصح المخلصين بالقبول، فإن قصر الزمن علينا اليوم بلقياكم والتمتع برؤيتكم فليس غدا ببعيد عن توحيد العرى وجمع الشمل، ولي الأمل بالله عز وجل أن يعتمد بعضنا بعضا في السراء والضراء، والله حسبنا ونعم الوكيل. حفظكم الله بعنايته ورعايته».
ويتضح من خلال رد الملك على رسالة شكيب أن هدف الرسالة كان السعي إلى وحدة العرب ولم شملهم، ليعقب هذه الرسالة مقالة لشكيب كتبها من جنيف بتاريخ 13 مارس 1926م نشرتها الشورى عنوانها «زعامة جزيرة العرب نغمة مضرة»، يرد فيها على من يقلل من شأن الجزيرة العربية وزعمائها وداحضا كل تشكيك في استقلالها. ومما جاء فيها: «... فابن سعود مستقل في نجد والحجاز وقسم من عسير وأطراف الشام والبلقاء إلى أطراف العراق إلى أحقاف اليمامة استقلالا حقيقيا لا شائبة فيه ولا تعلو فوق يده يد إلا يد الله، ولا تجد لأجنبي سلطة في جميع هذه الأقطار، وإن كانت انعقدت بينه وبين الإنجليز معاهدة فيما مضى أو اتفاق خاص ببعض مسائل فيما حضر فلم يكن ذلك ليمس شيئا من جانب استقلاله أو استقلال بلاده، وإنكلترا تداريه أكثر مما يداريها لأنها تعلم أنه عند الحاجة يقدر على حشد مائة ألف إلى مائتي ألف مقاتل من أشجع مقاتلة الأرض ومن أشدهم حماسة وتمسكا بفضائل الشرع». وبعد تأكيده على استقلال الإمام يحيى أيضا ذكر أنه لا نجدة لبلاد العرب الأخرى إلا من جزيرة العرب وأن أولئك العرب الذين ينفخون في بوق الشقاق بين الإمام يحيى والملك عبد العزيز هم أشد عداوة للأمة العربية من الفرنساوي والإنجليزي والطوراني ومن اللنبي وجمال باشا وغورو وصموئيل وجوفنيل وغيرهم.
في هذه المقالة نجد شكيب أرسلان يفند كل تشكيك يطال ابن سعود واستقلاله والذي تبرهنه مساحات دولته الواسعة وهيبته ونفوذه، وهو ما جعل بريطانيا تتعامل معه بطريقة مختلفة تراعي فيها تلك الجوانب، كما تتجلى فيها الروح القومية التي أظهرت حرص شكيب على تحقق الوئام بين الملك عبد العزيز والإمام يحيى وديمومته لأنه يعتبرهما البقية الباقية للأمة العربية ومناط آمالها ونواة اتحادها.
بعد ذلك بمدة وجيزة انعقد المؤتمر الإسلامي في مكة المكرمة، الذي افتتحه الملك عبد العزيز في يوم الاثنين 26 ذي القعدة 1344هـ الموافق 7 يونيو 1926م، وعلى الرغم من عدم مشاركة شكيب أرسلان فقد تقرر فيه انتخاب لجنة تنفيذية وأن يقوم شكيب أرسلان بوظيفة السكرتير العام للمؤتمر ليدير حركة اللجنة التنفيذية، وإن لم يقبل يعهد إلى لجنة للاتفاق على اختيار السكرتير العام. ويبدو أن إشارتهم إلى احتمال عدم القبول نابعة من كونهم اشترطوا إقامة اللجنة التنفيذية والسكرتير العام إقامة دائمة في مركز المؤتمر، إضافة إلى ما يعرفونه من انشغال شكيب أرسلان بأعمال اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري / الفلسطيني في أوروبا. ويظهر أن أرسلان لم يقبل هذه المهمة لتلك الأسباب، حيث اعتذر عن قبولها إلا أنهم رضوا منه بالإقامة في الحجاز أربعة أشهر لا غير، في حين لمح رشيد رضا في إحدى رسائله إلى شكيب برغبته في وجوده في الحجاز لهدف العمل مستشارا سياسيا لابن سعود.
ويمكن تفسير الدعوة التي وجهها الملك عبد العزيز إلى شكيب أرسلان لزيارة الحجاز بعد المؤتمر ضمن هذا الإطار أيضا فقد أشارت جريدة «الشورى» إلى هذه الدعوة وذكرت أن شكيب أرسلان سيلبي هذه الدعوة وسيتوجه إلى الحجاز بعد عودته من رحلته إلى أميركا، التي بدأت في 4 يناير 1927م وانتهت 6 مايو (أيار) 1927م، وقد كان طلب الحصول على جواز سفر من الحجاز له ولرفيقه إحسان الجابري قبل هذه الرحلة، ولكن يبدو أن انشغال الأمير بأعمال الوفد السوري في أوروبا بعد رجوعه من أميركا حال دون تلبية دعوة السعوديين، ولكنه ما انفك لاهجا بقلمه بالثناء على ابن سعود وسياسته.
[caption id="attachment_55251479" align="alignleft" width="300"] الملك عبدالعزيز مع نجله سعود[/caption]
[blockquote]الوطنيون السوريون عرضوا على الملك عبد العزيز المساعدة في تحرير سوريا من الاستعمار الفرنسي وتعيين نجله سعود ملكا عليها.. لكنه اعتذر[/blockquote]
ولكن دعوة الملك عبد العزيز أتت أيضا متزامنة مع دور بدأ يلعبه شكيب في سبيل تعزيز العلاقات السعودية الألمانية، وتشير بعض الوثائق الألمانية إلى سعي شكيب أرسلان عند السلطات الألمانية سنة 1926م لإرسال أحد علماء الطب الألمان للعمل في جدة، كما سعى في سنة 1927م عند الحكومة السعودية للسماح لأستاذين جامعيين ألمانيين بزيارة جدة ليقوما بإجراء بحوث اقتصادية عن التسويق والتجارة لخدمة مصالح الدوائر التجارية والصناعية الألمانية في الحجاز في ظل تنامي أهميته الاقتصادية. وكانت الحكومة السعودية قد رفضت منحهم التأشيرة اللازمة أول الأمر بسبب عدم اعتراف ألمانيا بالدولة السعودية، وكان شكيب بحكم علاقاته القديمة والوثيقة مع المسؤولين الألمان التي تشكلت خلال الحرب العالمية الأولى مفيدا في إقناع الألمان بترسيخ مصالحهم في الجزيرة العربية لأنه كان يرى في الملك عبد العزيز صورة القائد العربي النبيل القادر على تحقيق النهضة الاقتصادية والآمال السياسية للعرب، ولعل في هذا تفسيرا منطقيا لما تشير إليه بعض المصادر حول حصوله على الجنسية الحجازية سنة 1926م وهي السنة التي طلب فيها الجواز الحجازي.
وعلى الرغم من الحفاوة والاحترام التي أظهرتها «أم القرى» الجريدة الرسمية السعودية بشكيب أرسلان في وقت سابق، فإن ذلك لم يمنعها من التعقيب على إحدى مقالاته وذلك لتوضيح بعض أمور العقيدة التي لا يمكن التغاضي عنها، فقد نشرت أم القرى في عددها رقم 108 وتاريخ 3 رجب 1345هـ / 7 يناير 1927م تعقيبا على مقالة شكيب أرسلان المنشورة في «كوكب الشرق» ردا على كاتب آخر في نفس الجريدة كان قد عرض بالإمام يحيى أيدت فيها اهتمام شكيب بالوحدة العربية وصححت ما نسبه إلى أهل نجد خطأ بأنهم يعدون كل زائر للقبور مشركا، موضحة أن زيارة القبور على الوجه المشروع سنة متبعة، وأن علماء نجد والحجاز وعلماء المسلمين الحاضرين في المؤتمر الإسلامي في حج سنة 1344هـ نشروا بيانا مشتركا بينوا فيه كيفية زيارة القبور المشروعة، مؤكدة أن النجديين لا يمنعون إلا الشرك والبدع المبتدعة وعبادة القباب والقبور ودعاء أصحاب القبور لأن العبادة لا تصرف إلا لله، كما أن الضر والنفع بيده وحده.
هذا في حين لم تتغير وجهة نظر شكيب أرسلان نحو الملك عبد العزيز، بل إنه كان يزداد في كل يوم إعجابا بشخصيته وتقديرا لمواقفه ويظهر ذلك في رسائله وكتاباته. ومما قاله تعبيرا عن ذلك: «ولا ننسى إن ابن سعود هو بنفسه سخي اليد عظيم الحمية حافظ لشنشنة العرب الحقيقية».
ب - التجلي والانصهار:
وفي سنة 1347هـ / 1929م كلف الملك عبد العزيز شكيب أرسلان وخالد القرقني رسميا بالاتصال بالشركات الألمانية في برلين لدعوتها لتنفيذ المشروعات الحضارية المختلفة في بلاده، فعملا على ذلك بجد كما التقيا بالمسؤولين الألمان للحصول على التسهيلات اللازمة ونجحا في الحصول على حد ائتماني للحكومة السعودية يصل إلى 4 ملايين مارك، مما مكن الملك عبد العزيز من إنجاز بعض الصفقات مع الشركات الألمانية لتنفيذ خططه الاقتصادية، بل امتد دور شكيب إلى ما هو أبعد من ذلك، فلقد واصل محاولاته لإقناع الألمان ليقوموا بدور أوسع في تنمية البلاد السعودية، وشجع أصدقاءه في وزارة الخارجية على زيارة المنطقة بهدف تنمية العلاقات السعودية / الألمانية، وقد بدأت الشركات الألمانية تتنافس للمشاركة في المشروعات السعودية وواصلت الدوائر التجارية اهتمامها فازدادت نشاطات الشركات الألمانية في السوق السعودية، وكانت من نتيجة ذلك توقيع معاهدة صداقة بين مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها وبين الرايخ الألماني في 16 ذي القعدة 1347هـ الموافق 26 أبريل (نيسان) 1929م في القاهرة.
وفي هذا العام الذي وقعت فيه معاهدة الصداقة عزم شكيب أرسلان على تأدية فريضة الحج التي لم يؤدها من قبل فشد رحاله من أوروبا ميمما شطره إلى الحجاز، وفي حين لا يستبعد تبييته لنية الحج في هذا العام فلا يمكن عزل الموضوع عن دور شكيب في المسألة الألمانية الذي قد يكون سببا في تعجيل الحج بهدف لقاء ابن سعود أيضا والتعرف عليه عن قرب، وهذا على فرض أن ابن سعود لم يوجه الدعوة إليه مجددا.
وما إن وطئت قدما شكيب الأراضي المصرية أثناء طريقه إلى الحجاز إلا وبرقية الملك عبد العزيز تصل إليه في بورسعيد متضمنة الترحيب به في ضيافته من حين دخوله الحجاز إلى مغادرته، ولم يملك إلا الاستجابة لهذا الكرم من ملك يتمثل في شخصيته سمو الأخلاق العربية النبيلة. ولعل هذه البرقية تلمح إلى أن حضوره كان من دون دعوة خاصة على الرغم من إشارة أحد المصادر إلى دعوته من قبل الملك ابن سعود.
وكان مقررا لشكيب أن يبحر من الأراضي المصرية على الباخرة الخديوية إلى جدة يوم 11 مايو. وقد صادف وصول شكيب أرسلان إلى جدة يوم الأحد 3 ذي الحجة 1347هـ الموافق 13 مايو 1929م واستقبله مندوب الملك عبد العزيز وبعض رجال الحكومة استقبالا رسميا على ظهر الباخرة ليتجه مباشرة لمقابلة الملك، وفي المساء انتقل برفقة الملك عبد العزيز في سيارته الخاصة إلى مكة المكرمة.
وبعد أيام قليلة من انقضاء موسم الحج صادق الملك عبد العزيز على معاهدة الصداقة السعودية الألمانية، وذلك في غرة محرم 1348هـ الموافق 7 يونيو 1929م، بينما كان شكيب أرسلان قد غادر مكة بسبب شدة الحرارة إلى الطائف التي أمضى فيها قرابة الشهر ثم عاد إلى مكة في التاسع عشر من شهر محرم 1348هـ / 26 يونيو 1929م لوداع الملك عبد العزيز الذي كان يعتزم المغادرة إلى نجد.
وحضر مع الملك المأدبة التي أقامها إبراهيم ومحمد الفضل في جدة، وكان مما قاله الملك عبد العزيز عن شكيب أرسلان في تلك المناسبة: «لا يوجد مخلص يقول كلمة سوء في حق الأمير شكيب، وهيهات لخصومه أن يستطيعوا النيل منه، فنحن نعرف الأمير وأنه مجاهد حقا، فإذا كانوا إخوانه أحرار العرب يدافعون عن وطنهم فالأمير يدافع أكثر منهم ويزيد عجبهم بأنه يهاجم خصوم القضية في وسط أوروبا. وأنا إن عينت سفراء فسوف يكون الأمير أول من أرجوه قبول ذلك لأن فيه كل المؤهلات ولا يوجد الآن عند العرب مثله».
[blockquote]قبل أن يتسلم الملك عبد العزيز جدة كشف شكيب أرسلان عن تأييده لابن سعود وميله إليه دون مواربة.. حيث أعلنها صريحة: «هوانا مع ابن سعود»[/blockquote]
وقد لا يستغرب هذا الرأي إذا علمنا عن مراسلاته السابقة مع الملك عبد العزيز واتصالاته المستمرة المرتبطة بالمهمات التي كلفه بها قبل أن يتعرف عليه شخصيا، إضافة إلى أن الملك أيضا كان يتابع بعض الجرائد التي كان يكتب فيها شكيب حول القضايا العربية بصفة عامة وحول القضية السورية بصفة خاصة ويقرأها بنفسه كجريدة «الشورى» على سبيل المثال.
وقد عاد شكيب إلى الطائف بعد مغادرة الملك للحجاز، وكان كتب خلال فترة وجوده في الطائف الحلقات الأربع الأولى من كتابه «الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف»، التي نشرتها جريدة «الشورى» فيما بعد، وقد ذيلها جميعا بمكان الكتابة وهو الطائف، في حين كانت الرابعة منها بتاريخ 20 صفر 1348هـ.
وقد سجل الملك عبد العزيز انطباعه عن شكيب أرسلان في رسالة إلى الشيخ محمد رشيد رضا جاء فيها: «أنسنا بلقاء صديقكم وصديقنا الأمير شكيب أرسلان، وهو كما وصفتم إخلاصا وعلما وأدبا»، مما يؤكد أن حديثه عنه في جدة لم يكن مجاملة للضيف بقدر ما هو إعجاب بشخصيته وجهاده في سبيل رفعة العرب وتحرير أوطانهم.
وقد كان الاحتفاء بشكيب أرسلان في الحجاز من قبل رجال الدولة والأدباء والمثقفين نابعا من تقدير المكانة السياسية والأدبية له لدرجة أن يكتب افتتاحية أحد أعداد الجريدة الرسمية «أم القرى»، وكانت تحت عنوان «الحجاز وبعد تأثيره في الأرض»، وقد وصفته الجريدة بسعادة كاتب الشرق الأكبر الأمير شكيب أرسلان، بل إن الجريدة حرصت على تتبع تنقلاته وأخباره خلال وجوده في الحجاز، ومن ذلك ما نشرته في صدر عددها رقم 247 تحت عنوان «خطب قيمة لعطوفة أمير البيان شكيب أرسلان»، حيث سطرت خلاصة الخطب التي ألقاها في الحفلات التي أقيمت له بمكة المكرمة. كما أشارت الجريدة إلى أن مغادرته ستكون مساء الجمعة 9 / 4 / 1348هـ على الباخرة الطليانية إلى أوروبا، موضحة أن مدة إقامته في الحجاز كانت أربعة أشهر ظل خلالها موضع الحفاوة، وأقيمت له المآدب والحفلات، مشيرة إلى مآدب وحفلات الأسبوع الأخير في مكة المكرمة التي أقامها فؤاد حمزة وكيل الخارجية وعبد الله الشيبي وعباس قطان أمين العاصمة وأطباء الصحة وعبد الله السليمان الحمدان وكيل المالية. وقد غادر شكيب أرسلان مكة المكرمة مساء الخميس متجها إلى جدة التي أقيمت له فيها مآدب أخرى قبل مغادرته عند محمد أفندي نصيف وعند عبد الله علي رضا، ليسافر من ميناء جدة بعد ظهر الجمعة.
[caption id="attachment_55251480" align="alignleft" width="211"] خبر وصول شكيب أرسلان إلى جدة نشر في أم القرى 16 يونيو1929[/caption]
وبقدر ما أدخلت زيارة الحجاز من السرور على نفس شكيب أرسلان وساهمت في توثيق الروابط بينه وبين الملك عبد العزيز وازدياد إعجابه به، حيث قال: «وجدت فيه الملك الأشم الأصيد الذي تلوح سيماء البطولة على وجهه، والعاهل الصنديد الأنجد الذي كأنما قد ثوب استقلال العرب الحقيقي على قده، فحمدت الله على أن عيني رأت فوق ما أذني سمعت، وتفاءلت خيرا بمستقبل هذه الأمة»، بقدر ما أحدثت ردود فعل قوية لدى السلطات الفرنسية من جهة، ولدى التيار المناوئ له في التيار السياسي السوري من جهة أخرى، فقد ارتابت السلطات الفرنسية من هذه الزيارة ولقاءات شكيب المتكررة بابن سعود في أثنائها، بينما شنت الجهات السورية المعادية لشكيب حملات تشهيرية ضده متهمة إياه بأن هدف زيارته البحث عن المناصب وليس الحج، فتصدت لهذه الحملات مجلة «الفتح»، مشيرة إلى أنها فتنة لا تشرف القائمين بها.
ويشير تقرير فرنسي إلى أن كتلة الوطنيين يطمحون لرؤية سوريا مستقلة بمساعدة مؤثرة وفعالة من ابن سعود، ملمحا إلى تاريخ العلاقة بين الوطنيين السوريين وابن سعود التي يرون أنها تعود إلى 1926م، ولكنهم توجهوا إليه مرة أخرى عندما تعلق عمل الجمعية التأسيسية وقطعت المفاوضات مع المفوضية العليا سنة 1928م، ثم أشار التقرير إلى مغادرة شكيب جنيف في أبريل 1929 إلى مكة للحج، وكان ينوي التوقف في فلسطين لرئاسة مؤتمر يتبنى إعلان المملكة السورية وتعيين نجل ابن سعود ملكا لها، ولكن ذلك أجهض بسبب منع البريطانيين دخوله لفلسطين.
وأشار التقرير إلى أنه خلال إقامة شكيب المطولة في الحجاز حشد الحاشية المقربة لابن سعود أمثال الحكيم وياسين وحمزة وغيرهم حول أطروحات الوطنيين، وأن ابن سعود حينما فاتحه شكيب أشار بتأجيل الموضوع. ولكن شكيب كتب إلى فوزي غازي بذلك في 18 مايو 1929م فعقدت الكتلة الوطنية اجتماعا في بعلبك وكتبت إلى ابن سعود تؤكد قرار إعلان الملكية وترشيح نجله سعود لها.
[blockquote]بعد إعلان استقلال سوريا ولبنان عاد شكيب إلى وطنه في أكتوبر 1946.. ولم يطل به المقام حيث توفي بعد وصوله بأربعين يوما[/blockquote]
طرحت الفكرة مجددا بعد عودة الحكيم إلى دمشق في 10 أكتوبر 1929م وسافر منها للأحساء ليؤكد لابن سعود الذي كان هناك المسألة. وباقتراح من الحكيم استقدم ابن سعود القاوقجي لتنظيم قواته وتعاقد مع عدد من الضباط السوريين. وقامت حملات في مصر وفلسطين بأن ابن سعود سيحقق الوحدة العربية. وفي يناير 1930م أرسلت البرقيات بمناسبة إعلان مملكته في نجد.
وفي هذا التقرير خلط لكثير من الأمور لأن الملك عبد العزيز لم يكن له أي أطماع في ملك سوريا حتى وإن أبدى بعض الوطنيين رغبتهم في ذلك، حيث رأوا في شخصيته الأمل الذي ينقذهم من سطوة المستعمرين، حيث إنه بعد نهاية الثورة السورية الكبرى دعت فرنسا الشعب السوري إلى انتخاب جمعية وطنية لإقرار نظام الحكم وحضر الشيخ كامل قصاب إلى السعودية في تلك الفترة الحرجة من تاريخ سوريا، فاقترح على الملك أن يتولى مهمة تحرير سوريا فينقذها ويجلس على عرشها وينال شكرها، ولكن الملك اعتذر بشدة وقال: «إن تقاليدنا القومية والدينية تحول دون قبولي عرشا تحت حماية الأجانب»، في حين لا شك أن شكيب أرسلان هو الذي مهد سبيل قدوم القاوقجي للحجاز بعد أن كان يبحث عن ملجأ إثر إجهاض الثورة السورية، وكان حضور القاوقجي بعد قدوم شكيب للحجاز.
وفي تقرير من القنصلية الهولندية في جدة بتاريخ 27 / 11 / 1929م إشارة إلى تشكيل جيش نظامي برئاسة فوزي القاوقجي الذي حضر حج العام الماضي 1347هـ مع شكيب أرسلان!!
وفي تقرير فرنسي بتاريخ 28 / 8 / 1930م إشارة إلى أن فيلبي أخبر أن الملك ابن سعود ينوي الاستفادة من خدمات الوطنيين السوريين وجعل بلاطه مركز جذب عربي، وذلك بتكليف شكيب أرسلان بالتفاوض مع إسبانيا والحكيم مع بولونيا لعقد معاهدات معهما.
وبغض النظر عن مدى دقة هذه التقارير فلا شك أن زيارة شكيب أرسلان للحجاز قد أحدثت عند الفرنسيين ردود فعل غير مطمئنة لأنهم لم ينظروا إليها كزيارة عادية لتأدية فريضة الحج، فهم يخشون من أي تعاون يؤثر على مركزهم في سوريا في ظل لجوء عدد كبير من الثوار إلى ابن سعود واستقرارهم داخل حدوده في منطقة القريات، وهو الموقف العظيم الذي ما انفك شكيب أرسلان له ذاكرا وعليه شاكرا، ومن ذلك قوله: «ولما أنذر الإنجليز الثوار السوريين بمغادرة الأزرق أو أن يستسلموا إلى الفرنسيين اضطر نحو ألف نسمة إلى الاستسلام، ولكن شقيقي عادل وسلطان باشا الأطرش وغيرهما من القواد أبوا الاستسلام وقالوا للإنجليز: نحن قاصدون إلى أرض ابن سعود فليس لكم أن تلحقونا إلى هناك وليس لكم في أرض ابن سعود أدنى يد علينا. فساروا إلى وادي السرحان وانتجعوا واحة النبك وتفيأوا في ظلال تلك الراية العربية الحقيقية، وكانوا نحو ألف وخمسمائة نسمة. ولولا ظل ابن سعود لما قدروا أن يستقروا في مكان، ولضاقت عليهم الأرض بما رحبت. فلا يقدرون أن يدخلوا سوريا إلا إذا طلبوا الأمان من الفرنسيس ولا فلسطين ولا شرق الأردن ولا العراق تقدر أن تقبلهم، وليس لهم سبيل إلى اليمن».
وقد ذكر شكيب أرسلان في رسالة إلى رشيد رضا بتاريخ 3 محرم 1348هـ إلى أن الملك عبد العزيز عرض عليه الإقامة في الحجاز، كما عرض عليه عددا من الوظائف، إلا أنه اعتذر عن تلبية تلك العروض بسبب انشغاله بمتابعة القضية السورية / الفلسطينية في أوروبا.
ويرى بعض الباحثين أن حصول شكيب على الجنسية الحجازية لم يكن في سنة 1926م كما أشرنا سابقا، ولكنه جاء أثناء وجوده في الحجاز لتأدية فريضة الحج عطفا على كونه بعد هذه الرحلة بدأ يظهر في أوروبا كمواطن سعودي، وهو الأمر الذي أضفى على إقامته في جنيف طابعا شرعيا وجنبه إشكالات كانت تثيرها جهات الاستعمار في فرنسا وبريطانيا.
[caption id="attachment_55251481" align="alignleft" width="300"] وفد الصلح بين السعودية واليمن 1934 وشكيب أرسلان الثاني من اليمين[/caption]
وهكذا نرى أن المصادر تتفق على منحه الجنسية الحجازية / السعودية، إلا أنها تختلف في تاريخ الحصول عليها، وقد يكون حصوله على الجنسية حدث عام 1926م ولكنه لم يعمل على إشهارها إلا بعد لقائه بالملك عبد العزيز بسبب الضغوط التي كان يواجهها في أوروبا من دول الاستعمار، ولكن من اليقين أن زوجته (سليمى بنت الخاص بك) وابنه (محمد غالب بن شكيب أرسلان) لم يمنحا الرعوية العربية السعودية إلا بعد لقائه بالملك عبد العزيز بخمس سنوات، وذلك بموجب الأمر العالي رقم 26 / 1 / 5 وتاريخ 28 / 2 / 1353هـ، ونشرت الجريدة الرسمية «أم القرى» اسميهما في بلاغ رسمي ضمن قائمة أسماء طويلة للممنوحين الرعوية أو الجنسية السعودية. ولا غرابة بعد ذلك في سعي شكيب للحصول على الجنسية السعودية له ولأفراد أسرته، وهو القائل: «والحمد لله على أن أبقى لنا راية ابن سعود حتى نتفيأ في ظلها بعد أن خفقت رايات الأجانب على أكثر البلاد».
وكان شكيب أرسلان قد ألف كتابا عن رحلته إلى الحجاز سماه «الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف» المطبوع سنة 1350هـ / 1931م، وأهداه إلى الملك عبد العزيز قائلا: «هذا ولما تسنى إكماله، وبلغ الإبدار هلاله، رأيت أن أتوجه باسم جلالة الملك الهمام الذي هو غرة في جبين الأيام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها، تذكارا لجميل الأمن الذي مد على هذه البلدان سرادقه، وعرفانا بقدر العدل الذي وطد فيه دعائمه وناط بالإجراء مواثقه، وابتهاجا بالملك العربي الأصيل الذي صان للعروبة حقها وللإسلام حقائقه، أدام الله تأييده وأطلع في بروج الإقبال سعوده وخلد شمسه الشارقة ووفقه للاتفاق مع سائر ملوك العرب وأمرائها والعمل مع رجالاتها العاملين لرقيها وعلائها.»...
ج - الوفاء والتقدير:
وقد عاد شكيب مرة أخرى للحجاز عندما اندلعت الحرب السعودية اليمنية في مارس 1934م ولكن في مهمة رسمية، وذلك حينما قرر الوفد الدائم للمؤتمر الإسلامي في القدس تشكيل وفد للمصالحة برئاسة أمين الحسيني وعضوية شكيب أرسلان وهاشم الأتاسي ومحمد علي علوبة والسكرتير علي أفندي رشدي، فوصل الوفد إلى جدة صباح الاثنين 2 محرم 1353هـ / 8 أبريل 1934م، فاستقبلهم يوسف ياسين وعبد الله الفضل وأقاموا في قصر الكندرة ثم وصلوا مساء إلى مكة المكرمة ونزلوا في أوتيل مكة بأجياد ليقابلوا الملك عبد العزيز صباح اليوم الثاني في قصره بالمعابدة، ونتيجة لجهود الوفد عقدت هدنة أعقبها معاهدة صلح وقعت في الطائف بحضور أعضاء الوفد الذي غادر الحجاز بعد نحو شهر من قدومه ليسافر إلى صنعاء عن طريق الحديدة يوم الثلاثاء 29 محرم 1353هـ للقاء الإمام يحيى، ومنها إلى مصوع ثم إلى ديارهم.
كما أنه مما يجدر الإشارة إليه أن بعض المصادر ذكرت تناول شكيب أرسلان مساعدات مالية من الملك عبد العزيز ضمن دعم الملوك والأمراء العرب لجهوده الملموسة في القضايا العربية، في حين لا نعلم مقدار وتاريخ هذه المساعدات المتكررة ولكن يمكن الترجيح بأن هذه المساعدات كانت قبل الحرب العالمية الثانية.
ومما قد يعطي انطباعا عن عمق العلاقة ودرجة الود والتقدير لشخصية شكيب أرسلان في الدوائر الرسمية للدولة السعودية ما نشرته الصحيفة الرسمية «أم القرى» عند وفاته، حيث وصفته بالبطل المجاهد الذي قام بجلائل الأعمال لأوطانه البلاد العربية! مثنية على غيرته الشديدة على البلاد الإسلامية مشبهة عودته ووفاته في لبنان بالسيف الذي عاد إلى غمده.