[caption id="attachment_55251280" align="aligncenter" width="620"] طفلة سورية تأخذ نصيبها من الغذاء الذي يصل من المساعدات الإنسانية إلى سوريا[/caption]
ما بين صيف العام 2011 وربيع 2014 تغيّرت الكثير من المعطيات في الأزمة السورية من حيث الوقائع على الأرض، ومن حيث العلاقات الإقليمية للأطراف ذات الصلة بالأزمة. ففي يوليو 2011 عشية إعلان تكوين الجيش السوري الحر لم تكن الجماعات الإرهابية السنية أو الشيعية قد وصلت إلى سوريا، ولم تكن العلاقات بين أمريكا وإيران تشهد الدفء الذي تشهده الآن، ولم يكن أكثر من ثلث الشعب السوري مهجرين كما هو الحال اليوم.
هذه المتغيرات على الساحة السورية تفرض إعادة تقييم للموقف من قبل الدول العربية بما لا يتعارض مع الثوابت الأخلاقية وثوابت الأمن القومي العربي، هذه الثوابت لا تخرج عن أمرين هما وقف المأساة الإنسانية للشعب السوري، والحفاظ على هوية سوريا كدولة عربية لا تخضع للنفوذ الإيراني ولا لحكم الجماعات الدينية المتطرفة. وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى الإجراءات القانونية الحازمة التي اتخذتها المملكة لمنع المقاتلين الشباب المغرر بهم من السفر إلى سوريا كجزء من عملية إيجاد حل سياسي للأزمة. كذلك تأتي دعوة المشير عبد الفتاح السيسي إلى مراجعة عربية للواقع الميداني الجديد على الأرض في سوريا من أجل إيجاد حل سياسي، -في حواره مع صحيفة (الشرق الأوسط) في 24 مايو-، كإشارة واضحة إلى رغبة مصرية للمشاركة السياسية الفاعلة في إنهاء الحرب في سوريا، وتكتسب دعوة المشير السيسي هذه زخماً أكبر إذا ما تم الربط بينها وبين تأكيده في نفس الحوار على أن أمن الخليج هو جزء من أمن مصر القومي، وتكراره لعبارة "مسافة السكة" للتعبير عن قدرة مصر للدفاع عن الدول العربية في حال تعرض أمنها القومي للخطر في إشارة إلى التهديدات الإيرانية.
إن أي مراجعة للموقف من الأزمة في سوريا لا بد لها أن تكون مبنية على الحقائق وليس على الأماني، أول هذه الحقائق هي صعوبة -إن لم يكن استحالة- تحقيق حسم عسكري لمصلحة المعارضة السورية المعتدلة أو ما تبقى منها، وحتى إن تحقق سقوط النظام عسكريًّا فإن البديل ممثلاً بالتنظيمات المسلحة من "داعش" إلى "النصرة" هو من سيملأ الفراغ وليس المعارضة المعتدلة. الحقيقة الثانية هي أن "انتصار إيران" في سوريا يشكل خطرًا كارثيًّا على الأمن القومي العربي لا يتوقف على دول الخليج ودول الجوار السوري، بل سيشمل مصر أيضًا. فالأمن القومي المصري تحديدًا كان قد تعرض لضرر مباشر من التمدد الإيراني في سوريا ولبنان بعد أن اشتركت عناصر مسلحة من حزب الله في الهجمات على السجون والمقار الأمنية في يناير 2011 كما تقول بذلك عريضة الاتهام في قضية اقتحام السجون والمتهم فيها الرئيس المعزول محمد مرسي. أما الحقيقة الثالثة فهي أن خطر الجماعات الإرهابية كداعش والنصرة والتي تتقاتل مع الجميع ومع بعضها البعض في سوريا لن يقل خطورة على الأمن القومي العربي من انتصار إيران في حال تمكنت هذه الجماعات من التمدد إلى داخل الدول العربية.
لقد كان الهدف منذ بداية الانتفاضة السورية هو إسقاط نظام الأسد الذي أجرم كثيرًا في حق السوريين، لكن ربما يتعين الآن التفكير في هذا الأمر بطريقة مختلفة، بحيث يصبح تحرير النظام من التبعية لإيران هو المخرج والنهاية المثلى لهذه الأزمة. هذا سيقتضي القبول بفكرة "سوريا الأسد" من دون بشار الأسد. أي بقاء النظام بشكلٍ معدل وبجيشه ومؤسساته مع خروج بشار الأسد وأسرته من السلطة. هل هذا الخيار ممكن؟ أو السؤال بطريقة أكثر تفصيلاً: ما الذي سيقنع السوريين من أركان النظام من الطائفة العلوية ومن الضباط الملتفين حول الأسد بالتخلي عنه وعن التحالف مع إيران خصوصًا مع النجاحات الميدانية للجيش النظامي السوري مدعومًا بالميليشيات الشيعية التي تمولها إيران؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلب قراءة من منظور أوسع للأحداث التي جرت في المنطقة منذ ثورة الثلاثين من يونيو في مصر. أهم عنوان لهذه الأحداث هو تكوين جبهة عربية مشتركة السعودية ومصر والإمارات تهدف إلى حماية الأمن القومي العربي، وذلك من خلال التصدي لقوى التطرف، وفي نفس الوقت تشكيل تكتل يستطيع الوقوف أمام الضغوطات السياسية والاقتصادية من خارج المنطقة. لقد كان لهذا التحالف الفضل بعد الله في انتصار معادلة الشعب والجيش في مصر ضد الإرهاب وضد الضغوطات التي حاول الغرب ممارستها على الحكومة المصرية. وربما سيتذكر السوريون ولوقت طويل موقف الجيش المصري الحازم في رفض محاولات الرئيس المعزول محمد مرسي في الزج به إلى أتون الحرب في سوريا. كانت قيادات الجيش المصري صريحة في رفضها وتبرُّئها من مؤتمر "نصرة سوريا" الذي عقده الرئيس مرسي في الصالة الرياضية المغطاة قبيل الإطاحة بحكمه مستضيفًا فيه إرهابيين سابقين، والذي أعلن خلاله قطع العلاقات الدبلوماسية مع سوريا. في خمسينات القرن الماضي كان نموذج عبد الناصر وثورة يوليو ملهمًا لعدة جيوش في المنطقة للقيام بحركات مماثلة لاقت تأييدًا شعبيًّا. وربما يكون الجيش المصري اليوم بموقفه الوطني في الثلاثين من يونيو وبقوته الناعمة ملهمًا لتغيير من داخل دائرة النظام في سوريا. تغيير يحافظ على ما تبقى من الدولة، ويخرج الأسد من الحكم مدشنًا مصالحة كبرى، ويعيد بناء الجيش السوري على أساس وطني وليس طائفي كما هو الحال منذ العام 1963. من جانبٍ آخر، فإن أنصار النظام السوري يدركون بكل تأكيد أن بقاء الأسد يعني أنه سيحكم أرضًا خربة تحتاج إلى مشروع مشابه لمشروع "مارشال" من أجل جعلها قابلة للحياة. ولا يمكن لإيران بظروفها الاقتصادية أن تتكفل بإعادة إعمار سوريا وهي التكلفة التي قدرتها بعض المصادر قبل نحو عام من اليوم بحوالي 200 مليار دولار. سيحتاج النظام في سوريا بعد الحرب -أيًّا كان شكل هذا النظام- إلى حزم من المساعدات الاقتصادية الضخمة، ودول الخليج هي الأقرب والأقدر على تقديم هذه المساعدة الضرورية. حصل هذا في لبنان من قبل، وحصل هذا في مصر بعد الثلاثين من يونيو. هذا سبب آخر لدفع الدائرة المقربة من الأسد من ضباط ومسئولين للتفكير في التخلي عن إيران والعودة إلى العرب.
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.