في ديسمبر (كانون الأول) 2010 نشر الموقع الإلكتروني لإذاعة هولندا العالمية تقريرا مثيرا للجدل عنوانه: «الجهاديون يستلهمون تراث العلمانيين الاستشهادي» (تقرير: محمد عبد الحميد عبد الرحمن/28 سبتمبر (أيلول) 2010. الرابط: http://www.rnw.nl/arabic/article/191711). ويتناول التقرير موضوع رسالة دكتوراه للباحث العراقي الهولندي مه ريوان قانع حصل بها على الدرجة من جامعة أمستردام في العلوم السياسية. «أطروحة قانع كانت تتناول بالتحليل ظاهرة (الاستشهاد) في سياقيها العلماني والديني»، و«لم يكن مه ريوان شخصيا طارئا على موضوع بحثه، فقد انضم لحركة مقاومة كردية ضد نظام صدام قبل أن يبلغ العشرين من عمره وعرف معنى التضحية عن قرب شديد».
أهو محامي الشيطان؟!
وحسب التقرير المشار إليه «يرى الباحث أن ظاهرة الاستشهاد وما استتبعها من هجمات انتحارية، ليست بالجديدة.. ولا يمكن أن نطمئن أبدا إلى أنها ظاهرة تستمد عنفوانها من العقائد الدينية، وبخاصة الإسلام فحسب». فقبل وقت طويل جدا من الهجمات الاستشهادية/ الانتحارية الإسلامية «تأسست الدولة القومية الأوروبية الحديثة على مبدأ خلق المواطن المستعد للتضحية من أجل الوطن أو القومية، التضحية إلى حد بذل النفس فداء في سبيل الدولة القومية ذلك الكيان الذي أنتجته الحداثة الأوروبية». وبالتالي، يخلص قانع إلى ضرورة «مراجعة الفكرة الشعبوية الشائعة التي تربط الهجمات الانتحارية أو الاستشهادية بالجماعات الجهادية الإسلامية التي ظهرت في الربع الأخير من القرن الماضي»، فـ«فكرة التضحية بالذات قد أعيدت صياغتها بالكامل في كنف الدولة القومية الأوروبية كفكرة علمانية خالصة»، و«حتى الجماعات الجهادية الإسلامية الحديثة لم تعد إلى أصل ديني سابق للفكرة، بل تبنت تراث الفداء العلماني الأوروبي الذي أنتج خلال القرنين الماضيين وأسست عليه خطابها»، وهو سياسي «بالدرجة الأولى».
[inset_left]زوجات أمراء القاعدة نفذن عمليات انتحارية بعد مقتل أزواجهن[/inset_left]
وتحت عنوان «الاستشهادي الملحد» يستطرد كاتب التقرير قائلا، إن: «الرغبة في التضحية بالذات تتولد من ظروف حياتية معينة تتميز بانسداد الأفق والشعور بالمهانة والعجز، ويستوي في ذلك المؤمن والملحد والذي لا يعبأ بالدين. تصاحب تلك الظروف تعبئة قوية وشديدة التأثير في جماعة صغيرة كانت أو كبيرة تعلي قيمة الفداء والتضحية وتعد الشهداء بالخلود وسيان في الجنة كان أو في أفئدة الناس ومسيرة التاريخ الصاعدة». والعالم المعاصر عرف «الهجمات الانتحارية بطياري الكاميكازي اليابانيين إبان الحرب العالمية الثانية، عمليات نمور التاميل في سيريلانكا ثم انتحاريي حزب العمال الكردستاني». وفي حالة نمور التاميل القومية المتطرفة في سيريلانكا فإن النساء نفذن 30 – 40 من التفجيرات الانتحارية.
وهذا البعد التاريخي/ المعرفي للإرهاب، مؤثر كبير في مسار كثير من الحركات الإسلامية المتشددة، وأحد قادتها السابقين أكد لي أن كتاب «كفاحي» كان أحد أكثر الكتب قراءة و«تأثيرا» في جماعته، وأن جيله من شباب الحركات المتطرفة كانوا مفتونين بموجة الانقلابات العسكرية القومية واليسارية العربية في خمسينات وستينات القرن الماضي، حيث رأوا فيها قفزا على كل المراحل ونموذجا يمكنهم بواسطته امتلاك السلطة بالطريقة نفسها وتحقيق مشروعهم.
الخلود الأرضي
وتحت عنوان: «الخلود الأرضي» يقول كاتب تقرير إذاعة هولندا العالمية: «هؤلاء الشهداء/ الانتحاريون لم يدفعهم وعد سماوي، بل توق للخلود على الأرض، بين الناس وفي ذاكرتهم. ومن الملاحظات الفارقة التي طرحتها دراسة مه ريوان قانع، أن التنظيمات الجهادية الإسلامية التي اختطفت الأضواء خلال العقدين الماضيين قد اقتفت أثر الحركات العلمانية والماركسية في تمجيد الشهادة دون أن تبلغ شأوها». و«أنتج اليساريون الشيوعيون في الشرق الأوسط أدبا وشعرا وغناء كثيفا ومديدا لشهدائهم وأطلقوا مراثي وبكائيات لا نهاية لها للذين سقطوا منهم، فيما يقبع الجهاديون خلفهم بفراسخ في هذا المجال، مما يؤكد مرة أخرى أن فكرة التضحية والشهادة ما زالت ذات طعم يساري في منطقتنا».
«سناء» كانت البداية
ومن تجاربي الشخصية التي وضعت يدي – قبل هذه الرسالة الأكاديمية التي تسبح ضد التيار السائد – أنني كنت أتحاور مع الباحث الأميركي المرموق جيري فان دايك عن ظاهرة «الانتحاريات» وأدهشه التحليل سالف الذكر، فذكرت قصة استضافتي في قناة فضائية عام 1998، إذ طلبوا مني أن ألقي بعض قصائدي عن الشهداء وصدمهم أنني – دون ترتيب مسبق – ألقيت قصيدة عن اللبنانية «سناء محيدلي» أول من افتتحت هذا الباب قبل كل التنظيمات الإسلامية، لافتا نظري إلى أنها شيوعية، وكان الأفضل أن تكون قصيدتي عن «استشهادية إسلامية»، ولا بأس هنا من الإشارة إلى أنني أنظر الآن إلى قصائدي عنها بعين مختلفة تماما، وإن بقيت رسالتها الجمالية!
وتعد سناء يوسف محيدلي (16 عاما)، العضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي أول انتحارية معروفة. ففي أبريل (نيسان) 1985، هاجمت بسيارة مفخخة قافلة للجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان، وأسفر الهجوم عن مقتل جنديين إسرائيليين وإصابة آخرين.
[caption id="attachment_55251015" align="alignleft" width="195"] اللبنانية سناء محيدلي أول انتحارية قبل كل التنظيمات الإسلامية[/caption]
ولاحقا اتسع نطاق وكانت أول العمليات الانتحارية مكانا وزمانا لتصبح ظاهرة جديرة بالتأمل والبحث. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2008 حذرت من سمتها صحيفة «التلغراف» البريطانية (أم الانتحاريات في العراق) أو (أم فاطمة) من ارتفاع عدد الهجمات التي تنفذها نساء. وكانت السيدة المتهمة بالتغرير بالشابات وبالنساء الجاهلات الضعيفات عقليا ليتطوعن في شن هجمات انتحارية، أخبرت الشرطة في بعقوبة أن هناك الكثير من النساء يتبعنها. وقد نشر تحذيرها بعد أيام من قيام فتاة عمرها 13 عاما بتفجير نفسها وقتلت خمسة من الحراس في نقطة تفتيش. وحسب إحصاءات رسمية عراقية فإن عدد الانتحاريات خلال تلك السنة وصل إلى 30، فيما كان عددهن 8 سنة 2007. وحسب مراسل «التلغراف»، «أم الانتحاريات» لم تعبر عن ندمها وأنها شخصية قاسية جدا.
[inset_right]لا يتوقع من رجل أو امرأة انتهت في نفسه الرغبة في الحياة أن يفكر في حرمة حياة الآخرين[/inset_right]
ومن التفاصيل الخطيرة التي كشفت عنها مساع لفهم هذا العالم السري كيف يمكن دفع امرأة أو فتاة لتفجير نفسها كنوع من التكفير عن «ذنب»، وهو أمر لا سند له من الشرع مطلقا. والحالة التي نتحدث عنها تم القبض عليها قبل أمتار من المكان الذي كان يفترض أن تفجر نفسها فيه لـ«تصعد» إلى الجنة.
المتخاذل والانتحارية!
ومن المعطيات التي استخدمتها التنظيمات الإرهابية لتجنيد الانتحاريات دافع الانتقام، فنسبة لا يستهان بها منهن كانت تنتقم لمقتل أو اختطاف الزوج أو الأب أو الابن. وتضخم هذه الرغبة، عملية دعوية تربوية منظمة، وتعززها دون شك أحوال أمنية شديدة السوء شهدها العراق، ومع الإحساس بالعجز أمام مثل هذا الواقع يكون التجنيد أيسر. وتعكس وقائع كثيرة جهلا فاضحا بالأحكام الشرعية تجعلهن مركبا «منقادا» بشكل تام. وفي الحالة العراقية بالتحديد نجح قيادي القاعدة الراحل أبو مصعب الزرقاوي في صياغة رسالة بسيطة وقادرة بشكل استثنائي على استثارة من تروج لهم وهي: «المرأة الاستشهادية» مقابل «الرجل المتخاذل»!
وهذه المقابلة التبسيطية بين نقيضين سمة رئيسة من سمات «الثقافة الانتحارية»، فالقتال في العراق لم يكن فرضا على كل مسلم «فرض عين» كما أشاع هذا الخطاب، والرد على هذا التقاعس المفترض، لم يكن أبدا ظهور الانتحاريات. وحسب المستشار في وزارة الدفاع العراقية محمد العسكري فإن استخدام الانتحاريات يعود إلى «انحسار تأثير القاعدة على الشارع العراقي» معتبرا استخدام النساء نوعا من «القيمة الدعائية أكثر من القيمة الميدانية» فباستخدام النساء تريد القاعدة، أن تشعر الرجال بالعار «النساء تقاتل والرجال غافلون»!
وقد كان من نتائج ذلك – من ناحية أخرى – أن ازدادت نسبة المتطوعين العرب والأجانب الذين دخلوا عبر الحدود للالتحاق بالقتال مع الزرقاوي، ووصلت للعراق أول انتحارية قادمة من أوروبا هي البلجيكية موريل ديغوك ثم قبض في هولندا على مجموعة كانت تقوم بتدريب «نساء انتحاريات» من بلجيكا وفرنسا. وفجرت ديغوك حزامها الناسف في دورية أميركية في مدينة بعقوبة في نوفمبر 2005. وبعد تنفيذ الانتحارية البلجيكية موريل ديغوك لعملية انتحارية نشر موقع إنترنت على رسالة موقعة من الزرقاوي وجه في نهايتها سؤالا «ألم يعد هناك رجال بحيث أصبح علينا تجنيد النساء؟»!
كما أن عددا غير قليل من «زوجات أمراء القاعدة» نفذن عمليات انتحارية بعد مقتل أزواجهن. وفي 2007 أعلن تنظيم القاعدة عن تشكيل «كتيبة الخنساء» أول «كتيبة استشهادية» في العراق ضمت 26 انتحارية.
وفي الإعلام الروسي ظهر مصطلح "الارملة السوداء" مع ظهور الانتحاريات الشيشانيات بدءا من عام 2000. إحدى المشاركات في عملية من عمليات «الارامل السود»: «قالت لي ليس لدي شيء لأخسره. فقد فقدت جميع عائلتي. سأواصل هذه الطريق على رغم أنني مقتنعة أنها ليست الطريق الأسلم».
قيمة الحياة
وهذا النمط الذي تعكسه هذه الحالة الشيشانية يمثل نسبة لا يستهان بها من المشاركات في الظاهرة: الإحساس العميق بالعدمية والعبثية ووجود «مظلمة شخصية» جعلتها أسيرة رغبة جارفة في الانتقام، ولاحقا تأتي التبريرات الفقهية والسياسية، ولعل هذا يعزز مصداقية ما تبنته مؤسسات غربية كثيرة لما يمكن اعتباره «منابع للإرهاب» في مقدمتها البؤس بمعناه الواسع: الفقر، القهر، البطالة، الفساد.. إذ يؤدي هذا المركب، وبخاصة عندما يتغول إلى «أرض خصبة» يسهل أن تنمو فيها الأفكار الانتحارية. وعندما تسيطر على الذهن الرغبة في الانتحار كحل وحيد، تتلاشى قيمة «الحياة» نفسها، ولا يتوقع من رجل أو امرأة ماتت في نفسه الرغبة في الحياة أن يفكر في حرمة حياة الآخرين، بل تمنحه الحالة النفسية المتردية التي تحتويه احتواء تاما، إحساسا – زائفا طبعا – بأنه يقوم بعمل مجيد، فقط لأنه يؤلم عدوه الحقيقي أو المتوهم.
وفي خطاب كثير من التيارات المتطرفة التي تعتبر أن إيذاء «الآخر» حتى لو كان مسلما على مذهب من المذاهب الفقهية، أو نظاما سياسيا يختلفون معه هو «الهدف الأسمى»، وعندئذ تأتي الاستباحة طوفانا كاسحا يسهل جدا أن يجد مروجوه في التراث الفقهي ما يمكن استخدامه سندا مهما كان واهيا، ونسبة كبيرة مم مثل هذه الأسانيد أقوال شاذة.