ينطوي تعبير "إدمان الانترنت" على شراكة مابين الآلة المتمثلة بالجهاز الصانع للمسألة برمتها، وهي الكمبيوتر، سواء كان شخصيا أو غير شخصي، والمعلومات التي تصرخ في برّية الشبكة باحثة عن مستعمل لها أو مستغل أومستفيد، ثم التلاقي الاجتماعي الذي يحصل عفويا وبدون تحضير أو تمهيد أو بنية اجتماعية جارية، مابين فرد أو جماعة، أو بين جماعة وجماعة.
الشراكة الثلاثية، تلك، تجد قبولا فطريا لدى الانسان. فمن جهة، لا زالت الآلة رمزاً للسيطرة واللاإنساني، بصفة عامة. وهي تعكس القساوة والمنطق المجرد والحركة المنسقة إجباريا. وكذلك المعلومات، فهي بطبيعتها المجردة غير المحسوسة، تشبه الروح الانسانية، بلا جسد تسكنه. والمعلومات كرموز لا مرئية لنظم تفكير ومعرفة وخبرات، تظل الأشبه بعالم الانسان الداخلي وذاكرته التي هي مجرد محمولات رمزية يشير محسوسها الى مجردها وحروفها الى مدلولاتها. أما طرف الشراكة الثالث، فهو التواصل الاجتماعي، بصفته الخاصة بالتواصل، اي انتقال الخبرات والعواطف والرموز بين متواصلين متعددي المصادر ومختلفي الأساس الحضاري والثقافي. وإن رجعنا الى التواصل الاجتماعي، كما هو على أرض الواقع، نجد أنه ينطوي على صعوبة بالغة ومعوقات تمنعه من تحقيق جوهره. فالتواصل الاجتماعي كما يعرفه الجميع بالممارسة أو الخبرة المنقولة، لا يتم إلا عبر تسويات معقدة تجعله صعبا وشبه مستحيل في بعض الأحيان. وآية ذلك أنك تجد سكان عمارة واحدة قد لا يعرفون بعضهم البعض حتى بالوجوه، بسبب انعدام التواصل في مابينهم، لصعوبته في الأصل. ذلك أن "التواصل" الواقعي مابين الناس، مسألة معقدة وتتطلب بروتوكولات متفق عليها، وتنطوي على مصاعب وتحديات، لتبقى في آخر الأمر جزئية الى الحد الأقصى.
الوهم والواقع
يأتي "إدمان" الانترنت، كمحصلة طبيعية للتناقض مابين تواصلين، واحدهما واقعي الشكل لا يتم إلا بتسويات معقدة. وثانيهما رمزي (لا نقول: وهمي) يتم بدون معوقات التفاوض مابين الفرد والجماعة، أو الجماعة وأخرى. والفارق، أن التواصل الأول، الواقعي، لم يتم إلا عبر مجموعة خبرات اجتماعية مكتسبة اتُّفق عليها بصفتها تنظّم العلاقة بين الفرد والفرد وبين الجماعة والجماعة. فتكون المصافحة، مثلا، دليلا على خلو اليد من السلاح وبالتالي فالمصافحة تعني رغبة السلم وعدم وجود أي نية مبيتة من قبل الطرفين المتصافحين. وبمجرد قبول الطرفين شبك اليد باليد فهذا يعني السلم والمودة وأقله اللاحرب. وإن اتخذنا من المصافحة رمزا جزئيا للغاية لموضوع البروتوكولات مابين الأفراد والأفراد، فهي على كثافتها الرمزية تعني خبرات ومرموزات متفقا عليها في غالبها، لتيسير التواصل وجعله أقل عرضة للمفاجآت.
لكن التواصل الواقعي، كما يعيشه الأفراد، لا يقتصر وحسب على جملة مصافحة لا تعني أكثر من رمز السلم. بل هناك شروط بصرية ذات محتوى فاحص، ومنها الأشكال والألوان والملامح. فالتواصل يضطرب أحيانا بسبب تعارضات الملامح، ومنها مايولّد "الانطباع الأول" ومنا مايولد "الحب من النظرة الأولى" ومنها مايولّد الإحساس بوجود بيئة عدائية، كما حصل مع بطل رواية "موبي ديك" للروائي الأميركي هيرمان ميلفل، عندما دخل الى الغرفة فوجد فيها رجلا غريب الملامح بشعر طويل وجلوس مثير للريبة. فظن الرائي أنه يرى رمزا للشيطان والشر في العالم. لكن بعد هنيهة، تساءل البطل بينه وبين نفسه هذا السؤال النقدي العظيم والمميز للثقافة الأمريكية: "لماذا لا أكون أنا قد أخطأت بالدخول الى الغرفة وفاجأته ألا يمكن أن يكون هو الذي يراني شريرا؟".
تعارضات الملامح في الواقعي الجاري، وشروطها المفضية الى تواصل أو إيقاف تواصل، تختفي في التواصل الافتراضي، الى الدرجة التي نجد فيها كثيرا من المتواصلين يضعون ملامح غيرهم في حسابهم. فيكون الممثل السينمائي الفلاني موجودا على حساب فلان أو فلان. ويكون البطل الرياضي الفلاني تعريفا بصريا لواحد آخر عادي. هذا فضلا عن أن الهوية الجنسية للافراد هي غير محسومة بالمطلق. فيمكن لرجل أن يضع على حسابة صورة لامرأة، والعكس صحيح. وتُستحدم الطبيعة الصامتة في التعريف البصري والطبيعة العادية من زهور وبحور وأنهر الخ..
تواصل بصري
الأمر الحاسم في تعارضات الملامح، هو تأمين الحد الأعلى من التواصل بدون شروط أو بروتوكولات. وهي قد تكون المرة الأولى في تاريخ التواصل الاجتماعي أن يتم تواصل الأفراد في مابينهم بدون بروتوكولات مقيّدة تبطِّئ سرعة التعارف وانتقال الخبرات. ففي الواقع العادي لاتنتقل الخبرات ولا يتم التواصل إلا عبر معادلات معقدة ومتنوعة ومتناقضة، تخفي في طياتها: أولا، النظام التربوي (لاتتحدث مع الغرباء- تقال للأطفال- وعلى الانترنت لا يتم التواصل بأغلبه إلا مع "غرباء"). ثانياً، التواصل البصري، فهو يمكّن القراءة اللاشعوية من تفحص الملامح واستخراج هوية ما لها. فعملية جراحية على الوجه لعلاج جرح ما قد تعني أن صاحب الجرح مغامر أو عنيف أو ربما خارج القانون. دلالات نظرة العين عند الطرف المفحوص من التواصل، فهي تمرر رسالة ما وباتجاه ما قد تمنع التواصل وقد تيسّره. ثالثاً، التواصل الثقافي، فهو حرّ في الشبكة العكبوتية واعتباطي في استخدامه ويمكن أن ينتقل بدون عوائق الاختبار والاستعداد، ذلك أن الطرفين المتواصلين، أو واحدهما، هو متحرر من قيود الهوية، في الأصل، وبالتالي إمكانية التواصل الثقافي أو المعلوماتي تعبر من إطار الصورة الشخصية الأصغر، والمقيِّد، إلى اطار الصورة الافتراضية التي اختارها الطرفان.
وللدلالة أكثر على أهمية الهوية البصرية والشخصية، ستجد أن الحسابات الحقيقية للأفراد والمزودة بصور حقيقية لهم، تكون في الغالب مقيدة بنفس الشروط الاجتماعية للتواصل الاجتماعي الذي يحصل في الواقع. فتكون في الغالب حسابات افتراضية مشروطة بالحسابات الواقعية، وهي مطابقة لها بنسب مرتفعة الى الحد الأقصى. وبالتالي، لاتعبّر هذه التواصلات شبه الواقعية، عن التعارض المشار اليه آنفاً، وهي لا تستفيد من غياب الشروط الواقعية إلا بحدود جزئية للغاية. وكذلك هي لا تعكس أو لا تختبر الفضاء المعلوماتي الافتراضي، إلا عبر بروتوكولات الواقع الحقيقي، وهي بمثابة نسخة من تسوياته واتفاقياته ورموزه. وبالتالي لا ينطبق عليها مبدأ الشراكة الثلاثية التي أفاد منها ناحتو تعبير "إدمان الانترنت" والذين أفرطوا بالإشارة إلى أدوات الإنتاج، في المصطلح، أكثر من نمط الانتاج نفسه.
هنا، سيظهر تعبير "إدمان" الانترنت، كما هو رائج، أنه مجرد جلوس على شاشة الكمبيوتر والقيام بتواصل اجتماعي سهل وسريع من على الشاشة. ولهذا أشرنا الى أن التعبير المنحوت ينحاز الى أدوات الانتاج بصفة الانترنت (آلة + آلة = تواصل). بينما في حقيقة الأمر، أن العلاقة ليست عبر آلة وآلة تنتج تواصلا، بل انتقال من تواصل محكوم بالشروط الاجتماعية والنفسية والشخصية، إلى تواصل متحرر من بروتوكولات تحكم العلاقة، فتنتقل المعلومة بدون عائق، وتتداخل الخبرات أسرع وبشكل عشوائي أحياناً، والأهم من كل ماسبق، أن التحرر من الشروط الاجتماعية، يدخل الفرد في اختبار جديد، غامض، يسمح لتعدد الشخصية بالظهور، ويساهم في تجربة الأنا وهي في حالة عدم التوازن الذي كان يشترطه التواصل الواقعي متوازناً، في السابق. وفي هذه الحالة تصبح الاختبارات للأنا شبيهة بحفلة تنكرية، مؤقتة، تقرأ المهزوم في المنتصر، أو الضعيف في القوي، أو القادر في العاجز. ومدى حرية الأنا المتنكرة بدون حدود، فبمجرد الاستتار وراء هوية أخرى، تصبح الأنا لا أنا، والذات لا ذات. فيأتي التواصل الرمزي إلى أقصاه في اللاهوية، وينتج بطبيعة الحال "إدماناً" على اللاّهوية وليس على علاقات الانتاج كآلة + آلة = تواصل.
الأنا الواقعية
اللاّهوية، هي المجال المفتوح للاختبار، بدون كرّاسة شروط. وهي إذ تؤمّن الحد الأقصى من التعبير والتداخل، فهي تُوقِع الأنا الواقعية بالعزلة ومن هنا فهي تنتج الإدمان الذي هو الالتحاق باللاهوية والعودة الى عشوائيتها ولا محدوديتها. إذ أن حجم الفارق مابين الحركة بلاهوية، والحركة بهوية، هو نفس الفارق مابين الانتقال بطائرة، والانتقال بدراجة هوائية. هذا لجهة السرعة. أما الاختبار الشخصي وحرية المعرفة، فهو الفارق في أن تترك شخوص كليلة ودمنة كما هي، أو أن تعيد تركيب رموزها كما هي تشير في الواقع. أو شخصية "جحا" التي تستتر وراءها خبرات وبروتوكولات لا تحصى. ولم يكن جحا، هذا، أكثر من لا هوية أمّنت سرعة انتقال الخبرة، وحرية حركتها، ذلك أن لا هوية هذا البطل الشفوي، يسّرت لهويات حقيقية مضمرة أن تقول وتعبّر وتختبر، دون أي اشتباك واقعي، ودون أي تعارض أو بيئة عدائية يمكن أن تصنعها علاقات الهويات بالهويات. هذا هو الإدمان الفعلي: اللاّهوية. وليس مجرد علاقات إنتاج انحازت إلى الآلة وصرفت النظر عن النظام الضابط الذي أصبح نظاماً في عدم الضبط، من نظام الهوية الى نظام اللاهوية.