"هنا برلين حيّ العرب" هكذا اعتاد يونس بحري (1903-1979) أن يفتتح برنامجه الإذاعي من برلين، ومن هناك صدح صوته مرددًا هذه العبارة التي اشتهر بها أينما حل. أثارت شخصيته ولا تزال جدلاً كبيرًا حول طبيعة الأعمال والمهن التي مارسها خلال حياته، حتى إنه جمع بعض المهن رغم تناقضها بشكل كلي مع بعضها البعض، حيث الإعلام، والرقص، والغناء، والإفتاء، والكتابة والتأليف، وإمامة الجوامع، هي كلها أعمال مارسها "بحري"، وبسببها نجد الكثير من الأصوات التي هاجمته ووصفته بأبشع الصفات، وفي المقابل كان هنالك الكثير ممن انحنوا محبة واحترامًا واعجابًا بمسيرة حياته وكفاحه. وبغض النظر عن رأي محبيه وأعداءه به فلا يمكن أن يغفل أحد أن يونس بحري شخصية تستحق الوقوف عندها وقراءة تاريخها.
هو من مواليد مدينة الموصل العراقية عام 1903، تلقى فيها تعليمه الدراسي الأولي الذي تركه باكرًا، ليلتحق بوظيفة في إحدى دوائر الدولة الرسمية، والتي سرعان ما تركها هي الأخرى بعد أن قرر أن يرتحل حول العالم، يقيم في بلد ويعمل في آخر ليلتصق به بعد ذلك لقب البحري. كان يحرص على تعلم لغة الدول التي يزورها؛ فأتقن لغات عديدة منها الفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية والتركية والإنجليزية وغيرها الكثير، وترك أيضًا إرثًا كبيرًا من المؤلفات التي تنوعت هي أيضًا، فنقرأ من عناوينها: (صوت الشباب في سبيل فلسطين الدامية- 1933)، (العراق اليوم-1936)، (تاريخ السودان- 1937)، (هنا بغداد- 1938)، (العرب في المهجر-1964) ، (ليالي باريس-1965)، وغيرها من المؤلفات، كما أصدر عدة صحف، منها: صحيفة الكويت العراقي ، والحق والإسلام، والعقاب.
أسطورة الأرض
[caption id="attachment_55250106" align="alignleft" width="300"] الشيخ عبدالله المبارك والدكتور محمد صلاح الدين وزير خارجية مصر سابقا والأستاذ يونس البحري صاحب جريدة العرب (المصدر صحيفة القبس )[/caption]
لقب يونس بحري بـ"أسطورة الأرض" وعن سبب هذه التسمية يقول المؤرخ العراقي الدكتور سيّار الجميل "يروي" أنه قد أسس 16 إذاعة، وأتقنّ 17 لغة، وحمل 15 جنسية، وتزوج 90 امرأة زواجًا شرعيًّا، وأكثر من 200 زواج مدني، أنجب 365 ذكرًا، ولا يعلم عدد الإناث، كان عنده أكثر من 1000 حفيد، قابل معظم رؤساء العالم، وله معهم صداقات.. حكم عليه بالإعدام أربع مرات، وقد ولد في أول القرن العشرين، وفي الشهر الأول منه! وسواء صدق في ما قاله، أو صدق في عشر معشار ما قاله، أسأل: ألا يعتبر هذا الإنسان أعجوبة من الأعاجيب؟ وهل أنجب العرب كمثله في القرن العشرين؟ ألسنا في حاجة ماسة للتعرّف عليه معرفة دقيقة؟ وما القدرات التي امتلكها حتى يغدو أسطورة الأرض..؟ وأي أرض؟ إنها أرض العراق.. وأسألكم أيها الأصدقاء: هل عرفتموه ؟ هل سمعتم بمثل هذا الإنسان الذي لو كان قد ظهر في مكان آخر غير العراق، لاحتفي به ودرسه الناس، وصنعت عنه الروايات والأفلام السينمائية. إنه المسمى: يونس بحري.. أسطورة الأرض، وهو الذي تباينت الناس في تقييمها له، فثمة من وصفه بأقذع التهم، وثمة من أنصفه ومنحه الحق المشروع لحريته التي مارسها سياسيًّا وثقافيًّا وإعلاميًّا واجتماعيًّا.. لقد نال من اتهامات النظم السياسية والحزبية الكثير من التهم، ووصف من قبل البعض بصفات العظمة الخارقة، في حين وصف من قبل آخرين بالدعارة والتجسس وانعدام الأخلاق.. أما قضية زيجاته، فيبدو أنه قد سبق الرحالة ابن بطوطة في هذا الجانب.. إذ تفوّق على الجميع في عدد الزوجات. سأله أحد الصحفيين ويونس بحري في نهايات عمره: كيف تزوجت هذا العدد الكبير من النسوة، وأنت مسلم، والإسلام لا يبيح إلا أربع زوجات؟ أجابه :أنا لم أتبع إلا الشرع، ولم أنكح إلا كما جاء في القرآن. إمساك بمعروف وتسريح بإحسان "!
التعاون مع هتلر
كان عمله مع إذاعة برلين أهم ما اشتهر به بحري.. وعن عمله فيها وفي كتابه "هنا برلين حي العرب" يقول : كان تعاوني مع ألمانيا الهتلرية تعاونًا علنيًّا ذاع وشاع و ملأ الأسماع.. و صارت عبارة – هنا برلين، حيّ العرب– التي كنت أستهل بها خطبي وأحاديثي وإذاعاتي في خمس إذاعات كل يوم .. تسير في العالم العربي والدنيا بأسرها مسير الشمس في الشرق و الغرب!!".
ولقد تم فصله من هذه الإذاعة بعد أن امتنع عن الالتزام بالنصوص المكتوبة، وكان يلقي على الهواء خطبًا رنانة، ويلقي خلالها بالشتائم على بعض الملوك والرؤساء والشخصيات الكبيرة.
يقول الفنان "سعدي بحري" عن والده في أحد حواراته: "والدي يتقن عدة لغات، أو ربما تسع لغات، وعمل مذيعًا في راديو برلين، وكان الصوت العربي الذي ينتظره الجميع إبان فترة الحرب العالمية، وحكم عليه الإنجليز بالإعدام؛ لأنه كان رجلاً وطنيًّا مع حركة رشيد رستم الكيلاني، وقد هرب من العراق وناضل ضد الاستعمار البريطاني، وكان ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وفي فيلم (الأخضر حامينا سنوات الجمر) الذي عرض في مهرجان "كان" شاهدت مشهدًا يصور المجاهدين الجزائريين وهم يستمعون إلى صوت والدي في إذاعة برلين، وكان يقول بصوت جهوري قوي: (أيها المجاهدون حاربوا الاستعمار الفرنسي وحرروا الجزائر)، وكان أحد المجاهدين يهتف بحماس (حياك الله يا يونس البحري)... ويضيف "والدي كان محبًّا للنساء، يقال إنه تزوج أكثر من أربعين امرأة، وأنا لا أعرف منهن إلا أمي والزوجة اللبنانية، وربما لديه أكثر من خمسين ولدًا، ويقال إن والدي تزوج في كل بلد سافر إليه، ولكن أعرف منهم أخي وإخوتي، وأحاول أن أبحث عن إخوة متناثرين في أرض المعمورة، ولكن للأسف لا توجد الكثير من المعلومات أو الكتب التي صدرت عنه. ولكن أعرف أن والدي كان عاشقًا للفن، وكان له صوت جميل، وكان يغني في بعض المجالس والحفلات".
[caption id="attachment_55250107" align="alignleft" width="300"] كتاب "هنا برلين حي العرب" ليونس بحري[/caption]
تقرب بحري من الملوك والرؤساء ومجالسهم، فالتقى بعدد كبير منهم، وفي أحد لقاءاته بهتلر يقول في مذكراته: "وأدخلوني على الفوهرر لأول مرة بعد وصولي إلى ألمانيا، وكان ذلك في العاشر من يونيو 1939م ووقفت أمام الرجل الذي دوخ العالم، ومد يده يُصافحني قائلاً: إن ابن سعود قد أرسل إليه وفدًا يرأسه السيد خالد القرقني لمفاوضته في بعض المسائل الخطيرة. فهل تعرف من هو السيد خالد؟ إنني معجب بابن سعود فهو رجل عصامي خلق في الصحراء مملكة، ووحّد القبائل والإمارات والمشيخات الصغيرة. إنه رجل يستحق كل احترامي. قلت: الحق أن الملك عبدالعزيز كما وصفتم يا أيها الفوهرر، وأنا أعرفه قبل أن يدخل الحجاز".
في مجلس الملك عبدالعزيز
أما إحدى القصص الخفيفة الظل -والتي جمعته بالملوك والرؤساء، والموقف المشهور الذي حصل حين كان في في مجلس الملك عبد العزيز آل سعود- فهي "حين جاء من يبشر الملك بمولوده الثالث والستين. نظر الأمير فيصل -الملك فيصل بعد ذلك- الى يونس بحري وابتسم، وكان الملك عبد العزيز لماّحًا، فلاحـظ نظـرة ولده وابتسامته، فسأله عما عنده فقال الأمير فيصل: يبلغ عدد أولاد يونس بحري أربعة وستين. فسأله الملك عبد العزيز: هل صحيح يا يونس أن عدد أولادك أربعة وستين؟ فرد يونس بحري قائلا: الذكور منهم فقط يا طويل العمر!
وعلى الرغم من كل هذا الزخم والتنوع في حياته، وكل هذه الأحداث والرحلات والوظائف التي شغلها، وهذا العدد الكبير من الزيجات والأولاد والأحفاد، إلا أن يونس بحري مات وحيدًا في منزل أحد أصدقائه.. ربما اختار هو ذلك ليبتعد عن صخب سنواته وزخمها، وربما كان هذا ما اختاره له القدر. ورغم هذا وذاك رحل يونس بحري عام 1979 لكنه حجز لنفسه مكانة في تاريخ أعلام العراق الحديث ولربما أوسع من ذلك.