هكذا يبدو أن أوكرانيا تتجه غربًا نحو الاتحاد الأوروبي متخلية عن علاقتها الوثيقة بروسيا، والتي تبدو في نظر كثير من الأوكرانيين عبئًا عليهم، يحرمهم من الحريات ومن مشاركة الأوروبيين حياتهم واقتصادهم بدلاً مما يعتبرونه تبعية لروسيا، وللتخلص من تاريخ وذاكرة طويلة تشعرهم بالغبن والمرارة!
في عام 1991 حُلّ الاتحاد السوفيتي الذي كانت أوكرانيا (46 مليون نسمة وعاصمتها كييف) جزءًا منه، وأعلنت استقلالها محاولة أن تنهي قرونًا طويلة من الاحتلال والتقسيم الذي خضعت له، سواء من الإمبراطورية الروسية أو النمساوية ثم الشيوعية السوفيتية، وأن تستعيد هويتها وثقافتها الوطنية التي تعرضت للإذابة والتجاهل، وقتل ونفي بسبب الدفاع عنها كثير من المفكرين والأدباء الأوكرانيين.
أُجبر الرئيس الأوكراني "يانوكوفيتش" على التنحي للمرة الثانية (المرة الأولى عام 2004) ووضع البرلمان يده على قصره الباذخ، وصار القصر مفتوحًا للصحفيين والزوار والفضوليين، ولكن المشهد الأوكراني أكثر تعقيدًا، فموسكو لاعب قوي ومؤثر في أوكرانيا من خلال قوتها التأثيرية الاقتصادية والسياسية المهيمنة، ومن قواعدها الاجتماعية والسياسية المؤثرة في أوكرانيا، كما أن المعارضة الأوكرانية نفسها مقسمة في تيارات ومصالح متناقضة، وإن كان يجمع بينها اليوم العمل على إسقاط الرئيس "يانوكوفيتش".
والمشهد الدولي والإقليمي أيضًا يبدو أكثر تعقيدًا، ولا يعمل لصالح الأوكرانيين المتطلعين غربًا، فالاتحاد الأوروبي الذي يرحب بانضمام بولندا إليه، ورعى قادته من خلال وزراء خارجية فرنسا وبولندا وألمانيا مفاوضات تنحي الرئيس وانتقال السلطة إلى البرلمان لم يقدم –حسب بريجنسكي المستشار الأسبق للأمن القومي في الولايات المتحدة- دعمًا حقيقيًّا للاقتصاد الأوكراني الذي يشرف على الانهيار.
تبدو اليوم زعيمة المعارضة الأوكرانية "يوليا تيموشنكو" قائدة المرحلة ونجم أوكرانيا الساطع، فهذه الزعيمة لحزب كل الأوكرانيين، والتي تولت رئاسة الحكومة مرتين، ثم اعتقلت في عام 2011 مكرسة نفسها كقائدة في مواجهة الاستبداد بعدما كانت تقود ما عرف بالثورة البرتقالية لتحقق بعد ذلك فوزًا انتخابيًّا كبيرًا في عام 2007 أهَّلها لتشكيل الحكومة- ظلت قادرة برغم كل التناقضات والتهم المحيطة بها على تحريك الجماهير وقيادتهم، وأن تظل في نظرهم رمزًا لمقاومة الاستبداد، كما غفرت لها الجماهير -كما يبدو- تهم الفساد والإثراء غير المشروع التي وجهت إليها وإلى زوجها وحلفائها! وتبدو اليوم الطريق مهيأة لها في ظل إعلان الجيش حياده لتكون على الأرجح الرئيسة القادمة للبلاد، ولكن نجاحها يعتمد على الفرص الاقتصادية التي ستجلبها لأوكرانيا، وما يمكن أن يعوضه الاتحاد الأوروبي بعد الانسحاب الروسي.
هل ستقبل روسيا بهزيمتها؟
في جغرافيتها السياسية تبدو أوكرانيا جزءًا منها لا يقل عن الساحة الروسية نفسها، يقول "دايفد ريمنك" المحرر بصحيفة (نيويوركر)، والذي قضى سنوات في روسيا: "الرئيس فلاديمير بوتين يعتبر أن العلاقة بين روسيا وأوكرانيا هي رابطة دم". وقال السيناتور، "جون ماكين" في مقابلة مع تلفزيون "CBS" الأمريكي: "إذا كنت مكان بوتين الآن فسأشعر بالقلق من التحركات في أوكرانيا".
[caption id="attachment_55250076" align="alignleft" width="300"] لقاء يجمع بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الأوكراني المقال فيكتور يانوكوفيتش[/caption]
وسيمنح خروج أوكرانيا من تأثيرها أوروبا والغرب وحلف الأطلسي المجال للتضييق على روسيا اقتصاديًّا واستراتيجيًّا، وربما إعادة صياغة سياساتها الخارجية وبخاصة في سورية، حيث تقدم روسيا للنظام السياسي في سورية في حربه مع المعارضة السورية أسلحة خطيرة مدمرة وفتاكة، وتغطيه سياسيًّا، وتدافع عنه في مجلس الأمن، .. هل ستجري مقايضة بين روسيا وأوكرانيا؟ بالطبع لا فهذه فكرة خيالية بالنسبة للأوروبيين والأوكرانيين وإن كانت تبدو مقبولة لروسيا، ولكن المرجح أن روسيا ستخسر وجودها ونفوذها في سورية كما خسرته في أوكرانيا، ففي التاريخ والجغرافيا السياسية تقود الهزيمة إلى سلسلة هزائم أخرى متلاحقة، لن تظل روسيا قادرة على الهيمنة والتأثير متجاهلة الحريات وحقوق الشعوب والبلاد في تقرير مصيرها، ولم تعد القوى الكبرى قادرة على البقاء والتأثير من غير قوة ناعمة، إنها توجه الدول الأصغر والتابعة من خلال منظومة من الحريات والتعاون والمساعدات والفرص الاقتصادية الممكن إتاحتها؛ ما يجعل تحالف الدول معها مطلبًا سياسيًّا وشعبيًّا وموردًا للدول وإن كانت تتخلى عن استقلالها السياسي الكامل أو تربط سياستها بسياسة الدول المانحة والراعية!
أصبح الرئيس الأوكراني "فيكتور يانوكوفيتش" مطلوبا للأمن والقضاء بتهمة قتل المواطنين، وتقول وسائل الإعلام الروسية إنه مقيم (مازال مقيمًا) في أوكرانيا، ويرجح أنه في مسقط رأسه "خاركوف"،وتخلى عنه حزبه "الأقاليم" واصفًا إياه بالخائن، كما انضم عدد كبير من نواب حزبه إلى المعارضة ليشكلوا معًا أغلبية برلمانية تشكل بدورها الحكومة الأوكرانية، .. أوكرانيا اليوم تحت حكم المعارضة (سابقًا) وصار قتلى المظاهرات بداية لرواية أوكرانية جديدة سوف تؤسس غالبًا لمرحلة سياسية وثقافية أوكرانية، أوكرانيا الأوروبية التي تريد أن تكون جزءًا من الغرب بحرياته وديمقراطيته وأسلوب حياته، وتقدمه الاقتصادي والثقافي المغري والمبهر للعالم كلّه،.. أو كما يقال إن الغرب اجتذب العالم إليه بالحريات والهمبرغر، .. ماكدونالدز كان أقوى جيش غربي أحلّه في جميع أنحاء العالم وفي قلوب معظم الناس! وتوافدت الجموع في أوكرانيا وفي سفاراتها في الخارج للتعزية بـ"الشهداء" ووضع أكاليل الزهور لمن صاروا رموزًا وأبطالاً وجنودًا منحوا الأوكرانيين آمالهم وتطلعاتهم!
الثورة المضادة
وفي المقابل فإن المدن والمناطق الروسية في أوكرانيا بدأت احتجاجات ومظاهرات جديدة ضد ما وصفته بالانقلاب على الشرعية (يانوكوفيتش)، ما يؤشر على احتمال انقسام سياسي واجتماعي، وربما انقسام البلاد الأوكرانية نفسها، وهناك إقليم "القرم" التابع لأوكرانيا ولكنه في الحقيقة شبه جزيرة تترية استوطنها التتار في القرن الثالث عشر، ثم احتلته روسيا عام 1771 ونفذت عمليات مذابح وتهجير واسعة بحق سكان الجزيرة التتر ليناقص عددهم من ثمانية ملايين في ذلك الوقت إلى مليون في هذه الأيام، ويشكل الروس اليوم أغلبية (58%) سكان الجزيرة التي تحكم ذاتيًّا ضمن أوكرانيا، وأما سكانها الأصليون التتر فيشكلون 12% فقط من عدد السكان البالغ اليوم حوالي مليوني نسمة، في حين يشكل الأوكرانيون 24% وهناك مجموعات أرمنية ويهودية.
ويشكل الروس 17% من سكان أوكرانيا، وهم بطبيعة الحال موالون لروسيا، ولكن الاتحاد الأوروبي أبدى اتجاهًا حازمًا للتصدي للحرب الأهلية أو محاولة الانقسام في أوكرانيا، وإن كان ذلك يستدعي وجودًا عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا لأوروبا وحلف الأطلسي، وفي المقابل قد يكون من السهل أن يتسلل مقاتلون روس في إطار غير رسمي ويخوضون مواجهات ونزاعات مسلحة مع الحكام الجدد لأوكرانيا! ويمكن في هذا السياق اعتبار تصريح "سوزان رايس" المستشار السابق لمجلس الأمن القومي، ووزيره الخارجية السابقة في الولايات المتحدة بأن "التدخل الروسي في أوكرانيا سيكون خطأ فادحًا" تحذيرًا عمليًّا لروسيا، وقالت كما لو أنها مازالت في موقع القرار والمسؤولية: "الولايات المتحدة الأمريكية تقف إلى جانب الشعب الأوكراني، والأوكرانيون عبروا عن أنفسهم سلميًّا".
المؤكد اليوم فقط هو أن الرئيس الأوكراني "يانوكوفيتش" أقيل ولم يعد رئيسًا للبلاد، ولكن ما عدا ذلك من احتمالات وتقديرات، سواء منها التقدم والازدهار أو الحرب الأهلية والانقسام، التحالف مع الغرب أو روسيا، ليست سوى أفكار وتوقعات، وقد يكون الحال مزيجًا من التوازن والائتلاف الهشّ، والجغرافيا أقوى دائمًا من التاريخ!