كيف تواجه الدول العربية أزماتها الاقتصادية؟

كيف تواجه الدول العربية أزماتها الاقتصادية؟

[caption id="attachment_55249852" align="aligncenter" width="620"]مزارع مصري يجني علف الماشية في احد الحقول بمحافظة البحيرة مزارع مصري يجني علف الماشية في احد الحقول بمحافظة البحيرة[/caption]

اتخذ تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية لعام 2013 عنوان «نهضة الجنوب.. تقدم بشري في عالم متنوع» وهو تقرير عالمي مهم ويحظى بالقبول والاهتمام في جميع أنحاء العالم، بل إن بعض مجالس الوزراء تخصص اجتماعات لمناقشته، ويمكن الموافقة على وصف التقرير لنفسه بأنه مساهمة قيمة في الفكر الإنمائي، إذ يصف عوامل محددة كانت بمثابة محرك للتحول في التنمية، ويقترح أولويات على صعيد السياسة العامة، يمكن أن تساعد على الاستمرار بزخم الماضي في المستقبل، ومن الرسائل الرئيسية التي يطلقها هذا التقرير وقبله التقارير السابقة للتنمية البشرية، أن النمو الاقتصادي وحده لا يحقق تقدما تلقائيا في التنمية البشرية.

السؤال ببساطة وبعيدا عن تقرير التنمية وتوجيهاته هو: كيف نحقق النمو الاقتصادي؟ وكيف نحول الدخل والنمو المطلوب إلى رفاه؟ وقد أصبحت أزمتنا في الدول العربية والنامية وحلولها واضحة وبسيطة ومتداولة في الجدل والحوار القائم، ثمة ركود اقتصادي وتضخم وبطالة مرتفعة، وبخاصة بين الشباب المتعلمين، ويصحب ذلك تغول الواردات على الصادرات الذي يطيح بالمكتسبات والفرص الاقتصادية ويحول دون تحويل الدخل إلى رفاه، والمسألة ببساطة كيف ننشئ بيئة اقتصادية ضمن الموارد والفرص المتاحة للنمو الاقتصادي وتخفيف الواردات وزيادة الصادرات وتوليد فرص عمل واسعة وكافية؟

يمكن ربط الأزمة الاقتصادية وأزمة الفقر والبطالة بمجموعة من السياسات وأساليب الحياة القائمة، ويمكن أيضا اقتراح مجموعة من الأفكار والبرامج التي تحسن الحياة وتحقق التنمية من غير موارد إضافية، ما يؤكد أن الإصلاح الاقتصادي والتنموي ليس هدفا بعيد المنال، وأن الموارد والفرص القائمة بالفعل تكفي بنسبة جيدة للتقدم، ولم تعد هذه المقولة فكرة رومانسية، ولكن تجارب قائمة بالفعل في دول عدة تؤيدها وتجعلها واقعية وممكنة التطبيق والنجاح، وهذا هو الدرس رقم 1 لتقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية.


خلق بيئة محفزة




الدور المطلوب من الدولة هو إنشاء بيئة من التشريعات والمؤسسات التي تشجع الإنتاج والعمل، والمجتمعات تتحمل مسؤولية المشاركة، وإن كانت البرامج الإنمائية والإدارية والتحديثية قد أضعفتها، فيمكن وبسرعة إطلاق دور المجتمعات ومنحها الولاية على المجالات والخدمات المفترض أنها تخصها، وأنه لا يمكن لغير المجتمعات إنجاحها وتفعيلها. لا بد من البدء بتخطيط المدن والبلدات والمرافق الأساسية التي تجعل البلديات وحدة اجتماعية تملك وتدير احتياجاتها وخدماتها الأساسية وتتيح للأفراد الالتقاء والحوار والعيش والعمل معا.. وهكذا تبدأ المجتمعات في الانطلاق والتفكير والمبادرات.

في ظل هذا التشكل الاجتماعي تنشأ بيئة مشجعة على مشاركة الناس بمختلف فئاتهم وطبقاتهم على التعبير والتأثير، وبالطبع ثمة حاجة كبرى وملحة للتعديل في محتوى العملية التعليمية لتعلم الأطفال مهارات الحياة والإبداع الثقافي والفني والرياضي والاجتماعي والمهني والحرفي، فمن شأن ذلك أن يحقق بناء علاقات اجتماعية وروابط حول المكان والمهن والأعمال تشجع على التجمع والعمل والاستثمار.

وقد عادت الزراعة من جديد لتكون القضية الرئيسة الكبرى للعالم، ورأينا بوضوح كيف أن الغذاء يمثل التحدي الرئيس للعالم، وأن الزراعة والصناعات الغذائية تحولت لتكون مدخل التقدم والإجماع الوطني والثقافة والفنون والآداب، باعتبارها القضية الوطنية الكبرى الجامعة للناس والتقدم والتراث، وكانت مدخل التقدم الهائل لدولة مثل تشيلي، وهي تشبه في مواردها وظروفها معظم الدول العربية.

ويمكن بوضوح ملاحظة أن التصحر يلتهم الأرض والموارد، ذلك أنه رغم إمكان تحويل البحار والبوادي والجبال العربية إلى غابات ومراع وحقول توفر الغذاء لجميع العرب ولجزء كبير من العالم، وأن تكون هذه الموارد المعطلة مصدرا للتنمية والتقدم وتوفير الغذاء والدواء... والصادرات أيضا.


عودة الزراعة




والمطلوب لتحقيق ذلك واضح وعملي وبسيط أيضا، الاهتمام بالزراعة لتشكل نسبة معقولة من الاقتصادات الوطنية العربية، ولتستوعب قطاعا كبيرا من العاملين من المزارعين والعمال والمهندسين والتقنيين الزراعيين، وتستطيع الحكومات أن توفر الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي للمزارعين والعمال، وبذلك تثبتهم في مزارعهم وبلداتهم، وتمنحهم أمانا صحيا واجتماعيا، وتستطيع جموع الشباب والمتطوعين والشركات الكبرى التي تربح الكثير ولا تشارك إلا بالقليل في المسؤولية الاجتماعية تنظيم حملات كبرى للتشجير في الجبال والبوادي لتتحول إلى غابات ومراع.

نسبة الغابات في الوطن العربي تراوح حول واحد في المائة، وهي في السويد 70 في المائة وتنتج شركة إيكيا السويدية من الصناعات الخشبية أكثر مما ينتج العرب جميعهم، وليس ما يمنع أن تتحول الغابات في الوطن العربي إلى بيئة من الأعمال والصناعات، وتطور المراعي لتشكيل بيئة من الثروة الحيوانية تكفي الاحتياجات الغذائية والتصديرية أيضا.. والمؤسسات والقطاعات والاحتياجات.

[caption id="attachment_55249853" align="alignleft" width="200"]القطن..نبات الاماكن الحارة القطن..نبات الاماكن الحارة[/caption]

هناك بالطبع إنجازات وقفزات تنموية كبرى في بعض الدول العربية، ولكنها للأسف الشديد نجاحات محدودة تكون كبيرة عند النظر إلى مستوى دولة ما، ولكن بالنظر إليها على مستوى إقليمي فإنها تضيع، وأعتقد أنه لا مفر من النظر إلى المنطقة العربية باعتبارها إقليما جغرافيا متواصلا ومتشابكا مع بعضه، بل إن أوروبا ترى نفسها شريكة مع دول المتوسط لأجل الأسواق والمصالح والأمن والاعتدال.



موارد لا تنشئ التقدم




لا شك في أن الاستثمارات الأجنبية هي موارد إضافية للبلاد والمجتمعات، ولكننا في أحيان كثيرة نحولها إلى أداة للنزف وهدر الموارد بدلا من زيادتها، وبخاصة إن لم ترتبط بالاحتياجات والأولويات الحقيقية، وهي في حالتنا الراهنة تحويل الصحارى والجبال والسهول إلى بيئة اقتصادية وإنتاجية، يتجمع فيها الناس وليس السياح حول مصالحهم، وإقامة غابات ومراع لا لتكون مجمعات من الفيللات والمنتجعات السياحية، ولكن لتقوم حولها صناعات غذائية ودوائية وخشبية، تقلل من الواردات الغذائية، وتعيد صوغ أساليب البناء لتكون أقل تكلفة وبموارد متاحة ومتجددة، فالصحراء قدرنا، ويجب أن نفكر كيف نعمرها، ونحولها إلى بيئة تجتذب معظم المواطنين مثلما هي تشكل معظم مساحة البلاد.

نتحدث في الأردن - وهو مثال قابل للتعميم - عن الطاقة النووية بما تحتاج إليه من موارد وتقنيات مستوردة ومياه غير متوافرة، ونحن نملك موارد هائلة من الشمس يمكن أن تعوضنا معظم - جميع ما ننفقه على الطاقة، ويشكل معظم واردات البلد ويستنزف معظم ناتجه القومي، ونتحدث عن الاستثمارات الأجنبية ونحن نملك فرصا متاحة لنهضة قائمة على الغابات والبوادي والزراعة، وبخاصة أن الأردن يستورد أكثر من 90 في المائة من احتياجاته الغذائية، بل تحول الأراضي الزراعية الخصبة وأحواض المياه الجوفية إلى أحياء سكنية وطرق ومبان، وتترك أراض أخرى تصلح للبناء والسكن.
يمكن بقدر قليل من البداهة والنظر في مشكلتنا الاقتصادية والمائية ملاحظة أن الأزمة ليست متعلقة بندرة المياه ولكن بإدارتها، وبأسلوبنا في تشكيل حياتنا وعلاقاتنا بمواردنا، فيمكن مثلا بالاعتماد على مياه الأمطار فقط إقامة زراعات حقلية وشجرية مثمرة وحرجية وعلفية واسعة في مناطق كثيرة جبلية وسهلية وصحراوية أيضا، ويمكن بإدارة وتجميع هذه المياه توفير فرص كافية للري والشرب للتجمعات السكانية والاقتصادية.

وهناك رغم الأزمة المائية هدر مائي كبير، ويمكن بالمحافظة على هذه الموارد وإدارتها توفير مجالات واسعة للري والشرب أيضا، ويمكن أيضا بحماية المصادر والأحواض المائية والأودية والسيول وتجنيبها الطرق والبيوت والمباني، حماية هذه المصادر والمحافظة عليها، ويمكن بمعالجة مياه الصرف الصحي معالجة أفضل ومتقدمة إعادة تدوير استخدامها.

ويمكن بالطاقة الشمسية إقامة مشروعات واسعة للطاقة ولتحلية مياه البحر، ويمكن بتطوير وسائل الري تقليل الكميات اللازمة للري، ويمكن مراقبة تنظيم وتخطيط التجمعات السكنية وفق المياه ووفرتها كما هو في التاريخ والجغرافيا، وهناك أيضا فرص لزراعات صحراوية تروى بمياه البحر، وبخاصة لإنتاج الأعلاف أو الزراعة لأجل إنتاج الطاقة، وبذلك يمكن توفير المياه العذبة لإنتاج الغذاء البشري، علما بأنه يمكن أيضا إنتاج أغذية بشرية مستمدة من نباتات تروى بمياه البحر.
بالطبع هناك أزمة مائية ضاغطة، ولكن نحتاج إلى ملاحظة العلاقة بين الأزمة المائية وأسلوب الحياة، فالمجتمعات تشكل بنفسها أنظمتها الاقتصادية ومواردها حول أو قريبا من الماء أو في أماكن فرص تجميعها والحصول عليه، ويمكنها بعد ذلك أن تنشئ منظومة اقتصادية واسعة في المكان، فإذا كانت تقيم في البادية على سبيل المثال، فإنها تنشئ المراعي والزراعات العلفية والصناعات الغذائية القائمة على المواشي، وتطور في أنظمة الري والطاقة الشمسية، وتحلية المياه، والري بمياه البحار على النحو الذي يعظم الزراعة ويفعلها، وتختار من أنواع الزراعة والصناعات ما يتفق مع فرص الحصول على الماء ونوعيته، وتستخدم المواد المتاحة في أنظمة بناء أقل تكلفة وأكثر ملاءمة للمناخ، وبمرور الزمن وتراكم المنجزات تتشكل مدن وجامعات ومراكز دراسات وحياة اقتصادية واجتماعية وثقافية متطورة تجعل من الصحراء موردا معرفيا وزراعيا وغذائيا، ثم سياحيا.

وفي المناطق الجبلية يمكن إنشاء بلدات تقوم على زراعة الأشجار المثمرة والغابات، وتنشأ بطبيعة الحال حولها صناعات غذائية وخشبية ودوائية، وتكيف أيضا أساليب الحياة والبناء على النحو الذي يجعل البيئة المحيطة موردا كبيرا، فالصناعات الخشبية يمكن أن تكون أساسا لاقتصاديات واسعة وهائلة في البناء والأثاث، وتخفيض الاعتماد على الإسمنت والحديد غير المتجددين وغير المتوافرين أيضا، فتقام مبان بتكلفة أقل وبموارد متجددة، وتبقى البيئة في حالة من النمو المتواصل وليس النزف والتلوث والتدمير.


الفقر هو ضعف المشاركة في الموارد والقرارات




لم يعد النظر إلى الفقر باعتباره النقص في الموارد والاحتياجات الأساسية تعريفا يصلح لفهم أو حل إشكالية الفقر والتفاوت والظلم الاجتماعي والاقتصادي المتفاقمة، والتي تشمل غالبية السكان والمناطق في أنحاء واسعة من العالم، ولذلك فإن البنك الدولي أعاد تعريف الفقر ومفهومه ليشمل المشاركة العامة والسياسية والحريات والقدرة على إسماع الصوت والعدالة في الإنفاق الحكومي وتوزيع الموارد العامة للدولة على الاحتياجات والأولويات والمناطق توزيعا عادلا، والتعرض للمخاطر كالمرض وقلة الدخل والعنف والجريمة والكوارث والانتزاع من المدارس.

[caption id="attachment_55249854" align="alignright" width="300"]حفنات من حبوب القمح حفنات من حبوب القمح[/caption]


من الواضح أنه تعريف يختلف إلى درجة التناقض مع فكرة ومشروعات تقديم المساعدات للفقراء، ويقتضي حتما أن مكافحة الفقر هي عملية صراع ونضال لتحقيق العدالة الاجتماعية والمشاركة في القرارات العامة والسياسية وتوزيع الموارد العامة توزيعا عادلا على الفئات السكانية والاجتماعية والجغرافية.

وهو مفهوم تؤيده أيضا تقارير وإحصاءات البنك الدولي والأمم المتحدة عن التفاوت في الحصص من الاقتصاد والإنفاق العام ومشاركة المرأة وتمكين المجتمعات، فالفقر المرتبط بانخفاض الدخل هو أحد أوضاع الفقر وليس كلها، ولكن من المؤكد أن الحالة المزرية للناس تعود إلى عجزهم عن إيصال صوتهم، وإدارة مواردهم وضرائبهم على النحو الذي يعود عليهم بالتنمية والتقدم، ذلك أن التقارير الدولية تؤشر إلى أن الضرائب والموارد العامة يستفيد منها الأغنياء والمتنفذون، وتحرم منها فئات اجتماعية وسكانية واسعة، وقد يشمل هذا الحرمان في بلد مثل الأردن أكثر من 70 في المائة من السكان، فيكون بعد ذلك الحديث عن المساعدات والمعونات المقدمة للفقراء زيادة في إهانتهم وإفقارهم وحرمانهم، لأنها عمليات وإن كانت مستترة بالشفقة والتنمية والحرص تنطوي على إضعاف المشاركة العامة وغض الطرف عن التفاوت في الإنفاق العام والفساد الإداري والمالي، وضعف بل انهيار الخدمات العامة وإسكات الناس وجذب تأييدهم ضد مصالحهم، في الوقت الذي يمكنهم الحكم الرشيد والإدارة الصحيحة للخدمات العامة من الخروج من الفقر من غير مساعدة، وهو ما يدعو إلى الريبة في النشاط الزائد والمحموم تجاه مساعدة الفقراء مع التقاعس عن رفع سوية المؤسسات الخدمية والمرافق العامة، كيف تصدق هذه الجهود الرسمية والدولية لمساعدة الفقراء في الوقت الذي يدير فيه القائمون على هذه المساعدات عمليات احتكار واسعة للفرص والموارد العامة، ويمنعون التنافس العادل على الوظائف والأعمال، ويدفعون على نحو واع ومبرمج المؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية إلى الانهيار؟
يعرض تقرير البنك الدولي نسبة حصة أغنى 20 في المائة إلى أفقر 20 في المائة من السكان في دول العالم من الإنفاق العام، ثم يلاحظ التفاوت في الإنفاق العام بين الأغنياء والفقراء في الصحة والتعليم في كل بلد، وبذلك يمكن الاستنتاج ببساطة وبداهة أن مكافحة الفقر تكون بإعادة توجيه الإنفاق على النحو الذي يحقق التوازن والعدالة، ومن ثم فإن العروض الإعلامية التي تغرقنا بها مؤسسات وشخصيات أنيقة ومعزولة عن المساعدات تبدو بوضوح عديمة الفائدة إلا لأغراض تحقيق المتعة والتسلية للجهات والشخصيات المانحة.

وينفق المواطنون نسبة كبيرة من دخولهم على الاحتياجات الأساسية المفترض أن توفرها الدولة، ففي الأردن على سبيل المثال يستهلك الإنفاق على الصحة والتعليم معظم دخول الطبقات الوسطى بسبب ضعف وفساد المؤسسات التعليمية والصحية، وفي موريتانيا ينفق الفقراء 20 في المائة من دخلهم للحصول على المياه بسبب ضآلة البنية الأساسية للمياه. ومن الممكن حتى عندما يتعذر تحديد الفقراء فرادى بواسطة الوسائل الإدارية تصميم الدعم ليصل إلى الفقراء، بالاستهداف القطاعي والاستهداف الجغرافي للريف والمناطق النائية والفقيرة، والاستهداف السلعي كالأغذية والتعليم والدواء.
وهكذا يمكن بوضوح ملاحظة الفارق الهائل بين وجهات الإنفاق المزعومة تجاه الفقر في بلاد كثيرة، ومنها بلادنا، وبين وجهة العالم وتفكيره، ويمكن ببساطة تقدير أنها نفقات على ضخامتها، وهي بالمناسبة أرقام كبيرة جدا، لا تنقص من الفقر شيئا إن لم تزده، وأنها تندرج ضمن أعمال تسلية الأغنياء والمتنفذين وإمتاعهم.


استراتيجية الأمن والتمكين




وفي أوائل القرن الجديد اقترح البنك الدولي استراتيجية تعتمد على ثلاثة مبادئ:
1- تعزيز إتاحة الفرص بتوفير الوظائف والائتمان والطرق والكهرباء والأسواق والمدارس والمياه والصرف الصحي والخدمات الصحية. وتتضمن مشروعات تعزيز الفرص أيضا المساواة وتشجيع الاستثمار ومكافحة الفساد والعدل وسيادة القانون الشفافية وتكوين بيئة أعمال واضحة والتصدي للبيئة القائمة على الرشوة والاحتكار وتقديم الدعم المالي لكبار المستثمرين وعقد الصفقات الخاصة وتشجيع المؤسسات الصغيرة وحمايتها.

2- التمكين: بالتفاعل بين العمليات السياسية والاجتماعية والعمليات المؤسسية الأخرى لتقوية مشاركة الفقراء في العمليات السياسية واتخاذ القرارات على المستوى المحلي وإزالة الحواجز الاجتماعية القائمة على الجنس أو العرق.
3- الأمن الاقتصادي والأمن من الكوارث والمرض والعنف وإدارة مخاطر الصدمات التي يتعرض لها الاقتصاد والفقراء، وتتلخص إجراءات تحقيق الأمن في مساعدة الفقراء على مواجهة المخاطر الطبيعية كالفيضانات والانهيارات والزلازل والأعاصير والجفاف والبراكين. والمخاطر الصحية: مرض، وباء، عجز، وشيخوخة. والمخاطر الاجتماعية: جريمة، عنف، إرهاب، عصابات، حروب ونزاعات. والمخاطر الاقتصادية: بطالة، قصور المحاصيل، ارتفاع الأسعار وتغيرها، انهيار النمو، التضخم، التحولات التكنولوجية، والتداعيات المرافقة للتحولات الاقتصادية. والمخاطر السياسية: أعمال شغب، تقصير سياسي، وانقلابات عسكرية. والمخاطر البيئية: تلوث، تصحر، إزالة الغابات، وكوارث نووية.
ولذلك، فإن وجهة الأمم المتحدة والبنك الدولي في مكافحة الفقر تمضي نحو تمكين المجتمعات وإسناد الخدمات العامة إليها ومشاركتها في الإدارة والحكم، وهي وجهات ومفاهيم تمضي بنا إلى مرحلة اجتماعية وحضارية لطالما كانت موضع تجاهل ونسيان، أو هي ببساطة عصر المجتمعات.
ثمة فجوة واسعة في مستوى المعيشة والإنفاق وفي عدالة التوزيع ووجهات وأغراض الإنفاق العام والاستثمار، وقد أصبحت الفجوة مقياسا محددا ومقروءا في التقارير الدولية والوطنية، الفجوة بين أغنى خمس وأفقر خمس في الدخل ومستوى المعيشة والحصة من الموارد العامة، والفجوة بين الذكور والإناث في الفرص والوظائف والتمكين، والفجوة بين الأجيال والفئات الاجتماعية والمهنية والحرفية، والفجوة بين المحافظات والمناطق، والفجوة بين الريف والمدن، والفجوة في استخدام التقنية، والفجوة في التعليم والحريات والوصول إلى المعلومات والمشاركة في الموارد والقرارات والحياة السياسية والعامة والقدرة على التأثير، والفجوة بين الدول الفقيرة والغنية. وبالطبع فإن الفجوة في فكرتها الأساسية تمثل دليل عمل للتنمية والإصلاح وتوجيه الإنفاق والمشروعات، ولكن ذلك ليس دائما فكرة صائبة يجب اتباعها، أو لنقل بدقة ما هي الفروق والفجوات التي يجب تتبعها؟ وأيضا أين ومتى وكيف يجب إدارة الفجوة؟ فقد أدت المتابعة الدائمة لمنجزات ومستوى الحياة والتقنية لدى الآخرين إلى ضياع الأولويات، وهدر منجزات وأساليب إنتاج وحياة معقولة وقليلة التكلفة لتحل مكانها أنماط من العمل والموارد أكثر تكلفة، وتؤدي إلى زيادة الواردات، وتداعيات اجتماعية وثقافية مرهقة ومكلفة.

التوسع الكمي والعشوائي في التعليم، على سبيل المثال، أدى إلى تدمير الزراعة والحرف والمشروعات الريفية والأعمال الصغيرة، والهجرة الواسعة من الريف إلى المدن.. كيف نحافظ على الزراعة والسكان في الريف، وفي الوقت نفسه نجعل من الزراعة والريف جاذبة للناس والأجيال؟ وبالطبع ليس المطلوب التمسك الطوباوي والرومانسي أو الآيديولوجي بأنماط سابقة للإنتاج والعمل والحياة، ولكن كيف نحافظ على مواردنا وأساليبنا التقليدية والمتاحة والممكنة في العمل والحياة ونجعلها ملائمة للتطلعات الجديدة والمتجددة للحياة واللحاق بالآخرين واقتباس ما لديهم من فرص وتقنيات، من غير أن ندمر ما لدينا. فنعلم أن الناس كانت تتدبر معيشتها في الغذاء والطعام والمسكن واللباس والدواء، وتنشئ في ذلك تقنيات وأساليب ومهارات وخبرات وتجارب كثيرة، وكون هذه المنتجات الحضارية أقل مستوى وجاذبية مما أنتجته الحضارة المتقدمة لا يعني الاستغناء عنها، أو أنها لا تصلح، فهذه المنتجات تكون على قدر من التقدم يتفق مع المستوى الحضاري والفكري لأصحابها، وليس لأنها بذاتها عاجزة أو متخلفة، وهنا يفترض أن تكون برامج وأفكار سد الفجوة أو تقليلها تقوم على اقتباس وتهجين هذه المنتجات والأعمال وإعادة إنتاجها وفق الخبرات والتقنيات التي أمكن حضارات ومجتمعات ودولا أخرى إنجازها.


font change