الحراك الشعبي العربي انحرف عن مساره الأساسي، في مطالبه الثورية

الحراك الشعبي العربي انحرف عن مساره الأساسي، في مطالبه الثورية

[caption id="attachment_55249778" align="aligncenter" width="620"]مواطنون تونسيون يحاولون الوصول للخبز من وراء الأسلاك الشائكة أثناء انتظارهم العبور الى تونس بعد فرارهم من ليبيا هربا من العنف قبل سقوط نظام القذافي- رأس جدير28 فبراير 2011 مواطنون تونسيون يحاولون الوصول للخبز من وراء الأسلاك الشائكة أثناء انتظارهم العبور الى تونس بعد فرارهم من ليبيا هربا من العنف قبل سقوط نظام القذافي- رأس جدير28 فبراير 2011[/caption]

من دون أدنى شك، فإن لهذا الحراك الشعبي العربي أسبابا متعددة، وله خصوصية تبعا لكل بلد ومجتمع قام فيه. ومن دون أدنى شك فإن انحراف هذا الحراك عن مساره الأساسي، في مطالبه بالحرية والخبز اليومي، يعود إلى خصوصية المجتمعات التي وُلد في كنفها.ولكن للأسف، فإن الحراك هذا، تحول إلى صراع على السلطة بين مكوناته حتى قبل أن يصل إلى أهدافه، في الحرية والديمقراطية.
فالثورة في مصر مثلا أو تونس أصبحت مواجهة بين الإسلاميين الذين تسلموا الحكم ومعارضيهم، أما في سوريا، فأضحت الثورة مجرد عنوان لحرب مذهبية أخرى في منطقة تكثر فيها المذاهب.يبقى أن القاسم المشترك الوحيد بين تلك الثورات العربية، أو قل نقطة انطلاقها، يقوم على وجود أزمة اقتصادية صعبة داخل تلك المجتمعات، معطوفة على فساد طبقة مقربة من الحاكم تمتص خيارات البلاد وثرواتها في ظل انعدام فرص العمل لدى الشباب، الذي يمثل 60 بالمائة من المواطنين دون الـ30 عاما.


الوضع الاقتصادي




نعم، قد يكون لهذا الحراك أكثر من سبب، ولكن يبقى أن الوضع الاقتصادي السيئ كان الحافز الأساسي له. فلنعد لتونس، حيث كانت الشرارة التي أشعلت ثورات العالم العربي، وبالتحديد لمحمد بوعزيزي، هذا الشاب البائع المتجول الذي أصبح رمزا لتلك الثورات.
كان حلم هذا الشاب وطموحه، بحسب رواية عمته، اقتناء قاطرة صغيرة ينقل فيها الخضار، تقيه عناء جر عربته في شوارع سيدي بوزيد. وفي يوم جاءته شرطية وصادرت عربته بحجة أنه لم يكن يملك تصريحا يخول له بيع الخضار، طمعا برشوة ما يدفعها لها الشاب، ابن الـ26 ربيعا. تطاولت الشرطية على بوعزيزي، الذي أراد استرداد عربته، وصفعته. بكى بوعزيزي وهو جالس على قارعة الطريق، ثم نهض فجأة، وقرر أن يشعل نفسه اعتراضا على الظلم والفساد الذي حرمه تعب نهار كان يأخذه إلى عائلة كبيرة تتألف من ثمانية، يعيلها.

شاهد عيان سمع بوعزيزي يصرخ بوجه الشرطية قبل أن يشعل نفسه، ومعه ثورات العالم العربي: هل يجب أن أصبح سارقا كي أعيش؟ هل يجب أن أموت؟
محمد بوعزيزي هو تعبير عن حالة مئات من الشباب التونسي، والعربي، ذات الشهادات الجامعية، العاطل عن العمل، يتسكع في القهاوي الشعبية، ويعي أن مستقبله هو ضحية فساد الطبقة الحاكمة والزبائنية المستشرية. وعندما لاحت فرصة التمرد على واقع الحال، تحدى هؤلاء الشباب الخوف وجبروت النظام الاستبدادي والقمعي، وطالبوا بالحرية والكرامة والخبز.فالموت أحيانا أرحم من الذل والعوز.بعض الشعارات التي زينت جدران تونس أيام ثورة شبابها كانت تقرأ: «لا للفقر»، و«العمل للشباب».في مصر، لم يكن الوضع أحسن حالا. فالحركات التي أطلقها المجتمع المدني اعتراضا على الفساد والكساد الاقتصادي، وتفاقم المشكلات الاجتماعية، على مدى عقود عهد الرئيس حسني مبارك كانت بمثابة إنذار لما ينتظر مصر.


وقت التغيير




قبل عام من اندلاع الثورة المصرية تنبأ كل من رباب المهدي وفيليب مارفليت في كتابهما «مصر.. وقت التغيير»، حصولها نظرا للأوضاع المعيشية المأساوية والظروف الاقتصادية الصعبة التي كان يعيشها الغالب الأعم من الشعب المصري.

فالثورة المصرية ليست وليدة ساعتها، إنما نتيجة لعقود من الممارسات الاقتصادية الخاطئة التي تسببت بها الحكومات المصرية منذ ما بعد ثورة الضباط الأحرار.فالتحول الصعب في الاقتصاد المصري؛ من اشتراكية ناصرية، إلى نوع ما من نيوليبرالية على أيام السادات ومبارك، ترك آثارا سلبية على نوعية حياة المصريين، جاعلا أكثر من 20 في المائة من الشعب المصري يعيشون حالة من الفقر المدقع، كما دفع بقسم كبير من الشباب المصري إلى الهجرة سعيا وراء لقمة عيشه. تلك السياسات الاقتصادية أضرت أيضا بالمزارعين، (يشكلون 30 في المائة من القوة العاملة)، الذين كانوا استفادوا من الإصلاح المتواضع أيام ناصر حيث إنه أعاد توزيع الأراضي على المزارعين (14 في المائة من الأراضي إلى نحو 10 في المائة من المزارعين). ولكن ما لبث عهد النيوليبرالية أن أعاد تلك الأراضي إلى مالكيها أو أعطاها لاستثمارات أجنبية، سعت للربح الوفير من خلال زيادة إيجارات الأراضي بشكل غير منطقي ترك المزارعين في وضع معيشي شبه مستحيل.

اتباع تلك السياسات الاقتصادية أدى في نهاية المطاف إلى رفع تكلفة المعيشة، وجعل الطبقة الغنية الموالية للحكم أغنى من ذي قبل، وغالبية الشعب المصري أقرب إلى الفقر.أما الفساد، فأصبح ثقافة تفرض نفسها على كل أوجه الحياة المصرية. اتباع القانون في معاملات الدولة مثلا أصبح هو الاستثناء. فتسجيل شقة في مصر، مثلا، أو الحصول على رخصة ما، من دون دفع رشوة قد يتطلب سنين.
ولكن على الرغم من القيود المفروضة على حرية التعبير، والاعتراض، وعلى الرغم من تسلح الحاكم بصلاحيات غير محدودة، كونه كان يحكم في ظل قانون الطوارئ، اعترض الناس وفي أكثر من مناسبة.
فنزل المصريون إلى الشارع للاعتراض على السياسات الاقتصادية وتأثيراتها على حياتهم والفساد المستشري، وغلاء المعيشة، وفقدان الفرص المتكافئة للوظيفة، في عامي 1970 و1971، وعام 1979، ومجددا من عام 1984 إلى 1989، وأخيرا في 2004، مع حركة «كفاية».ولكن تلك الاعتراضات الشعبية لم تدفع الحكم إلى القيام بإصلاحات جدية. وهكذا، وبعد عقود من الحرمان والفقر وتدني مستوى الحريات العامة وانتهاك حقوق الإنسان اندلعت ثورة «يناير» مطالبة برحيل الرئيس مبارك.


ضحكات الأسد




عندما سُئل الأسد من قبل صحافيي «وول ستريت جورنال» إن كان يخشى أن تنتقل عدوى الثورات العربية إلى سوريا، ضحك طويلا، وأكد أن الشعب في سوريا يحب قيادته وراضٍ عن أدائها. هذا كان قبل أشهر قليلة من بدء الاعتراضات السلمية شمال سوريا المطالبة برحيل الأسد.
ما كان يجهله الأسد ربما لكثرة انشغاله في تحصين جبهة الممانعة والصمود بوجه إسرائيل، أنه كان يواجه كارثة مائية، في بلد تمثل فيه الزراعة 25 في المائة من الناتج المحلي. الكارثة المائية، وإن كانت في جزء منها تعود للجفاف الذي ضرب مناطق سوريا الزراعية في الآونة الأخيرة، يبقى أن جزءا كبيرا تتحمل مسؤوليته الدولة، أو فشلها في رسم سياسة مائية وزراعية تتلاءم وتتطور ظروفها البيئية والجيولوجية.

فالدولة سمحت للمزارعين على مدى عقود بحفر الآبار عشوائيا، مما أدى إلى الإضرار بالمياه الجوفية، وهي لم تبادر إلى تحديث طرق الري، فكانت النتيجة، أن سوريا وبعد أن كانت بلدا مصدرا للقمح، أصبح بلدا يستورده.
ولكن الأهم في تلك المسألة، أن أكثر من 300 ألف عائلة، جراء الواقع الجاف، تركت أراضيها القاحلة ونزحت إلى المدن الكبرى لتفتش عن لقمة عيشها.
وحسب تقرير للأمم المتحدة أكثر من 800 ألف شخص فقدوا عملهم في الأعوام الأخيرة، طبعا قبل اندلاع الثورة، وكانوا يعيشون حالة فقر مدقع.هذه الواقع الضاغط الآتي من الريف إلى المدن، كان في قلب الاعتراضات التي اجتاحت المدن السورية، وإن لم يكن السبب الوحيد في اندلاع الحرب الأهلية فيها.
اليوم، تونس ما بعد الثورة تعاني. فنسبة البطالة زادت بعد رحيل بن علي، والسياحة التي كانت تستقطب سبعة ملايين سائح سنويا تدنت إلى ثلاثة ملايين في ظل انعدام الاستقرار السياسي وانتشار ظاهرة اغتيال معارضي حزب النهضة.

أما في مصر، فالمواجهة بين الشعب الذي أراد إسقاط النظام، صارت عسكرية، بين الجيش من جهة وأنصار الإخوان المسلمين من جهة أخرى. وفي جو عدم الاستقرار السياسي، ارتفعت نسبة البطالة إلى 13 في المائة، يمثل ثلاثة أرباعهم الشباب بين 15 و29 عاما. خسارة القطاع السياحي في مصر منذ اندلاع الثورة تقدر بـ2.5 مليار دولار. ناهيك عن تدني الإيداعات المصرفية إلى الثلثين.
أما سوريا فهي في قلب حرب أهلية لن تبقي ولن تذر.يقول تيمور كوران الأستاذ الجامعي في ديوك، عام 1989، في محاولة لتفسير السقوط المفاجئ لأنظمة كانت تبدو مستقرة، إن النظام قد يكون مكروها من الشعب في السر، بينما قد يبدو يتمتع بشعبية، ذلك لعزوف المجتمع عن التعبير عن معارضته له. وقد يبدو النظام صلبا لا يتزعزع حتى تأتي حادثة عرضية، تكشف ضعفه، وتشعل صراعات اجتماعية حادة كانت حتى ذلك الوقت خفية.

والحقيقة أن كثيرا من تلك المشكلات الاقتصادية والاجتماعية لم تظهر للعلن، لأن مظاهر الاعتراض كانت تقمع (بمعرفة ورضا القوى العظمة) تحت حجج سياسية واهية، كمواجهة «العدو الصهيوني»، وتحرير القدس، أو حتى الحرب على الإرهاب.تلك الثورات العربية تواجه اليوم تحديات كبيرة. فهي التي بدأت بمطالب اجتماعية واقتصادية محقة، ومحددة، تحولت إلى أزمات سياسية كبرى، كما في مصر وتونس مثلا، أو إلى حروب مذهبية عنيفة، كما في سوريا.
حتى الشباب من أبناء المجتمع المدني، الذين زينوا الساحات العربية بهتافاتهم، وشعاراتهم، وعفويتهم، وتضحياتهم، أصبحوا شهود زور لصراع دموي حول السلطة، لا يلبي مطالبهم بالعيش الكريم والحرية.

فالدستور الذي أقره الرئيس مرسي بعد ثورة يناير لا يشبه ساحة التحرير وملايينها ومطالبها. والمسيرات السلمية التي اكتظت بها بلدات سورية لا تشبه المجازر الأهلية الدائرة في مدنها وقراها.والواقع أن المطالب في العيش الكريم والحرية لم تعد أولوية؛ فلا الحرية متاحة ولا الخبز متوفر.


الفلافل للجميع!




لم يَغِبْ يوما عن بال حكام العرب وجوب تأمين الطعام للمواطن بأسعار منخفضة. من هنا سعى الحكام ومن أجل خفض أسعار المواد الغذائية الأولية للاعتماد على سياسة الدعم، من أجل إرضاء شعوبهم، ومنعهم من الثورة على الجوع. 65 مليون مصري من أصل 84 مليونا، يحصلون على مواد الطعام الأولية كالأرز، والسكر والشاي بأسعار مدعومة من الدولة. في سوريا الخبز والمحروقات تخضع أيضا لدعم الدولة، وهذا الأمر يُطبق في كثير من الدول العربية.
ولكن الأزمات المالية العالمية، وارتفاع أسعار المواد الأولية، والزيادة الديموغرافية التي طرأت على تلك المجتمعات العربية، بالإضافة إلى غياب سياسات اقتصادية جدية، تحفز النمو، وتخلق فرص عمل للشباب، وتوزع الثروات بشكل عادل، بالإضافة إلى استشراء الفساد، جعل تلك الحكومات عاجزة عن الاستمرار في سياسة الدعم، التي تهدف أولا وأخيرا إلى تدجين الشعب ليس إلا.
قد تهدأ تلك الصراعات يوما، وتعود الأمور إلى طبيعتها في مصر أو تونس أو غيرها من البلدان التي تمر بأزمات، ولكن ما لن يتغير في هذه المجتمعات هو نجاح الشباب العربي في كسر حاجز الخوف. وهذه خطوة أولى جيدة على أن يليها خطوة أخرى مهمة ترد على الأسئلة التالية التي أثارتها تلك الثورات في أكثر من بلد؛ ما علاقة الدين بالسياسة؟ ما علاقة الحاكم بالمحكوم؟ ما شكل العلاقة بين الأقليات المذهبية والأكثرية؟ وكيف تُحفظ حقوقهم بالاختلاف؟ ما دور المرأة في عالمنا العربي؟ كيف نبني اقتصادا متينا يقوم على الشفافية؟ وأسئلة كثيرة أخرى إذا ما وجدت أجوبة لها، وأصبحت دستورا يُعتمد في مجتمعاتنا، يصير الربيع العربي مسألة قيد التحقيق، وتصبح وجبة الفلافل متاحة للجميع من دون دعم أو تدخل الدولة.




font change