إن كان «التلويح بالعصا» لإيران هو ما أراده الرئيس الأميركي، فلا لزوم لإطلالته أصلا، فالعلاقة بين واشنطن وطهران سيئة منذ 34 عاما، ولا يحتاج أي رئيس أميركي لتأكيد مدى توترها، مما يعني أن مشاركة أوباما في مؤتمر المركز المذكور، كانت بهدف حشد التأييد لتسوية مع الإيرانيين، لا لتصعيد لهجة التهديدات ضدهم، على حسب ما ظن البعض.
أما في اختيار «مركز صابان»، فدلالات عديدة، أولها أن المركز من المراكز اليسارية الأميركية القليلة التي تتمتع بعلاقة متينة مع كبار المسؤولين الإسرائيليين، الذين يحضرون سنويا المؤتمر الذي أطل فيه أوباما.
في صابان، كان مشهد أوباما بأكمله مصمما بطريقة محكمة تهدف إلى إرسال تطمينات إلى الإسرائيليين، ولكن باستخدام عبارات يبدو أنه متوافق عليها من خلال القنوات الأميركية السرية مع طهران، أي أن تكرار أوباما تهديداته للإيرانيين كان بهدف كسب تأييد أصدقاء أميركا للتسوية، لا من أجل استثارة طهران والإطاحة بهذه التسوية المزعومة.
ولا شك أن خطوة أوباما هذه كانت ستكون متعذرة عن طريق مراكز الأبحاث اليمينية المقربة من إسرائيل والتي تطعن بشكل واسع في نوايا الإيرانيين وفي الجدوى الاستراتيجية لأي اتفاقية معهم.
«مركز صابان»، على غرار المراكز اليسارية الشبيهة، وعلى عكس غالب نظيرتها اليمينية، يقوم بدور واسع في دعم وتسويق مشروع أوباما للتسوية مع إيران، وكذلك يفعل المثقفون والصحافيون ووسائل الإعلام المحسوبة على اليسار الأميركي.
ومن «صابان» إلى «مجلس الأطلسي»، اليساري أيضا، تتواصل حملة الإدارة ومؤيدي الانفتاح على إيران. فـ«مجلس الأطلسي» كان يترأسه، حتى الأمس القريب، وزير الدفاع تشاك هيغل.
سياسة الانخراط
وعلى الرغم من أن هيغل سبق أن وصل إلى مجلس الشيوخ ممثلا الحزب الجمهوري اليميني، فإنه لطالما افترق عن حزبه وزملائه في معظم شؤون السياسة الخارجية، فهيغل كان من أشد المؤيدين لما سمي في حينه «سياسة الانخراط» مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد، الذي كانت إدارة الرئيس السابق جورج بوش قد فرضت عزلة دولية عليه بسحبها سفيرتها مارغريت سكوبي، على أثر اغتيال رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري في فبراير (شباط) 2005.
هيغل كان، ولا يزال، مؤيدا لا للانفتاح على الأسد فحسب، بل كذلك على إيران، وهو غالبا ما يردد أنه جنى ثروة على أثر انفتاح بلاده على الصين مطلع السبعينات، رغم استمرار الخلاف العقائدي والسياسي بين البلدين. ومثلما جمع هيغل، الذي تجمعه علاقات ممتازة بمؤيدين للأسد من العرب الأميركيين المقيمين في واشنطن، ثروة من الصين الشيوعية، يعتقد أنه يمكن لأميركيين كثر أن يجمعوا أموالا من الانفتاح على إيران الإسلامية.
«مجلس الأطلسي» برئاسة هيغل - كما من بعده، على أثر اضطراره التخلي عن منصبه بعد تعيينه وزيرا للدفاع - يلعب دورا أساسيا في الدعوة للانفتاح على إيران. حتى قبل المكالمة بين أوباما ونظيره الإيراني حسن روحاني، وحتى قبل انتخاب روحاني رئيسا، لطالما عقد هذا المركز ندوات وحلقات حوار بوتيرة شهرية لحشد التأييد للنظام الإيراني، كان آخرها في 18 ديسمبر (كانون الأول) وشهدت تقديم تقرير حول ضرورة انفتاح أميركا على إيران «في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي».
وعلى عكس التقليد السائد في مراكز الأبحاث بضرورة تقديم آراء أكبر عدد من الخبراء في أي موضوع، فإن المتحدثين في ندوات «مجلس الأطلسي» هم في الغالب أنفسهم: تريتا بارسي رئيس «المجلس القومي للأميركيين الإيرانيين» (بارسي ليس أميركيا بل إيراني يحمل الجنسية السويدية وإقامة دائمة في الولايات المتحدة)، وزميله في المجلس رضا ماراشي، وصديقهما الإيراني بيجان خاجه بور، والذي يفترض أنه يترأس شركة للاستشارات الاستثمارية في فيينا مع فروع لها في أميركا. وغالبا ما يدير الحوار إما الباحثة في «مجلس الأطلسي» باربرا سلافين أو زميلتها مراسلة موقع «آل مونيتور» لورا روزن.
وقبل الحديث عن «آل مونيتور»، وهو أحد المحركين الأساسيين للمجموعة المؤيدة لاتفاق أميركي مع إيران، لا بد من الإشارة إلى أن بارسي وسلافين وصاحبهما يوقعون عرائض غالبا ما تكون مرفقة بدراسات مشتركة صادرة عن «مجلس الأطلسي» و«المجلس القومي للأميركيين الإيرانيين».
الدراسات بدورها تصر على ضرورة رفع العقوبات الاقتصادية الدولية عن إيران، مع أو من دون التوصل إلى تسوية بين المجتمع الدولي وطهران، معتبرة أن هذه العقوبات لم تؤثر يوما على النظام أو أركانه أو محازبيه، وأنها تضر فقط بالمواطنين الإيرانيين العاديين.
العقوبات الاقتصادية
على العرائض نفسها المطالبة برفع العقوبات الاقتصادية، بغض النظر عن ممارسات طهران، توقع مجموعة من وجوه واشنطن من الأميركيين من أصول إيرانية، وأصدقائهم من الأميركيين عموما من سفراء سابقين أو أكاديميين. ومن بين الإيرانيين الأميركيين هالة اصفندياري، وهي عرابة وكبيرة الباحثين في مركز أبحاث «ودرو ويلسن»، اليساري أيضا والذي - كما «مجلس الأطلسي» - يستضيف بارسي ومجموعته في حلقات حوارية مشابهة تهدف إلى تسويق نظام طهران، ورفع العقوبات عنه، والتوصل إلى تسوية أميركية معه بأي ثمن.
وكان النظام الإيراني اعتقل اصفندياري، التي تحمل جوازا أميركيا، أثناء زيارتها إيران لتفقد أمها العجوز قبل سنوات، ثم أفرج عنها.
من أهل اليسار الأميركي من غير مراكز الأبحاث يبرز موقع «آل مونيتور» الذي يموله رجل الأعمال السوري الأميركي جمال دانيال، الذي يعتقد البعض أن جزءا من أعماله هي في قطاع النفط، وأن عودة إيران إلى المجموعة الدولية قد تجعل طهران «تتذكر جميله» بمنحها له بعض العقود النفطية.
وبغض النظر عن دوافع دانيال، لا شك أن المحرك الرئيس لموقعه هو مديره التنفيذي أندرو بارازيليتي.
وبارازيليتي لا يخفي تأييده لاتفاقية أميركية مع طهران، بل هو غالبا ما يذهب إلى أبعد من ذلك، فيكتب على موقع محطة «سي إن إن»، مثلا، مقالا يكرر فيه اعتقاده بحتمية إشراك إيران في حل الأزمة السورية، بغض النظر عن مصير المفاوضات الدولية مع إيران حول ملفها النووي.
حوار المنامة
وبموقفه هذا، يكون بارازيليتي من أوائل الأميركيين الداعين إلى اعتراف واشنطن رسميا بدور إقليمي لإيران وتفويضها إدارة شؤون المنطقة.
وقد لا يأتي من باب المفاجأة أبدا أنه، قبل انضمامه إلى فريق دانيال، عمل بارازيلتيي مستشارا للشؤون الخارجية لهيغل أثناء خدمة الأخير في مجلس الشيوخ بين 1996 و2008.وتقول مصادر في الخليج إن بارازيلتيي كان أحد المشاركين في تنظيم «حوار المنامة» الأخير، والذي شهد سؤالا مفاجئا من أحد الصحافيين لوزير الخارجية العماني يوسف بن علوي حول إمكانية إعلان اتحاد خليجي في قمة مجلس التعاون في الكويت، التي انعقدت بعد الحوار بأيام، في النصف الأول من شهر ديسمبر الماضي.وتسببت إجابة بن علوي ضد الاتحاد في بلبلة لم تلبث دول مجلس التعاون أن تداركتها فيما بعد.
أما أبرز الحاضرين في «حوار المنامة» فكان هيغل لا غير، الذي راح يتحدث عن التزام أميركا بأمن دول الخليج العربي في وجه أي تهديدات إيرانية في تصريحات تتكامل مع تصريحات أوباما في «مركز صابان»، حيث الحديث عن القوة ظاهره تهديد لإيران وباطنه حشد التأييد بين أصدقاء واشنطن لتسوية أميركية مع الإيرانيين.
في واشنطن، يشرف بارازيليتي على «آل مونيتور»، وهو موقع لا يخفي توجهاته السياسية المؤيدة لنظامي علي خامنئي وبشار الأسد. ويلاحظ أن كتاب الموقع يتنوعون بين كتاب إسرائيليين، وآخرين عرب يعملون أيضا في مؤسسات إعلامية إما ممولة من إيران، أو مؤيدة لها، مثل فضائية الميادين التي تبث من بيروت.
ومن أبرز كتاب «آل مونيتور» سلافين نفسها الباحثة في «مجلس الأطلسي»، وهي في كتاباتها تدعو صراحة إلى ضرورة أن تقوم واشنطن بعقد تحالف مع طهران، وأن تتخلى عن علاقاتها مع الرياض.
أما روزن، زميلة سلافين، فهي لا تتبنى خطابا بهذه الصراحة، ولكنها تعمل بشكل أساسي على تغطية شاملة لكل جلسات المفاوضات بين مجموعة دول خمسة زائد واحد وإيران. وغالبا ما يوفد موقع «آل مونيتور» روزن وزملاءها إلى جنيف لتأمين التغطية الإعلامية المكثفة لجولات المفاوضات.
وفي هذا السياق، من المفيد التنويه بأن روزن كانت أول من كشف عن وجود وساطة عمانية بين واشنطن وطهران ساهمت في إقامة الاتصال الأول بين أوباما وروحاني في سبتمبر (أيلول) الماضي.
مراكز الأبحاث والإعلام الأميركية اليسارية المذكورة أعلاه تلعب منذ سنوات الدور الأبرز في صياغة سياسة أوباما وفي تسويقها في العاصمة الأميركية.
في الصف الثاني، تأتي مراكز أبحاث يسارية وكتاب يتبنون سياسة أوباما الانفتاحية على طهران، ولكن بوتيرة أقل حدة، فالمعلق في صحيفة «واشنطن بوست» ديفيد إغناتيوس وزميله في «نيويورك تايمز» توماس فريدمان يؤيدان أوباما عموما، في سياساته الداخلية كما الخارجية، وهما لذلك يؤيدان انفتاحا أميركيا على إيران وصل إلى حد ذهاب إغناتيوس إلى إيران وإجرائه مقابلات مع مسؤولين فيها، مما يعني - للعارفين بطرق نظام طهران - أن كتابات إغناتيوس تنال رضا طهران عموما، وإلا لمنعته من الدخول.
في هذه الأثناء، يبدو أن اليمين الأميركي مشتت. الجزء الأصغر منه والمشاغب، وهو المعروف بتيار الليبرتاريين، يؤيد اتفاقية مع إيران بشكل حاسم، إذ تعتقد هذه المجموعة أن السياسة الخارجية الأميركية مكلفة ككل ولا لزوم لها، لذا لم يكن مستغربا أن يختار هيغل «معهد كاتو» اليميني الليبرتاري كمحطة أولى لإطلاق كتاب مذكراته في عام 2008، والذي دعا فيه إلى انفتاح سريع وشامل على إيران.
أما المراكز اليمينية الجمهورية الأخرى، فتعاني من انعدام توازن منذ حرب العراق، وتواجه مصاعب عند مخاطبتها للرأي العام الأميركي، الذي يتهمها بحبها الجامح للحروب التي آذت الأميركيين في الماضي كما في المستقبل.
ختاما، يبقى بعض خبراء الشأن الإيراني من اليسار واليمين ممن يتمتعون برصيد كبير من أمثال راي تقي من «مجلس العلاقات الخارجية»، وكريم سادجادبور من «معهد كارنيغي» ممن يقدمون مطالعات رصينة لما للتسوية وما عليها، ويسدون نصائح ثمينة يبدو أن إدارة أوباما والمجموعة اليسارية التي تقدم ذكرها ليست في مزاج الاستماع لها، بل هي مصرة على المضي قدما بصفقة، سيئة كانت أم لا.