هل ثمة مجال لتنشئ الشركات ومؤسسات الأعمال الكبرى والمتوسطة شراكة اقتصادية مع المجتمعات والأفراد تعود بالربح على الطرفين؟ وهل ثمة مجال لاستثمارات وسياسات اقتصادية واجتماعية تتبعها الشركات تزيد من أرباحها وفرصها الاقتصادية وترسخ أعمالها وحضورها في السوق؟
لا أتحدث بالطبع -ولا بأس بتأكيد ذلك- عن تبرعات الشركات ورجال الأعمال للعمل الاجتماعي والخيري، ولا عن برامج المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص الموجهة بشكل كلي للعمل الاجتماعي وخدمة المجتمعات، فهذا المجال على أهميته وضرورته لا يمكن ويجب أيضًا أن يكون إلا نسبة صغيرة من أعمال الشركات والقطاع الخاص، وهو موضوع مستقل يمكن أن أعود للكتابة عنه في مناسبة أخرى!
ولكن هذه المحاولة تهدف إلى التفكير والبحث والاقتباس في العمل الاقتصادي والاستثمار الهادف إلى الربح، وفي الوقت نفسه يعود على المجتمعات والأفراد بالتنمية وتحسين الحياة والخدمات والمرافق الأساسية، ويمتد أيضًا إلى سياسات ومشروعات اجتماعية في العمل والإدارة لدى الشركات هي في الوقت نفسه استثمار اقتصادي، أو يمكن أن تخدم الشركة اقتصاديًّا وتزيد فرصها ومواردها.
القطاع الخاص.. ثقة مفقودة!
ثمة فكرة تحتاج إلى مراجعة استراتيجية يتبناها في العادة قادة المنظمات الخيرية والحكومات ووكالات الغوث مفادها أن القطاع الخاص ليس موضعًا للثقة للمشاركة في التنمية، وأن الحلول المعتمدة على السوق لا يمكنها تحقيق التنمية وتخفيض معدلات الفقر، والحال أن الصواب والإبداع يأتي عادة بعيدًا عن الانحياز للمواقف والانحيازات والاتجاهات التقليدية والمتبعة وليس بديلاً لها أيضًا، فالعمل الحكومي والاجتماعي والخيري يعمل في مجالات (يجب أن يعمل) مكملة للسوق، وسياسات الخصخصة في الأعمال والخدمات ليست حلاًّ اقتصاديًّا واجتماعيًّا كافيًا، ولا يمكنها أن تنجح من غير علاقة صحيحة مع المستهلكين والمجتمعات، وليس الحل للأزمة الناشئة عن الخصخصة في إلغائها، فإسناد الأعمال والخدمات كلها إلى الحكومة سياسة أثبتت فشلها وفسادها، ولكن ذلك لا يغني أيضًا عن علاقة صحيحة بين الحكومة والقطاع الخاص، لا تقوم على التحالف والشراكة في مواجهة المجتمعات والمستهلكين، وليست عدائية أو متناقضة!
هناك فكرتان يمكن الإشارة إليهما عن الشراكة الاقتصادية مع المجتمعات والفقراء تحدث عنها المفكر الاقتصادي "سي كي براهالد" (كتاب الثروة في قاعدة الهرم)، وفكرة المبادرات الشركاتية لمواجهة الفساد تحدث عنها "بيتر آيغن" (كتاب شبكات الفساد والإفساد)
[blockquote]يتحدى “سي كي براهالد” (1941 – 2010)؛ أستاذ الاقتصاد بجامعة ميتشغان في كتابه (الثروة في قاعدة الهرم)- الفكرة السائدة عن ارتباط الربح باستهداف الأغنياء فقط، ويؤكد أن الفقراء يحتاجون إلى شراكة وكرامة أكثر مما يحتاجون إلى صدقات ومعونات[/blockquote]
والاستشهاد بكتاب "براهالد" يجب ألا يصرفنا للتفكير فقط في البلدان والمجتمعات الفقيرة ولكنها فكرة يمكن اقتباسها في جميع الدول، ولبناء شراكة مع الطبقات الوسطى وتوزيع الأعمال والثروات توزيعًا عادلاً، ويجب ألا ينظر إلى الأمثلة والقصص التي يعرضها براهالد من الهند والدول والمجتمعات الفقيرة على أن الفكرة هي الشراكة الاقتصادية مع الفقراء فقط، ولكن الشاهد في الأمثلة أنه إذا أمكن إقامة استثمارات ناجحة ومربحة في مجتمعات فقيرة فإنه يمكن في كل الدول والمجتمعات بناء شراكات اقتصادية مع المجتمعات والطبقات الوسطى والفقيرة في جميع الدول؛ الغنية والمتوسطة والفقيرة.
هل الربح مربوط بالأغنياء؟
يتحدى "سي كي براهالد" (1941 – 2010)؛ أستاذ الاقتصاد بجامعة ميتشغان في كتابه (الثروة في قاعدة الهرم)- الفكرة السائدة عن ارتباط الربح باستهداف الأغنياء فقط، ويؤكد أن الفقراء يحتاجون إلى شراكة وكرامة أكثر مما يحتاجون إلى صدقات ومعونات، فقاعدة الهرم الاقتصادي كما يقول براهالد توفر بوصفها سوقًا، فرصة جديدة للقطاع الخاص لتحقيق النمو، ويتعين عليها (قاعدة الهرم) أن تصبح جزءًا مكملاً للقطاع الخاص وأن تكون جزءًا من الأعمال التجارية للشركات، لا أن تؤول إلى مجرد مجال لمبادرات المسؤولية الاجتماعية المشتركة والخدمات والبرامج الحكومية.
[caption id="attachment_55249538" align="alignleft" width="300"] العمالة الهندية المدربة رفعت من مكانة الهند الاقتصادية عالميا [/caption]
ويقول إنه في تجربة الهند تغير المنطق السائد لدى صانعي السياسة من كون الفقراء هم المشكلة إلى أنهم يمثلون سوقًا يمكن القطاع الخاص المشاركة فيه بفعالية، وأن يكونوا مستهلكين، ولكن التجربة العملية والدراسة النظرية أيضًا تكشف أن لسوق الهرم طبيعتها وخصائصها المميزة، ومن هذه الخصائص أن هناك فرصة لجني المال في قاعدة الهرم، فالصين والهند والبرازيل والمكسيك وإندونيسيا وتركيا وجنوب أفريقيا تملك ناتجًا محليًّا هائلاً، بل إنها حسب تقرير التنمية البشرية لعام 2013 تقود الاقتصاد العالمي، أي أنها تشكل سوقًا لا ينبغي تجاهلها.
ولكن يمكن النظر من زاوية واتجاهات أخرى أكثر أهمية وتعقيدًا من فكرة (وإن كانت صحيحة) أن العدد الكبير من السكان ينشئ أسواقًا كبيرة وناجحة، فالفقراء ومتوسطو الحال يحبون اقتناء سلع ومنتجات جيدة وبماركات عالمية، ويمكن أن تكون فكرة ناجحة ومجدية طرح منتجات موجهة أساسًا إلى الفقراء والطبقات الوسطى تكون ذات جودة عالية، وبأسعار معقولة للمستهلك والمنتج، فالفقراء مثل الأغنياء يقبلون على اقتناء وشراء أجهزة الموبايل والتلفزيونات والكمبيوترات الشخصية الثابتة والمحمولة (لابتوب) والألواح الإلكترونية (تابلت)، ويتابعون الماركات والشركات العالمية، ويمتد ذلك إلى الملابس والأحذية وسائر المنتجات!
مشاريع ربحية تستهدف الفقراء
ويتحدث "براهالد" عن أفكار تلائم "قاعدة الهرم" مثل البيع بالتقسيط، والسلع بأحجام صغيرة وأثمان معقولة، وأن تكون سهلة الصيانة، ويمكن للمستويات الثقافية والتعليمية المختلفة التعامل معها، والتوفير في الطاقة، والانسجام العميق مع الغرض من إنتاج السلعة، .. وبالطبع تقليل التكلفة!
وأمكن في الهند إنتاج أنواع من الأدوية المتقدمة بأسعار يقدر عليها الفقراء وبمزايا ربحية أيضًا، ويقوم مستشفى "أرافيند" للعيون -الذي بدأ في الهند- بتقديم خدمات في أفريقيا وكمبوديا وفيتنام، وتقوم فلسفته على تقديم إمكانيات فنية متقدمة وبجودة عالية وتكلفة منخفضة، ويحقق في الوقت نفسه أرباحًا كبيرة.
وقد استطاعت شركة ITC في الهند تقديم خدمات في جميع أنحاء البلاد للمزارعين لمعرفة الأسعار بواسطة الإنترنت، وهي بذلك حصلت على أرباح كبيرة، وفي الوقت نفسه ساعدت المزارعين على التخلص من استغلال الوسطاء والاستغفال والابتزاز الذي كانوا يخضعون له بسبب عدم قدرتهم على الإحاطة بالخيارات الممكنة لتسويق منتجاتهم".
ويستطيع القطاع الخاص أن يكون جزءًا أساسيًّا من مشروعات التنمية ومكافحة الفقر، كما يمكن أن يكون عنصرًا أساسيًّا في مكافحة الفساد، فقد استطاعت شركات كبرى إنتاج أنظمة إدارية ومالية تساعد الحكومات والإدارات والمواطنين على الحصول على الخدمات المطلوبة بسرعة ودون تكلفة إضافية أو حاجة للرشوة.
ومن شأن تطبيق هذه الأنظمة الإدارية والمعلوماتية أن تفيد الشركات المنتجة والمواطنين الفقراء والحكومات المحلية والمركزية أيضًا، واستطاعت الخدمات التجارية السريعة باستخدام البطاقات الإلكترونية الحد بنسبة كبيرة من الفساد والهدر، مثل دفع الفواتير، والحجز للنقل في القطارات والباصات والطائرات، ومشاهدة المباريات والأفلام، وتجديد الرخص وإدارة المعاملات الحكومية والتجارية.
نحو تحولات اجتماعية واقتصادية
ومن شأن التوسع في العمل التجاري والمعرفي بين الفقراء تحقيق تحولات اجتماعية وثقافية تخلصهم من الضعف، وتنمي الانتماء والمشاركة، والإحاطة بخيارات عدة لإسماع أصواتهم وللحصول على خدمات أفضل وتسويق خدماتهم ومنتجاتهم، وتتقدم بهم هذه الحالة إلى مستويات اجتماعية متقدمة تعزز الحكم الرشيد والجودة في الإدارة والخدمة، وترتقي أيضًا بمستوى أعمالهم وسلعهم، وتطور حالة التنافس في الأسواق والأعمال، وهي حالة اجتماعية واقتصادية سرعان ما تنعكس اقتصاديًّا ومعيشيًّا وإنتاجيًّا على الأفراد والمجتمعات.
[blockquote]العدد الكبير من السكان ينشئ أسواقًا كبيرة وناجحة، فالفقراء ومتوسطو الحال يحبون اقتناء سلع ومنتجات جيدة وبماركات عالمية، ويمكن أن تكون فكرة ناجحة ومجدية طرح منتجات موجهة أساسًا إلى الفقراء والطبقات الوسطى[/blockquote]
ومن الإنجازات الملموسة التي يمكن ملاحظتها اليوم بسبب انتشار اقتصاد المعرفة في أسواق الفقراء، إزالة الحواجز التي تعيق الاتصال، ويقوم على ذلك نشوء فرص وخيارات كثيرة أمام جميع الناس للعمل والتواصل والحصول على الخدمات وتسويقها، وارتقاء المستهلكين، وتطور خبراتهم ومعرفتهم بالسلع والخدمات، ونشوء فرص للتقييم والاختيار والتطوير في السلع والخدمات، والحصول على المعرفة وتداولها.
فيمكن الحصول على استشارات ومراجعات ومراقبة فنية اليوم في الزراعة والإنتاج والطب والصناعة والإدارة بلا حواجز ولا اعتبار للمسافات وبتكلفة قليلة، وأمكن مشاركة فئات كثيرة في العملية الاقتصادية والإنتاجية كالنساء والعائلات وسكان المناطق البعيدة المعزولة وكبار السن وذوي التحديات الحركية.
والحال أنها متوالية لا تتوقف عن مجالات العمل والشراكة بين المجتمعات والشركات تفوق في أهميتها كثيرًا سياسات التبرع والمعونات، وتتفوق على العمل الحكومي المستقل عن المجتمعات والشركات!
ويمكن الحديث أيضًا عن الاستثمار في بناء وتعزيز بيئة الأعمال عبر سياسات اجتماعية تعود على المجتمعات والأسواق بالنمو والفائدة، مثل المبادرات الطوعية للشركات بالامتناع عن الرشوة، ومواجهة الفساد، والالتزام بالتنافس العادل على العطاءات والتوريدات، وسياسات عادلة في التوظيف والترقية، والمساهمة في توطين الاعمال والحرف والمهن، والارتقاء بالأداء المهني والحرفي والمشاركة في التدريب، وهي تصلح لمقالة مستقلة عن اقتصاد الثقة والعائد الاقتصادي المباشر للمسؤولية والسياسات الاجتماعية.