عاش جلال الدين البلخي المعروف بـ(الرومي)، والملقب بـ"مولانا"، مابين (604هـ/1207م -672هـ/1273م)، في عصر التحول في الشرق الإسلامي وهو القرن السابع الهجري. اسمه الحقيقي محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين (بهاء ولد). ولد في "بلخ" الأفغانية التي عرف عنها بأنها مدينة العلم والعلماء، والتي شكَّلت مركزًا مهمًا من مراكز التصوف الإسلامي، وساهمت في ظهوره وبلورته. توفي في قونية. يقال إنه لقب بـ "مولانا" بعد وفاته عن 68 عامًا، وهو اللقب الذي اختاره له مريدوه الذين ينسبون إليه الطريقة "المولوية".
نشأ في بيئة يسودها العلم والتطلع إلى المعرفة فوالده "محمد بهاء الدين ولد" الملقب بسلطان العلماء، وكان هو وشمس التبريزي وبرهان الدين محقق الترمذي أساتذة الرومي.. أما مثله الأعلى فقد كان الغزالي.
لم يغرق ابن الرومي في التصوف إلا بعد لقائه بشمس التبريزي، هذا اللقاء الذي أثَّر فيه وجعله ينغمس في التصوف لينشغل من بعده عن مواصلة مسيرته كفقيه، الأمر الذي أثار حفيظة المقربين منه. عاش حياته في مدينة قونية التركية عاصمة السلاجقة، والتي لا تزال تحتوي على متحف (المبفلانا Mevlana Müzesi) المعروف بكونه مدرسة الدراويش سابقًا، والذي أصبح متحفًا بعد إلغاء حكم الخلافة، واستلام أتاتورك الحكم، وهي المدينة التي شكلت حلقة وصل ما بين العديد من الثقافات.
تزوج ابن الرومي من "جوهر خاتون" وله منها: سلطان ولد، وعلاء الدين، وكان سلطان ولد هو الابن الأثير لوالده، وقد تبنى خط سير والده بعد وفاته، وأسس الطريقة المولوية، ووضع نظمها وتقاليدها وشعائرها.
(عام626هـ/ 1229م) استقرت عائلته في قونية، وبعد عامين توفي والده بهاء الدين الذي كان يلقب بـ"سلطان العارفين"، فتولى مكانه في الفقه والإفتاء والتدريس. وبعد عام وصل إلى قونية تلميذ والده برهانُ الدين محقق الترمذيَ وهو الذي تولى تعليم الرومي ما تعلمه من والده، وطلب منه بعدها السفر إلى الشام للاستزادة من العلم، فقضى ما يقارب التسع سنوات ما بين حلب ودمشق تحت ظل وإشراف معلمه ومرشده، ليعود بعدها إلى قونية عالمًا بارزًا في العلوم الإسلامية، ولاقى ترحيبًا من علماء المدينة وشيوخها، وبدأ بالتدريس والإرشاد الديني في المدينة وسط لفيف من مريديه.
ظلَّ الرومي على هذا المنوال حتى اليوم الذي حصل فيه التغيير الجذري في حياته، وذلك بوصول شمس التبريزي إلى المدينة لتبدأ معه رحلة جديدة مختلفة بمضمونها وعوالمها عما اختبره الرومي مع والده ومعلمه.
[caption id="attachment_55249506" align="alignleft" width="300"] ناي صوفي[/caption]
[blockquote]نصت إلى الناي يحكي حكايته..
ومن ألم الفراق يبث شكايته..
ومذ قطعت من الغاب، والرجال والنساء لأنيني يبكون
أريد صدرًا مِزَقًا مِزَقًا برَّحه الفراق
لأبوح له بألم الاشتياق..
فكل من قطع عن أصله
دائمًا يحن إلى زمان وصله..
وهكذا غدوت مطربًا في المحافل
أشدو للسعداء، وأنوح للبائسين
وكلٌ يظن أنني له رفيق
ولكن أيًّا منهم (السعداء والبائسين) لم يدرك حقيقة ما أنا فيه!!
من قصيدة: أنين الناي [/blockquote]
كان شمس يبلغ من العمر ستين عامًا آنذاك حين قابل الرومي، هو الذي تتلمذ على يد الشيخ أبي بكر السلال التبريزي، وركن الدّين السَجاسي. سافر شمس من تبريز إلى بغداد، ومن ثم إلى دمشق التي التقى فيها ابن عربي حتى وصل إلى قونية. تعددت الروايات التي تصف الكيفية التي التقى بها شمس بالرومي، لكن مهما كانت الرواية وراء هذا اللقاء نستطيع الجزم أن رحلة شمس عبر البلاد ما كانت إلا بحثًا عن رفيق دربه في عالم التصوف، وفي هذا يقول: "كنت أطلب شخصًا من جنسي، لكي أجعله قبلة وأتوجَّه إليه، فلقد مللت من نفسي".
بعد أن تعرَّف الرومي على شمس، هجر منصبه كفقيه ومدرس، وتخلى عن كل ما كان يشغله في حياته، حتى إنه انزوى عن أهله وأولاده، وانغمس في قضاء وقته مع شمس. الأمر الذي أثار غيرة وحفيظة المقربين إليه.
جلال الدين الرومي العاشق الشاعر
جلال الدين الرومي هو أبرز وأشهر شعراء التصوف على مستوى العالم، وهو الذي لم ينظم الشعر أبدًا في حياته، لكن فراق شمس جعله ينظم الشعر دون وعي منه. ترك شمس قونية بعد البلبلة التي أحدثها تقربه من الرومي، فقرر الرحيل عن قونية دون أن يبلغ عن وجهته، هذا الرحيل الذي كشف عن الرومي الشاعر زاد في إصراره على العثور على رفيقه، فأرسل بولده "سلطان ولد" ليبحث عنه، وبعد بحث مضن عثر عليه وأعاده إلى رفيقه، لكن القدر شاء أن يحل الفراق الأبدي مرة أخرى ليرحل التبريزي عن هذا العالم إلى الأبد بعد أن مات مقتولاً بحسب الروايات المختلفة التي أكدت أن حياته انتهت بعد أن قرر أعداؤه -الذين كرهوا تقربه وتأثيره الكبير على الرومي- أن يسفكوا دمه. هذه الحادثة كانت سببًا في تدفق ملكة الشعر عند الرومي بعد أن ساهم فراقهم الأول في الكشف عنها.
ترك الرومي تركة من المؤلفات تقسم عادة إلى عدة تصانيف وهي: الرباعيات، ديوان الغزل، مجلدات المثنوي الستة، المجالس السبعة، ورسائل المنبر.
وأهم آثاره المنثورة: (المجالس السبعة)، وهو عبارة عن مجموعة من مواعظ وخطب، ألقاها الرومي على المنابر يقال إنها نبعت من الفترة التي تعرَّف فيها الرومي على التبريزي.
أما أعماله الشعرية فهي: (ديوان شمس تبريز)، وهو غزليات صوفية يصل عددها إلى ما يقارب ثلاثة آلاف وخمسمائة غزلية، نظمت على أبحر مختلفة وصلت إلى 43 ألف بيت، بحسب ما تشير إليه العديد من المراجع، وقد سمي هذا الديوان بهذا الاسم نظرًا لأن الرومي كان قد نظمه تعبيرًا عن حبِّه وتوحده بشمس، أيضًا (الرباعيات) والتي تضم 1659 رباعية عدد أبياتها 3318 بيتًا، و(المثنوي) وهو صورة نظمية في الفارسية تقابل المزدوج في العربية، ولكل بيت فيه قافية مستقلة عن قوافي الأبيات الأخرى، لكن شطري البيت الواحد يتفقان في التقفية؛ أي أن عروض البيت وضربه متفقان.
وأما كتاب "فيه ما فيه" فهو كتاب يحوي مجموعة من المحاضرات والمذاكرات والتعليقات التي يناقش فيها الرومي مسائل أخلاقية وعرفانية، ويفسِّر فيها آيات قرآنية وأحاديث نبوية، وفيه يركز على التربية الروحية للإنسان.
[blockquote]يقول الرومي في إحدى رباعياته: النوم هذا العامُ ليسَ له سُلطان.. ربما الليلُ أيضًا يكفُّ عن البحثِ عنّا.. حينَ نكونُ على مثل هذا.. محجوبينَ، ما عدا في الفجر. وفي أخرى يقول : مُمتَلئٌ بكَ، جلدًا، دمًا، وعظامًا، وعقلاً وروحًا.. لا ما كان لنقصِ رَجاءٍ، أو للرجاءِ.. ليس بهذا الوجود إلاكَ.[/blockquote]
الرقص والموسيقى.. طريق الروح
يؤكد الرومي أنه يصل إلى أعلى درجات الروحانية من خلال الموسيقى، وكانت علاقته بالموسيقى موصولة مع الله، ومن هذا المنطلق أسس الرقصة المعروفة باسم "المولوية"، والتي أعلى درجاتها هي حين يبلغ الراقص درجة "ده ده ليك" Dedelik، وهي أعلى الصفات التي تطلق على الدرويش المنتسب للطريقة المَولويّة، وكانت أشعار الرومي من أساسيات هذه الرقصة الروحانية، فلقد أُخذ الكثير من أشعار وقصائد كتابه "مثنوي" و"ديوان الكبير"، والتي تقوم على فكرة أن يدور المتصوف حول مركز الدائرة التي يقف فيها بشكل مستمر.
وفيها عبَّر ابن الرومي عن فلسفته الخاصة في العشق الإلهي، والتواصل الروحي مع الله.
وفيها يتذكَّر المتصوف طبيعة الكون، ويعيش خلال هذه الرقصة مراحل الاتصال بالذات الإلهية، دعا من خلالها الرومي إلى التسامح والمحبة وتقبل الغير. لم تفنَ هذه الرقصة بعد وفاته، بل انتشرت في جميع أنحاء العالم وتطورت لتتخذ أشكالاً وطرقًا عديدة.
من ناحية الأزياء التي يرتديها الدراويش الراقصون، والتي أصبحت ترمز إلى عناصر مختلفة بحسب شكلها ولونها. فالرداء الأبيض يرمز للكفن، والأسود للقبر، أما القلنسوة فترمز إلى شاهدة القبر، والدورات الثلاث حول باحة الرقص ترمز إلى المراحل الثلاث في التقرب إلى الله، وهي: العلم الرؤية والوصال، والبساط الأحمر يرمز إلى لون الشمس الغاربة. أما الدورات الثلاث حول باحة الرقص، فإنها ترمز إلى الأشواط الثلاثة في التقرب إلى الله، وهي طريق العلم، والطريق إلى الرؤية، والطريق إلى الوصال، وسقوط المعاطف السود، يعني الخلاص والتطهر من الدنيا، فيما تذكِّر الطبول بالنفخ في الصُّور يوم القيامة. وهكذا يفسِّر المتصوفون أساسيات هذه الرقصة.
[caption id="attachment_55249507" align="alignleft" width="300"] رقص على الطريقة المولوية[/caption]
[blockquote]إذا كنت تعشق المحبوب وباحثًا عن الحب
خذ خنجرًا حادًّا واقطع به بلعوم الحياء
لتعرف أن الصيت عائق كبير في هذا السبيل
هذا الكلام غير مريح، فخذه بعقل صاف
لتدرك أن ما فعله المجنون، هو جنون بآلاف الأشكال
مختارات من ديوان شمس تبريز
[/blockquote]
عارض وأيَّد هذه الرقصة الكثير من العلماء وعلماء الدين، فنقرأ قول ابن سينا فيها مؤيدًا: "لقد هبطت النفس إلى هذا العالم وسكنت الجسد، فلابد أن تحن وتضطرب وتخلع عنها سلطان البدن، وتنسلخ عن الدنيا لتصعد إلى العالم الأعلى وتعرج إلى المحل الأرفع. حيث يعتبر البدن شـرًّا؛ لأنه (مـادي كثيـف)، وتحرر الإنسان من شهوات البدن ليس عنده إلا سعيًا للنفس إلى الفكاك من إسارها بعد أن غشيها البدن بكثافته".
أما الإمام الصنعاني فعارضها وقال فيها: "وأما الرقص والتصفيق فشأن أهل الفسق والخلاعة لا شأن من يحب الله ويخشاه". والإمام القرطبي عارضها أيضًا مستعينًا بسورة لقمان لتحريمها "وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ". "وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ".
الرومي امتاز بدعوته إلى التسامح، وبأفكاره الدينية المرنة، خلف تركة غنية من المؤلفات الصوفية والأشعار والتي كتبها بلغته الأم "الفارسية" وترجمت لاحقًا إلى لغات عديدة. وهي التي كان لها تأثير عظيم وانتشار واسع في العالم، وخصوصًا العالم الإسلامي، وقد صنَّف الرومي بأنه أكثر شعراء العالم شعبية في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك لما لأعماله من أثر واسع وعميق.