يتضمن هذا الإعلان عن تأسيس الحزب العديد من الأخطاء. أولها أن أقرانهم المصريين كانوا قد جربوا تلك الخطة من قبل من خلال حزب الحرية والعدالة الذي تضمن عددا معقولا من الأقباط والنساء غير المحجبات، ولكنه لم يفلح. وثانيها يتعلق بالتوقيت؛ حيث إنه يأتي في مرحلة تستعر فيها الحرب الأهلية وتغيب فيها الحياة السياسية كما نعرفها، وبالتالي، فهناك علامات استفهام حول اختيار ذلك التوقيت. ولكن الأرجح أن يكون ذلك القرار قد جاء كنتاج للتفاعلات السياسية داخل جماعة الإخوان المسلمين ذاتها أي كمحاولة من أحد الفصائل داخل الجماعة لحلحلة الأوضاع وليس أكثر من ذلك.
أخطاء الجماعة
ولكن ذلك القرار ينضوي على خطأ أكبر يتعلق باعتقاد جماعة الإخوان المسلمين أنها إذا تمكنت من إظهار استعدادها للمشاركة في إطار سياسي مع الأقليات الدينية والالتزام بلغة السياسة العلمانية، فإن ذلك سوف يكون كافيا على نحو ما لتهدئة مخاوف الأقليات الناجمة عن القراءة الأصولية لتاريخ سوريا الحديث ومشاكلها العلمانية الاستثنائية.
ولكي نفهم العقل الجمعي للمسيحيين والعلويين والدروز والإسماعيلية، علينا ألا نستهين بالصدمة الناجمة عن تجربة الدولة العثمانية. فقد كان التاريخ الحديث للشرق يمتاز بالعهد الذي قطعته الأقليات على نفسها بألا تخضع أبدا لحكم المسلمين السنة، وهو العهد الذي تمكنوا من تحقيقه بنجاح حتى الآن. فقد أدت استراتيجيات البقاء التي توصلوا إليها إلى نشأة الدول الحديثة في سوريا ولبنان كما نعرفهما الآن، ومن خلال تعريف استراتيجيات البقاء تلك وتحليلها، يمكننا تقدير مدى حمق جماعة الإخوان المسلمين في الاستثمار في حزب «وعد».
فبعد انسحاب الأتراك العثمانيين من المشرق في 1918، واجهت الأقليات المسلمة من غير السنة معضلة حادة: كيف يمكنها البقاء والازدهار داخل المجتمعات التي يهيمن عليها المسلمون السنة تماما. وقد تمكن موارنة جبل لبنان من التوصل إلى استراتيجية بقاء، وإن لم تكن مبتكرة تماما، وهي الانفصال الكامل. ولكنهم نجحوا بالفعل في عقد تحالف ناجح مع فرنسا لكي لا يصبحوا جزءا من سوريا ذات الأغلبية السنية ولكي يتمكنوا من إنشاء دولة يستطيعون أن يتمتعوا فيها باحتكار السلطة السياسية. ومن ثم، نشأت دولة لبنان العظمى التي أصبحت لاحقا الجمهورية اللبنانية.
الطائفية في سوريا
وعلى الرغم من أن الدولة في وقت نشأتها، كانت لديها أغلبية محدودة من الموارنة المسيحيين، كان توزيع السلطة والثروة يميل بعنف إلى صالحهم. وعلى الرغم من دستورها الذي يبدو علمانيا، فإنها كانت دولة قائمة على الدين وكانت فصائلها المختلفة تتصارع بين بعضها البعض على الثروة والسلطة داخل إطار الديمقراطية الليبرالية (وإن كانت ديمقراطية معيبة).
ولكن القصة كانت مختلفة بالنسبة للأقليات من غير المسلمين السنة في سوريا؛ فقد استجاب العلويون والدروز في البداية لخطط فرنسا لإنشاء دول صغيرة ولكن العداء لبرجوازيي دمشق وحلب أفسد خطط الاستقلال تلك. فقد حرم التمييز بعيد المدى والإهمال الذي مارسه العثمانيون ضد العلويين والدروز هذه الأقليات من فرصة تشكيل دول خاصة بهم، فيما ساعد ما يشبه الاستقلال في ظل الحكم العثماني والدعم الفرنسي طويل المدى المسيحيين الموارنة من تحقيق هدفهم. فعلى الصعيدين السياسي والاقتصادي، كانت الفصائل غير السنية في سوريا أضعف من أن تشق طريقها بمفردها.
العلويون والدروز
فقد اختار العلويون والدروز أن يصبحا جزءا من جمهورية سوريا الموحدة ليس عن قناعة بقدر ما كان استجابة لمنطق الضرورات. وكان عليهم مواجهة تحديات البقاء والازدهار في دولة ذات أغلبية سنية فيما لا تمنحهم الديمقراطية سوى حصة للأقلية في السلطة السياسية أقل من أن تضمن لهم عدم تكرار التجربة العثمانية مرة أخرى.
وبدلا من أن يسعوا وراء الاستقلال على غرار المسيحيين اللبنانيين، قامت الأقليات المسلمة غير السنية في سوريا بالعكس تماما: فقد احتفت بالشعارات العلمانية الاشتراكية للوحدة العربية وتبنتها باعتبارها شعاراتها. وأصبح حزب البعث جاذبا لشباب العلويين والدروز والإسماعيلية الفقراء والطموحين الذين كانوا منجذبين للشعارات العلمانية والديمقراطية للحزب.
ومن خلال تبنيهم للوحدة العربية، طرحت الأقليات بعنف منطق المزايدة؛ فقد أظهروا للمسلمين السنة أنهم أكثر وطنية باستعدادهم نسيان ولاءاتهم الطائفية التي تعود لقرون ماضية والتي شجعها النظام الملي الذي أنشأته الدولة العثمانية لصالح الدولة العربية. وبذلك، طرحت هذه الأقليات الدينية تحديا أمام الأغلبية السنية يتعلق بقدرتهم على مواكبة هذه الرؤية المثالية للوطنية السورية.
حزب البعث
وفي الواقع، ما كان ذلك سوى خدعة. ففي البداية، تبنى حزب البعث قضايا العدالة الاجتماية مثل الإصلاح الزراعي الذي أفاد فقراء السنة بالإضافة إلى الفلاحين العلويين الفقراء. ولكن الأقليات لم تكن راضية بالبقاء كفلاحين. فقد كانت الأقليات الدينية في سوريا إلى حد كبير متأثرة بالصدمة العثمانية ولم يكن هناك ما يمكن أن يهدئ مخاوفها المتعلقة باحتمالية العودة إلى وضعية الدرجة الثانية سوى الاستحواذ الكامل على السلطة. وكانت هناك مؤسسة واحدة مفتوحة أمامهم ألا وهي الجيش، واستطاعوا تحقيق ذلك الهدف عبر حملة تجنيد جماعية نشطة وسياسة فورية للإحلال محل السنة في سلاح الضباط في أعقاب الانقلاب الذي قام به حزب البعث في عام 1963، وهو ما منح الأقليات الدينية أول ملمح من ملامح السلطة السياسية التي يمكن أن يتمتعوا بها تحت لواء الوحدة العربية.
وسوف تتمكن تلك الأقلية لاحقا من الحصول على السلطة المطلقة من خلال حافظ الأسد، الطيار الماكر بالقوات الجوية وابن أحد العلويين البارزين. وقد عكست الدولة التي أسسها التوترات الجمعية للأقليات؛ فقد كانت علمانية اشتراكية ومهتمة بالوحدة القومية. وكانت الدولة تعتزم وتستعد للرد على المفهوم العثماني حول حكم المجتمع والذي يرتكز على المرجعية الدينية والطبقية والتعددية.
إحياء المفاهيم العثمانية
وهنا يكمن جوهر مشكلة حزب جماعة الإخوان «وعد»؛ حيث تعتمد فلسفته على إحياء المفاهيم العثمانية حول الدولة والتي تعتمد على الهيمنة الأصيلة للسنة (الإخوان أنفسهم) وتقديم حصص شبه ملية لممثلي الأقليات (المسيحيين، والعلويين والأكراد).
وكانت الأقليات السورية قد تمكنت من النجاة من ذلك النظام منذ زمن بعيد ومن المستبعد أن تقبل طواعية العودة إليه مرة أخرى. ومما لا شك فيه أن محاولة هذا الحزب الجديد أن يلقى قبولا في سوريا التي تمزقها الحرب والانقسامات الدينية تعد مهمة شاقة. وبالنسبة لمحاولته عقد تحالف اجتماعي بين المجتمعات المتحاربة في سوريا، فإنه من المقدر له أن يفشل.