مئة عام على ولادة آخر المنورين العرب "رئيف خوري"

مئة عام على ولادة آخر المنورين العرب "رئيف خوري"

[caption id="attachment_55249252" align="aligncenter" width="620"]رئيف خوري وهو يتحدث عبر الإذاعة رئيف خوري وهو يتحدث عبر الإذاعة[/caption]

ونحن نودع عام 2013 لا بد لنا من وقفة نستذكر فيها "رئيف خوري" في ذكرى مرور مئة عام على ولادته ( 1913-1967). ولربما تطول بنا قائمة الألقاب التي تسبق اسمه، فلقد كان الراحل قاصًّا، روائيًّا، ناقدًا، شاعرًا، مؤَرِخًا، مسرحيًّا، مفكرًا سياسيًّا، مدرِّسًا، فيلسوفًا. تعددت وتنوعت مواهبه وجوانب الإبداع لديه، وترك من خلفه إرثًا غنيًّا من المؤلفات التي بلغت ثلاثة وعشرون كتابًا تنوعت ما بين القصة، الرواية ، الشعر، النقد، الفكر، السياسة. بالإضافة إلى كتاباته ومقالاته التي نشرها في الصحف والمجلات العربية.

مدرسته الأولى والده "نجم نجيب الخوري" الذي كان الرافد الأول لثقافة ولده، بثقافته وعلمه واطلاعه. على الرغم من عدم حصوله على شهادات جامعية فلقد تولى "نجم خوري" مهمة تعليم "رئيف" وأخيه الأصغر "ميخائيل" في مرحلة الابتدائية من المنزل، فلم يذهب "رئيف" إلى المدرسة الابتدائية في القرية، وكان يساعد والده الذي كان مدير مدرسة القرية الابتدائية في شؤون الزراعة التي كانت المدخول الأول للعائلة وللكثير من عائلات قرية النابية في منطقة المتن الشمالي في لبنان آنذاك. البيئة التي نشأ فيها "رئيف" تميزت بالانفتاح الفكري، عززها فكر والده المستنير، ووالدته صاحبة العلم والثقافة "مَلكة نقولا نحاس" التي يقال: إن "رئيف" كان شديد الاعتزاز بما حصلت عليه والدته من تعليم، فكان يعلق شهادتها في صدر المنزل.

حصل "رئيف" على شهادة البكالوريوس في التاريخ والأدب العربي من الجامعة الأمريكية في بيروت، ومن هنا بدأ شغفه في الكتابة والبحث وربما قبل ذلك بكثير. مزج في كتابته ما بين الحديث والقديم، تأثر بالثورة الفرنسية ومبادئها، كتب عنها كثيرًا، وخصص مؤلفًا للحديث عنها وهو "الفكر العربي الحديث، أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسيّ والاجتماعيّ"، واعتبر أنها "كانت ولا تزال أشدّ هذه الثورات عصفًا، وأبعدها مدًى في الهبوب، وأعمقها تأثيرًا". انشغل بالإنسان، واعتبر أن حقوقه في خطر "تتهددها الفاشيّة أو النازية باعتبارها الوجه الحقيقي للبرجوازية المتوحشة". دعا رئيف خوري إلى القومية المدعمة بالعلم. كتب الشعر وهو على مقاعد الدراسة، عمل في حقل التعليم في سوريا، وفلسطين، وأخيرًا في لبنان. شغلته القضية الفلسطينية، وأصدر عملين يدافع فيهما عن القضية الفلسطينية. الأول: "جهاد فلسطين، الثورة الفلسطينية في مختلف مراحلها "1936 أصدره في دمشق تحت اسم مستعار وهو "الفتى العربي"، أما العمل الثاني فكان "ثورة بيدبا"، وهي مسرحية شعرية على قدر كبير من الأهمية لدرجة أن السلطات البريطانية كانت قد حرضت آنذاك على عدم تكرار عرضها بعد عرضها الأول في المدرسة الأرثوذكسية في القدس؛ وذلك لأنها مليئة بالحس الثوري، وقد كتبها وهو لم يتعدَ الثالثة والعشرين من العمر، وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي يتعاطى فيها مع المسرح الشعري، حيث إنه لم يعد إليه بعد هذا المؤلف، بسبب انشغاله بالأحداث السياسية والتحولات التي تمر بها الدول العربية وهي المسرحية التي قال عنها الكاتب اللبناني توفيق عواد "هي المحاولة الأولى من نوعها في الأدب العربيّ، محاولة جريئة موفَّقة في الأدب.. فعسى أن يكون لها أثرها المنشود في أدبنا".



[blockquote] الحدث الأبرز في مسيرة “رئيف خوري” هي مناظرته الشهيرة مع عميد الأدب العربي” طه حسين” في قصر الأونسكو في بيروت، والتي عقدت في نيسان عام 1955 حول “لمن يكتب الأديب، للخاصّة أم للكافّة؟[/blockquote]



[caption id="attachment_55249254" align="alignleft" width="198"]رئيف خوري وطه حسين رئيف خوري وطه حسين[/caption]

أعماله الشعرية كانت تُعنى بقضايا الأمة والإنسان وهمومه، لكنه لم يضم قصائده في ديوان واحد على الرغم من غزارة إنتاجه في هذا المجال. لكنها نشرت في كتاب "من ذا يقول"، وفي كتاب "مختارات من الشعر العربي في القرن العشرين". كتب رواية وحيدة رائعة بعنوان "الحب الأقوى"، وعن مؤلفاته يقول السياسي والكاتب والمؤلف اللبناني "كريم مروة" :"لعلّ أمتع ما يمكن أن يقرأه الباحث في التراث العربي، هو كتابات رئيف خوري، سواء في أبحاثه الأكاديمية أم في رواياته وقصصه ومسرحياته التي استقى عناصرها وشخصياتها وأحداثها من التاريخ العربي. وقد قرأتُ جميع كتبه تلك، وكان من أمتع ما قرأت منها بشغف، روايته الوحيدة "الحب أقوى"، التي استوحى موضوعها وأحداثها من التاريخ العربي القديم. ولا تزال كتبه جميعها وكثير من كتاباته تحتل مكانًا مميزًا في مكتبتي.. رئيف خوري، في معرفتي به وفي اطلاعي على الأساسي مما نُشر من كتبه وكتاباته، يمثل نموذجًا فذًا بين المثقفين العرب، كان، -وهو اشتراكي في الفكر والسياسة والالتزام- قوميًّا عربيًّا بالمعنى الواقعي والرومنطيقي للمفهوم، وبالمعنى الديموقراطي تحديدًا".

يعتقد الكثيرون أن الحدث الأبرز في مسيرة "رئيف خوري" هي مناظرته الشهيرة مع عميد الأدب العربي" طه حسين" في قصر الأونسكو في بيروت، والتي عقدت في نيسان عام 1955 حول "لمن يكتب الأديب، للخاصّة أم للكافّة؟ وفيها أوكل لرئيف الحديث عن «الكافة» و لطه حسين "الخاصة"، وفيها قال لطه حسين عن روايته "المعذبون في الأرض ": إن كتابك "المعذبون في الأرض إذا قرأه فلاح صعيديّ أو سمع به وجد فيه ملاح من حياته، وصورًا من همومه، وتذوَّقه، وأعجب أن تُعدَّه جاهلاً ومن الكافّة الذي لا تُعنى بالكتابة لهم".
كان مع نزار قباني، ونازك الملائكة، وعبد الله عبد الدايم، وخليل حاوي من أهم الأسماء التي كتبت في مجلة "الآداب"، بالإضافة إلى كتاباته المنشورة في مجلة "الطريق"، "البرق"، "الرياض"، "صوت الشعب"، "النهار"، "المكشوف"، "الطليعة"، "شهرزاد"، "الجديد"، التلغراف"، "الجندي اللبناني"، "الثقافة الوطنية، و"الشعب" وفي البرق كانت بدايته مع الكتابة الصحفية.

رحل رئيف خوري عن عمر يناهز الـ 55 عامًا، كان ذلك عام 1967 بعد معاناة مع مرض السرطان، ولقد اعتبره الكثيرون خاتمة المنورين العرب من عصر النهضة. وفي ذكرى رحيله كتب الدكتور أحمد عُلبي يقول :"أحقًا انقضى ربع قرن على رحيل رئيف خوري، لكأن الأمر كان البارحة، عندما كان صوت رئيف العريض يغمرنا، خلال اللقاءات والندوات والمهرجانات، برنينه المميَّز، وهو الخطيب المفوّه، يدعونا فيه إلى مزيدٍ من الوعي، وإلى مزيدٍ من العمل. لقد رحل بعد حلول "النكسة" الطاحنة، ولكنه لم يخفض هامته للنازلة، ومضى وفي عينية رجاء وعزم. كان دائمًا وَقدَةَ حماسةٍ وأجيجَ فكرٍ مقاتل، ولكن المرض الخبيث كَمَنَ له في الرأس فبلبله، وحرمنا من هذا الجندي الشاكَّ السلاحَ أبداً".
font change