بول شاوول: قطعت جذوري العائلية والاجتماعية لأنها كانت طائفية

بول شاوول: قطعت جذوري العائلية والاجتماعية لأنها كانت طائفية

[caption id="attachment_55248876" align="aligncenter" width="620"]الشاعر اللبناني بول شاوول الشاعر اللبناني بول شاوول[/caption]

وُلِد الشاعر اللبناني بول شاوول وترعرع في منطقة "سن الفيل" اللبنانية، وتعود جذوره إلى مدينة بعلبك تحديدًا من ضيعة تسمى بـ " دورس"، عن مرحلة طفولته يقول متحدثًا لمجلة (المجلة) عن ذكريات طفولته : "عشت في سن الفيل حيث الغابات الخضراء المليئة بالصنوبر والليمون والموز والخروب، ونهر بيروت، كانت هذه المنطقة رائعة جدًا، أذكر ملعب كرة القدم الذي كنت ألعب فيه، والكنائس الثلاث والجامع في برج حمود، عشت ما بين هذه الكنائس وذلك الجامع، ووسط هذه الخضرة، كنت أتسلق شجرة الصنوبر وأقطف الكوز الأخضر، كنا نبحث عن صغار العصافير ما بين الأشجار. حين بلغت الرابعة عشرة من عمري، واعدت الفتيات في الحرش، فكنا نسرق قبلة أو غمرة بين تلك الخضرة الرائعة وشميم الأشجار والأرض.

كانت عائلتي: ثمانية إخوة وأربع بنات و أربعة صبيان. أخي جورج تؤامي الأسمر اللون، وأنا النصف الأشقر منه. ولد جورج بإعاقة أصابت جسده بشكل جزئي، لكنه تمتع بالذكاء والذاكرة القوية، منذ خمسة عشر عامًا وهو يعيش في المستشفى. هو أهم إنسان عندي على هذه الأرض.



أختي تيريز.. أريد أن أنساك





حين دخلت لإجراء عملية قلب مفتوح قلت: أتمنى أن أنجو فقط لكي أبقى بقرب أخي جورج. فأنا وهو نصفان. الفجيعة الكبرى في حياتي كانت بفقدان أختي "تيريز" التي توفاها الله منذ 15 عامًا، هي من ربتني، وكانت صديقتي وأمي من بعد ما توفت أمي التي غادرتنا مبكرًا. بعد وفاة أمي كانت "تيريز" نبعًا من الكرم، لم تكن متعلمة كثيرًا ولكنها كانت تملك إنسانية كبيرة، ولم تكن طائفية أبدًا في الوقت الذي كان فيه المثقفون والعباقرة طائفيين. هي التي لم تقرأ في حياتها كتابًا، كانت ضد الطائفية، وضد زعمائها. هذه غريزة الإحساس بالإنسان. أختي كانت مع الإنسان، كانت تستدين من أجل أن ترسل لي نقودًا. في البداية كانت حالتها المادية ممتازة هي وزوجها، وحين ساءت حالتهم المادية وقفت إلى جانبها، وكنت أعمل في عدة أمكنة كي أجعلها تعيش الحياة التي كانت تعيشها حين كانت ميسورة الحال؛ لأنني مهما فعلت فلن أفي بأبسط شيء قدمته لي ولإخوتي.
لم أكتب لتيريز قصيدة، فكان فقدانها أكبر من كل شعري. حاولت أن أكتب لكن كل ما كتبته كان دونها.

والدي كان شرطيًّا، ومن ثم عمل في الأمن العام، أورثني ثلاثة أشياء: (اللاطائفية، وعزة النفس، ونظافة الكف). كان يردد عليَّ دائمًا: "يا بنيَّ إياك وعزة نفسك" و"إذا وقع نصفك على الأرض فلا تلمه"، وهو مثل لبناني؛ أي لا تذل نفسك من أجل أي شيء. كان والدي كريمًا جدًا. أورثني ديونًا كثيرة بسبب كرمه ونزاهته، فلم يسرق يومًا، كما ورثت منه حبه للمرأة. وكان صاحب ذوق عالٍ؛ مما كان سببًا في إثارة غيرة أمي بشكل مستمر، فكانت تصلي أمام العذراء من أجل أن يبقى يحبها. ظلت أمي تحب أبي بجنون لآخر نفس بحياتها. لم أرَ امرأة تحب رجلاً بهذه الطريقة، أمي وأبي كانا يدخنان عشر علب سجائر في اليوم. قبل أن تموت أمي بعدة ساعات طلبت مني سيجارة، أصابها السرطان ولم تكن تستطيع أن تدخن، أعطيتها سيجارة وسط احتجاج أخواتي. وضعت السيجارة في فمها ولم تستطع حتى تدخينها، لكنها أغمضت عينها مع ابتسامة، وودعت العالم مع السيجارة قبل أن تودعنا.





[blockquote]والدي كان شرطيًّا، ومن ثم عمل في الأمن العام، أورثني ثلاثة أشياء: (اللاطائفية، وعزة النفس، ونظافة الكف). كان يردد عليَّ دائمًا: "يا بنيَّ إياك وعزة نفسك" و"إذا وقع نصفك على الأرض فلا تلمه"[/blockquote]



كانت أمي امرأة مؤمنة، وحين كنت أذهب إلى الامتحان كانت تأتي بالحصى، وتركع عليها أمام العذراء لتصلي لي؛ لكي أنجح، وكانت كلما صلَّت لي أرسب. وقلت لها: "يا أمي كلما ركعتِ على الفحص كنت أرسب في الفحص". أبي لم يكن يرتاد الكنيسة رغم إيمانه، ولقد ورثت هذا الأمر منه".

هناك جروح لا تستطيع أن تشفيها الحياة، كتبت لأختي "تريز" سطرًا بعد وفاتها، قلت فيه: "كل يوم يا أختي أحاول أن أنساك"، كان من الصعب علي أن أنسى أختي، بينما علاقتي مع النساء تُنسى، فلقد نسيت الكثير من أسماء النساء اللواتي صادفتهن في حياتي، فقلما أتذكَّر علاقتي مع النساء. أنسى الأشخاص لكن تبقى اللحظة كامنة بعد الزمن.



لم أكن قديسًا مع النساء.. وهن كذلك





وعن علاقته بالمرأة يقول شاوول: تعرضت للأذى، ومارست الأذى في علاقتي بالمرأة خصوصًا في أول شبابي، والآن عندما أتذكر أخطائي وما خلفت من جروح لأولئك النسوة أشعر بانقباض، وفي ذات الوقت عندما أستعرض بعض ما سببته بعض النساء لي من أذى أشعر بذات الانطباع؛ لأن المرأة تؤذي والرجل يؤذي، فالمرأة ليست دائمًا قديسة. هناك نساء أذيتهن بطريقة لا يمكن أن أنساها؛ فالأذى مثل الحب لا يمكن أن ينسى.

[caption id="attachment_55248879" align="alignleft" width="204"]كتاب "دفتر سيجارة" نصوص شعرية لبول شاوول كتاب "دفتر سيجارة" نصوص شعرية لبول شاوول[/caption]

قوَّة الإنسان ليست بالنسيان بل بما يتذكره، أعرف أهمية النساء اللواتي أحببتهن بمدى تذكري لهن، ومدى حنيني لهن. أنا هدمت علاقات رائعة بتفاهتي وأنانيتي وسخفي، مع أجمل وأطيب وأنبل النساء. رغم كل شيء كل النساء اللواتي أحببتهن كنَّ أجمل وأروع وأغنى مني عاطفيًّا.لم أكن قديسًا في علاقتي مع النساء وهن كذلك. أول مرة عرفت المرأة حين نزلت إلى سوق البغاء، كانت أول امرأة دفعت لها ليرتين اسمها "أم عدنان"، من يومها لا أنسى أم عدنان التي قالت لي: "على مهلك يا ابني" هذه هي القدسية برأيي، هن الغواني اللواتي يمارسن المهنة لأسباب عائلية وعوز، هن ضحايا مجتمع، أحترمهن كلهن أكثر مما أحترم نساء البلاطات، ونساء العائلات الكبرى، والنساء الثريات اللواتي مارسن هذه المهنة بأبشع طريقة من دون أن يكنّ بحاجة للمال. ولم يجرؤ أحد على أن يوجه لهن كلمة؛ لأن البغاء مسموح لدى نساء العائلات الكبرى، وجريمة عند تلك النساء المعوزات.. كل الغواني كريمات، وكل غواني الصالونات حقيرات.



لا أتقن الحب كالشعراء





يستطرد أكثر بول شاوول: "المرأة كانت دائمًا عنصرًا قويًا حاضرًا معي، فمنذ سن الرابعة عشرة وحتى الآن خضت تجارب كثيرة، من لبنان إلى فرنسا إلى الجزائر والمغرب وتونس وسوريا، أحببت عدة مرات. أول حب كان مع جارتنا، وهي امرأة يونانية، كنت في السادسة عشرة حينها، كان اسمها "ايفلو "، كنت أمسك يدها حين أذهب إلى السينما، كانت تأتي إلى الكنيسة في قداس منتصف الليل في أعياد الميلاد، كنت أقبلها خارج أسوار الكنيسة. ذات يوم في أواخر السبعينات أجرت معي مجلة (الحسناء) حوارًا سألوني فيه عن أول حب لي فقلت لهم ما أقوله الآن. ذات يوم رنَّ تلفون بيتي، وسمعت صوت "ايفلو" تقول: كنت عند مصفف الشعر، وقرأت المجلة، تواعدنا لكي نلتقي لكني أضعت المكان، ولم ألتقِ بها منذ ذلك الوقت.



[blockquote]قوَّة الإنسان ليست بالنسيان بل بما يتذكره، أعرف أهمية النساء اللواتي أحببتهن بمدى تذكري لهن، ومدى حنيني لهن. أنا هدمت علاقات رائعة بتفاهتي وأنانيتي وسخفي، مع أجمل وأطيب وأنبل النساء[/blockquote]



الحب الناضج شعرت به في السبعينات مع امرأة رائعة أصبحت اليوم هي وزوجها من أهم أصدقائي. كان حبًّا كبيرًا دام لأربع سنوات، بعدها عشت ما يمكن أن أسميه لقاءات جميلة جدًا مع النساء، لكنها لم تكن حبًّا؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يحب كل سنة وكل يوم. الحب مثل الشِّعر هو لحظة استثنائية، أنا لست من الشعراء الذين عندما يلتقون امرأة يهيئون القصيدة في الليل، ويقرؤونها عليها في الصباح، وكأن الشعر رشوة للمرأة. لم أكتب عن الحب إلا ضمن تجربة الحب. لست ممن يكتبون عن الحب المجرد ولا عن المرأة المجردة. لا أستطيع الكتابة عن امرأة غير موجودة.

عن عزوبيته التي لا تزال مستمرة، وإذا ما كان قد ندم على قراره بعدم الزواج يقول: "أنا شخص غير موهوب للزواج ولا للأبوة ولا للأمومة ولا للعائلة. دائمًا كنت صريحًا مع كل النساء اللواتي تعرفت عليهن، لم أكذب على امرأة بوعدها بالزواج، لا أحب أن أكذب على المرأة وأوعدها بشيء لا أستطيع تحقيقه. أنا أقول للمرأة في أول لقاء بأني لن أتزوج. أنا أساكن وأعامل المرأة كأميرة في بيتي، هي تكون صاحبة البيت وكل شيء، عملت مساكنات كثيرة في حياتي في قبرص وفرنسا ولبنان ولكني لم أندم لأني اتخذت هذا القرار؛ لأنني لو تزوجت لكان من الممكن أن أؤذي المرأة بمزاجي، كما أني لا أحب أن أقيد بأوراق. أعتبر المساكنة هي الزواج الأجمل؛ لأنها قائمة على الحرية عندما تنتهي العلاقة فواحد من بين اثنين سيرحل إما هي أو أنا.

لكن هل يشعر "بول شاوول" بالوحدة بعد مضي كل هذه السنوات؟ يقول: "لا أشعر الآن بالوحدة على العكس، أنا مليء بالحيوات، عندي مئات الحيوات كلما أقرأ كتابًا تدخل فيّ حياة جديدة، أنا أقيس عمري بعشرة آلاف عام؛ لأني قرأت شعراء قدامى قرأت عصرهم وكأني أعيش فيه، أخذت من أعمارهم وآلامهم وموهبتهم، الذي يمتلئ بهذه الكمية من الحياة، لا يمكن أن أشعر بالوحدة إلا عندما أقطع علاقتي بهؤلاء ويموتون في داخلي، وذلك عندما أتوقف عن القراءة، وأتوقف عن الاتصال العميق بالحياة.




القروش التي أشتري بها الكتب




وبالعودة إلى الماضي يضيف شاوول: بكل أسف فقدت أربعة من إخوتي، نشأت في كنف عائلة متوسطة الحال، ولكن كان بيتنا مفتوحًا للجميع، في الماضي كان من العيب أن يغلق أحد بابه في النهار، ولهذا كان يدخل إلى البيت من شاء، كانت الأشياء بسيطة جدًا، والدي كان يقرأ القصص الشعبية كثيرًا، مثل حرب داحس والغبراء لأبي زيد الهلالي، أخذت منه هذا الطبع في حب القراءة، وكنت أجمع المال ليرة أو أكثر قليلاً وأذهب يوم الأحد إلى منطقة البرج، حيث يبسطون الكتب على الأرض ويبيعونها بأسعار زهيدة، فأشتري كتبًا بخمسة قروش وربع ليرة، ومجلة بعشرة قروش، وكنت أجمع بهذه الليرة والنصف عدة كتب أقرؤها من أسبوع لأسبوع. حبي للقراءة كان كبيرًا جدًا، واكتشفت المكتبة الوطنية التي كانت تقع مكان مجلس النواب اليوم، وهي المكتبة التي كنت أقرأ فيها لثلاث أو أربع ساعات يوميًّا.



رافقتني القهوة والمرأة والسيجارة





حين بلغت الرابعة عشرة من عمري رافقتني خمسة أمور: السيجارة، المرأة، القهوة، الشرب، والشعر، وما زالت كل هذه الأمور ترافقني. وتوقفت عن لعب كرة القدم، كنت ألعب حافي القدمين في ملعب سن الفيل، وبدأت مرحلة جديدة من حياتي وهي محاولة الاطلاع على العالم على قدر ما كان في إمكاني أن أطَّلع..

كان لديَّ فضول وحشرية أن أقرأ لإلياس أبو شبكة، سعيد عقل، صلاح لبكي، أمين نخلة، الأخطل الصغير، وجبران خليل جبران، وفي السادسة عشرة وسعت أفقي إلى قراءة الرواية، والمسرح العربي والعالمي. أول رواية قرأتها كانت "أنا كارانينا" لـ" ليو تولستوي " من ألف صفحة، شعرت حينها بأنها مسيرة إلى الصين؛ نظرًا لطول الرواية وكنت صغيرًا حينها ونحيلاً، وكان شعري أملس وأشقر، يومها بدأت بارتياد السينما، كنت أذهب إلى السينما يومي السبت والأحد.

[caption id="attachment_55248880" align="alignleft" width="300"]أنطون سعادة .. مؤسس الحزب القومي السوري أنطون سعادة .. مؤسس الحزب القومي السوري [/caption]

[blockquote]أنا الشاب الآتي من القرية، لم يقنعني الحزب الشيوعي يومها، ولا منظمة العمل الشيوعي لكنني أحببت أنطوان سعادة، وكان وقتها أقرب الناس إلى قلبي هو وجمال عبد الناصر[/blockquote]



كنت أتابع الأفلام المصرية وأفلام الكاوبوي، وبعض الأفلام الأجنبية، من هنا بدأ حبي للسينما، فصرنا نتابع أفلامًا في بيروت في سينما مثل الراديو سيتي، ريفولي، ميترو بول وغيرها، هذه الأفلام كانت تنسجم مع عمري، مثل الأفلام الغنائية لفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وعبد الوهاب، وكارم قنديل ومحمد فوزي، وأفلام فاتن حمامة وشادية ومريم فخر الدين وماجدة، ورشدي أباظة. ثم بدأت تختلط الأمور في رأسي بسبب السينما والشعر والرواية، بعدها بدأت في قراءة المسرح، وكنت أبحث فيه عن الشعر وليس عن المسرح، قرأت حينها: جون جيرودو، ومسرحيات فرنسية. قرأنا في الصفوف الثانوية لمولير ، وفولتير، بدأت حينها الأمور تختلط بطريقة عشوائية في رأسي، لكني ركزت وقتها على الروايات، قرأت روايات كوتستوفستي وغوغول، وتولستوي، وقرأت لموارفيا، أندرية موروا، وأندرية مورياك، والجريء أندريجين، كانت هذه الفترة هي فترة طرق أبواب الثقافة مع دخولي إلى الجامعة اللبنانية، انتقلت حينها من البيئة الريفية إلى المدينة، كانت الجامعة في تلك الفترة هي البؤرة الحقيقية للتغيرات الاجتماعية والأفكار والأيديلوجيا والأحزاب والصراعات، تعرفت إلى جون بولسارتر ، البير كاميلك، وجون أرون، منهم ليبراليون ومنهم شيوعيون، وبدأت في حياتي التحولات الأساسية والفكرية والشعرية في تلك اللحظات. بعدها قرأت لـ: المتنبي وأبي تمام وأبي نواس، وقرأت الشعر الجاهلي والجاحظ، والتراث العربي، قرأت الشعر العربي الحديث أيضًا. كنت قد بدأت مرحلة الانفتاح بجدية على الشعر العربي قبل الجامعة، وخلالها قرأت لبيير ورامبو وبلرين، واللورد بايرون، وتيتس، ولوركا ونيرودا، وبدأت أترجم الشعر وأنا في الجامعة، ترجمت منذ تلك الأيام وحتى اليوم حوالي عشرة آلاف قصيدة من الشعر الياباني والفرنسي والإنجليزي واليوناني والإسباني، وذلك عبر اللغة الفرنسية، اكتشفت حينها المعنى الحقيقي لشكسبير، حيث قرأته بالفرنسية والإنجليزية، بدأت تتفتح أمامي آفاق الثقافة العميقة مع الثقافة الأدبية المسرحية السياسية الفكرية.



الشاب المناضل الذي تعلق بأنطوان وعبدالناصر





يحكي بول شاوول عن مرحلة نضاله السياسي قائلاً : بدأت في مرحلة النضال، أنا الشاب الآتي من القرية، لم يقنعني الحزب الشيوعي يومها، ولا منظمة العمل الشيوعي لكنني أحببت أنطوان سعادة لسببين: لفكره، ولمثله، ولتضحيته بذاته من أجل أفكاره، كان وقتها أقرب الناس إلى قلبي هو وجمال عبد الناصر.

قصتي مع جمال عبد الناصر غريبة؛ لأن عبد الناصر كان أول علامة للاختلاف مع بيئتي المسيحية، عندما كنت في الثانية عشرة من عمري سحرت بهذا الرجل كطفل يسحر بشخص أحبه دون أن يعرف لماذا، علمًا أن عائلتي كانت ضده ومع كميل شمعون وبيير جميل، وكل بيئتي المسيحية ضده، كانوا يشتمونه ويتظاهرون ضده، وعندما خسر في حرب 67 شمتوا به. في الثانية عشرة من عمري بدأت في محاولة فهم نفسي. فالوقوف في وجه بيئتي جعلني أشعر حتى باللاوعي بأنني الخروف الأسود بين الخرفان البيض في القطيع، فالخروج في تلك السن عن العائلة والطائفة أمر ليس بالسهل. لكن هذا الرجل سحرني ولا يزال. تأثرت بعبد الناصر، وأنطوان سعادة، علماً بأني لم أدخل في الحزب القومي أو الناصري. لكن مع ذلك كانت قيادات الحزب القومي أقرب الناس لي في الحرب.

يتابع شاوول: "في الجامعة نضج هذا الاختلاف عندما أدركت في تأسيسي حركة الوعي، ضد الإقطاع السياسي والديني، وضد النظام الطائفي مع الضريبة المتصاعدة ضد الاستغلال، ومع الفقير والقضية الفلسطينية، هذه كلها بلورت خلافي مع محيطي. في الجامعة كان هناك صراع مهم ما بين اليمين واليسار والليبراليين والناصريين، كان صراعًا سياسيًّا ولم يكن طائفيًّا وأهم إنجاز حققته الحركة الطلابية يومها هو إنشاء الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية، وهو الذي وحّد الحركة الطلابية في الجامعة تحت سقف نقابي واحد، كنت أنا من القيادات البارزة في الحركة الطلابية، ونظمنا حينها مظاهرات بعشرات الآلاف، وقمعنا بشدة وقوة. في رأسي حوالي عشرين قطبة بسبب تعرضي للضرب خلال المظاهرات.



[blockquote]رفضت طائفية طائفتي، ولم أذهب لتأييد طائفة أخرى حين بدأت الحروب الطائفية والمجازر الطائفية، أنا أعتبر أن الطائفية هي سرطان لبنان، وكل طائفي هو عدو للبنان [/blockquote]




عندما خاض كل من الكتائب والأحرار -الحزبين المارونيين- حربًا ضد الثورة الفلسطينية في تل الزعتر بالتحالف مع السوريين ووراءهم إسرائيل لإسقاط تل الزعتر كنت أنا ضدهم، فخطفت من قبل أحد الأحزاب المسيحية عام 1976 ونجوت بأعجوبة. في 1978 سكنت في المنطقة المسيحية حيث تسيطر المليشات المسيحية، هددت بحرق بيتي إذا لم أغادر، كان والدي مريضًا وأخي أيضًا . كل يوم كان يأتيني تهديد يخبروني فيه بأني لست لبنانيًّا، وأني جاسوس أو بأني سوري أو فلسطيني، وذلك لأني كتبت ضدهم، ونشرت بعض مقالاتي في مجلة "المستقبل" وأحيانا في "البناء"، وفي "صباح الخير"، وفي مجلة "فكر".



كنت أفترش الجرائد وأنام عليها





هربت عام 1978 ولم أكن حينها أملك سوى خمسين ليرة لبنانية، وكنت بلا عمل، سكنت في شقة مفروشة في شارع الحمرا، وهي من الشقق التي لم تكن صالحة للسكن، حالتها سيئة، ولم يبدلوا حتى الشراشف الوسخة فيها، فكنت أفرش الجرائد وأنام عليها باعتبارها أنظف من الأسرَّة، حتى انتقلت إلى شقتي في 1979 حيث لا زلت أسكن الآن، وعندما حاولت في إحدى المرات أن أدخل لمنزل العائلة لأزور أختي حين مرضت منعوني وحرمت من رؤيتي أهلي مدة 12 عامًا.

يستذكر شاوول المزيد من حكاياته : "النقطة المهمة هنا أن اليسار والحزب القومي والشيوعيين كانوا رفاقي في الجامعة، وقد استقبلوني بشكل جيد جدًا. كنا رفاقًا في النضال، ولكن رغم عوزي وحالتي المادية الرديئة جدًا لم أذهب إلى أيِّ جهة لأطلب أي مساعدة. كانت أختي تيريز هذه القديسة الكريمة الرائعة التي ربتني ترسل لي بعض المال والسجائر والشراب، وأحيانا الأكل مع الذين ينزلون من المنطقة إلى بيروت.

رفضت طائفية طائفتي، ولم أذهب لتأييد طائفة أخرى حين بدأت الحروب الطائفية والمجازر الطائفية، أنا أعتبر أن الطائفية هي سرطان لبنان، وكل طائفي هو عدو للبنان سواء درى أم لم يدرِ؛ لأن الطائفية تضرب العقل والإنسانية داخل الإنسان، وتضرب الوطن داخله؛ فيصير من السهل أن يلحق حزبه الذي يرتبط عادة بالخارج. كل مليشيات لبنان من 1969 حتى الآن هي مصنوعة من أموال وسلاح الخارج وبأهداف الخارج وهذا ما أدى إلى تدمير لبنان.

أنا لم أكن شيوعيًّا ولا قوميًّا، مع هذا أيدت المقاومة الوطنية بالثمانينات، وأيدت مقاومة حزب الله . أنا لست شيعيًّا ولا مع ولاية الفقيه، لكني أيدت حزب الله المقاوم فقط، وعندما سحب سلاحه من الجنوب إلى المدينة ووجهه إلى اللبنانيين أنا الآن ضده و أواجهه، كحزب مسلح يأخذ شعار المقاومة للسيطرة على لبنان لمصلحة إيران وسوريا.

[caption id="attachment_55248881" align="alignleft" width="300"]بول شاوول متحدثا في إحدى ندواته الشعرية بول شاوول متحدثا في إحدى ندواته الشعرية[/caption]

[blockquote]أنا دمي عروبي، وحياتي وأفكاري عروبية. لكن ليس على طريقة عروبة الأنظمة الفاشية المجرمة والقاتلة، وإنما عروبة حضارية ديمقراطية مفتوحة على العالم، على التاريخ القديم، وعلى كل إنجازات الحضارة[/blockquote]



عندما حرر حزب الله الجنوب سلمه إلى إيران وسوريا، فاستبدل احتلالاً إسرائيليًّا باحتلال إيراني سوري، وهذا ما باعد ما بيني وبين هذا الحزب. هذه آرائي المستقلة كمثقف ولبناني وعروبي. أنا دمي عروبي، وحياتي وأفكاري عروبية. لكن ليس على طريقة عروبة الأنظمة الفاشية المجرمة والقاتلة، وإنما عروبة حضارية ديمقراطية مفتوحة على العالم، على التاريخ القديم، وعلى كل إنجازات الحضارة. هكذا أفهم العروبة، هي العروبة المتحولة وليست الجامدة، العروبة المشرعة وليست العروبة الحزبية الضيقة، العروبة الانتمائية وليست الأيدلوجية، العروبة التي يصنعها الشعب وليس الحكام ، لأن الطغاة الذين وصلوا إلى السلطة باسم العروبة هم أول من دمر العروبة وأفكارها وسجنوا المناضلين، وأول من دمر اليسار واليمين والحزب الشيوعي والليبراليين والنقابات. عندها لم يكن عند الناس خيار سوى العودة إلى الدين، وإلى النضال الديني. من هنا وبعد موت عبد الناصر بدأت تطفو الطائفية والصراع الإثني والمذهبي في العالم العربي، وكان أول من أثارها أنور السادات.



لا أجلس في طاولة مع شخص طائفي





أنا أكثر شاعر يكتب عن الحياة والمجتمع والإنسان والفقراء والمضطهدين، هناك فرق ما بين العزلة المجوفة والفارغة، وبين العزلة المأهولة، والتي من خلالها تشعر أن العالم كله موجود داخلك. من عنده هذه العزلة المأهولة لا يمكن أن يستبدلها بعلاقة مزيفة تافهة. خصوصًا اليوم ازدادت هذه العزلة حينما أجد أن من الصعب أن تلتقي بأي شخص غير طائفي. أنا لا أجلس على طاولة مع شخص طائفي. انفصلت عن عائلتي لأنها طائفية، وعن أي حزب طائفي. قطعت جذوري العائلية والاجتماعية لأنها كانت طائفية. فلا يمكن أن أقطع تلك الجذور وأركب جذورًا طائفية أخرى.

أنا مع لبنان فقط ومع الشعب العربي وإرادته، أنا مع الناس، لأنك عندما تجلس مع شاعر طائفي يزداد ألمك. المفروض أن يكون الشاعر كائنًا نبيلاً وعالميًّا أن يكون حالمًا. اعتبري أني طائفي ماذا كنت سأكتب؟ سأتحول إلى مجرم وإلى قاتل وإلى عميل.

الطائفي هو الذي يفقد عقله، وهو الذي يتبع أحزابًا طائفية، ويتواطأ مع جرائمهم ومذابحهم وعمالتهم. كل طائفي هو عميل من دون أن يدري.

مثلاً عندما اغتال السوريون جمال جنبلاط عام 1977، أطلق بعض المسيحيين الرصاص ابتهاجًا، فقلت لواحد منهم: الرصاص الذي قتل جمال جنبلاط سيقتلكم يومًا ما. وعندما قتل جبران تويني ووزعت في بعض الأماكن اللبنانية الحلويات ابتهاجًا تذكرت ما معنى أن يكون الإنسان طائفيًا ومجرمًا. اليوم هناك طائفة مع النظام السوري مهما فعل، وأخرى ضده مهما فعل.



ضد النظام السوري.. مع الشعب





موقفي هو ضد النظام السوري من باب أن الكلمة للشعب. إذا كان الشعب يؤيده فليبقى، أما إذا كانت الأكثرية لا تريده فيجب أن يرحل. أنا مع الشعب فقط. إذا كان المصريون يريدون السيسي فهذا قرار الشعب، وإذا كانوا يريدون مرسي فهذا قرارهم أيضًا، يجب أن ندع الشعوب تقرر مصيرها. أنا مع الشعوب ولست مع الأنظمة التافهة. من أنا حتى أقرر عن الشعب التونسي أو الليبي أو السوري أو المصري. وبمناسبة مصر رأيي أن الإخوان المسلمين غير مهيئين للسلطة وهم حزب فاشي استلموا السلطة عامًا واحدًا وفشلوا.



[blockquote]لن أفرج على دواويني الشعرية التي كتبتها حتى تستقر الثورات العربية لصالح القوى الديمقراطية والعلمانية والعروبية والحضارية، عندها أفرج عن ثلاثة دواوين كانت ستصدر منذ ثلاث سنوات[/blockquote]



في تونس من أوقف الإخوان المسلمين أيضًا الشعب. أنا مع الشعب، ليس لديّ مواقف ثابتة، أنا أتعامل مع الواقع. مثل ما وقفت مع حزب الله سابقًا ومن ثم تغير موقفي فأصبحت ضده، مواقفي مستقلة، أنا لست مع 14 آذار، ولست مع 8 آذار . فكما أيدت المقاومة، وأنا لست شيعيًّا تقاطعت مع فعل كل من يحارب إسرائيل.

لن أفرج على دواويني الشعرية التي كتبتها حتى تستقر الثورات العربية لصالح القوى الديمقراطية والعلمانية والعروبية والحضارية، عندها أفرج عن ثلاثة دواوين كانت ستصدر منذ ثلاث سنوات، وكتاب ضخم عن المسرح وقصائد قيد الكتابة، عندها أعود إلى ذاتي؛ لأن ذاتي اليوم في ذوات الشعوب، أقصد الشعب العربي، فرديتي اليوم هي فردية كل شخص ينزل إلى الميادين ضد الطغاة. حين سُئلت: لماذا سحبت كتب الشعر حين بدأت الثورات؟ قلت لهم: الشعر اليوم في مكان آخر، هو في الساحات والميادين.




[blockquote]


بول يوسف شاوول (لبنان)



C21N4
ولد عام 1944 في سن الفيل – بيروت، حصل على إجازته من كلية الآداب - الجامعة اللبنانية. كان من أبرز القيادات الطلابية في السبعينيات. عمل في الصحافة الثقافية, وكان مسئول القسم الثقافي في مجلة المستقبل 1977 - 1979, ومجلة الموقف العربي حتى عام 1992, حيث بدأ العمل مديرًا للقسم الثقافي في جريدة السفير.
له مساهمات في عدد من الصحف والمجلات العربية أبرزها السفير , والنهار .
دواوينه الشعرية: أيها الطاعن في الموت 1974 - بوصلة الدم 1977 - وجه يسقط ولا يصل 1981 - موت نرسيس 1990 - أوراق الغائب 1992 - كشهر طويل من العشق 2001.
أعماله الإبداعية الأخرى: مسرحيات (المتمردة), و(الحلبة), و(قناص يا قناص), و(الزائر).
مؤلفاته : علامات من الثقافة المغربية الحديثة - كتاب الشعر الفرنسي الحديث (نقد وترجمة) - المسرح العربي الحديث - مختارات من الشعر العالمي.
(المصدر: معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين)


[/blockquote]

font change