40 عاماً على رحيل عميد الأدب العربي.. ورائد التنوير المبكر

40 عاماً على رحيل عميد الأدب العربي.. ورائد التنوير المبكر



بدأ طه حسين معركته التنويرية الحادة بكتابه "في الشعر الجاهلي"، والذي صدر عام 1926 عن دار الكتب المصرية، وهو عبارة عن مجموعة من المحاضرات التي سبق أن القاها على طلابه، والذي آثار حينها عاصفة من النقاش والجدال، وكان له دوي كبير في الأوساط الفكرية والثقافية المصرية والعربية؛ لما تضمنه من آراء جديدة صدمت جهات كثيرة خصوصًا الدينية المتزمتة، وحتى في أوساط بعض النقاد العقلانيين الذين اتهموه بالقفز فوق التاريخ، وكذلك اتهام الإسلاميين له بالكفر، وبخيانة التاريخ العربي والإسلامي، وقد تم منع هذا الكتاب تحت ضغوط بعض الفئات الإسلامية المتطرفة وغيرها، لكن هذه الهجمة جعلته يصر على موقفه. ومما قاله في هذا الأمر آنئذ: " جادلوني بدلاً من أن تتهموني، فإن ما أكتبه هو اقتراح للمناقشة، أقنعوني ولا تقمعوني". وقد توقَّع طه حسين ما حدث من ضجة حول الكتاب، ومن انقسام حوله بين داعم و رافض له مما جعله يكتب في مقدمته: " هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد، لم يألفه الناس عندنا من قبل. وأكاد أثق بأن فريقًا منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقًا آخر سيزورّون عنه ازورارا. ولكني على سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث، أو بعبارة أصح أريد أن أقيده، فقد أذعته قبل اليوم حين تحدثت به إلى طلابي في الجامعة. وليس سرًّا ما يُتحدث به إلى أكثر من مائتين. ولقد اقتنعت بنتائج هذا البحث اقتناعًا ما أعرف أني شعرت بمثله في تلك المواقف المختلفة التي وقفتها من تاريخ الأدب العربي، وهذا الاقتناع القوي هو الذي يحملني على تقييد هذا البحث ونشره في هذه الفصول، غير حافل بسخط الساخطين ولا مكترثٍ بازورار المزوَرّ. وأنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قومًا وشق على آخرين، فسيرضي هذا الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل، وقوام النهضة الحديثة، وذخر الأدب الجديد".

وبعد مرور عام من الاحتجاجات التي صاحبت ظهور هذا الكتاب، صدر الكتاب مرة أخرى عام 1927 بعنوان "في الأدب الجاهلي"، وذلك بعد أن تم حذف بعض الأفكار التي كانت سببًا في إثارة كل هذا السخط على طه حسين.


ومن أهم ما جاء فيه نقرأ : "وأول شيء أفجؤك به في هذا الحديث هو أنني (شككت) في قيمة الشعر الجاهلي، وألححت في الشك، أو قل: ألح عليّ الشك، فأخذت أبحث وأفكر وأقرأ وأتدبر، حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إن لم يكن يقينًا فهو قريب من اليقين. ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرًا جاهليًّا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي (منتحلة) مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم أكثر مما تمثل الجاهليين. وأكاد لا أشك في أن ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدًا لا يمثل شيئًا، ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي. وأنا أقدر النتائج الخطرة لهذه النظرية، ولكن مع ذلك لا أتردد في إثباتها وإذاعتها، ولا أضعف عن أن أعلن إليك وإلى غيرك من القرّاء أن ما تقرؤوه على أنه شعر امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شيء؛ وإنما هو انتحال الرواة، أو اختلاق الأعراب، أو صنعة النحاة، أو تكلف القصاص، أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين.. وأنا أزعم مع هذا كله أن العصر الجاهلي القريب من الإسلام لم يضع، وأنا نستطيع أن نتصوره تصورًا واضحًا قويًا صحيحًا. ولكن بشرط ألا نعتمد على الشعر، بل على القرآن من ناحية، والتاريخ والأساطير من ناحية أخرى. (ص19، ص 20).



إصلاح التعليم




حاول طه حسين أن يقوم بإصلاح تربوي جذري على مستوى التعليم، سواء في المراحل الثانوية وما دونها، أو في المراحل الجامعية، خصوصًا عندما شغل منصب وزير الثقافة عام 1950 وقد كان آخر منصب حكومي يشغله قبل الثورة الناصرية التي قامت عام 1952 لينصرف بعدها إلى الإنتاج الفكري والأدبي.

تجسدت أفكار طه حسين في حياته بالإصلاح الديني، وإصلاح النظام التربوي. وقد اعتمد في مختلف قراءته النقدية المنهج الديكارتي، والأرسطوي إلى حد كبير (ترجم بعض مسرحيات سوفوكليس مثل مسرحية "أوديب فى كولونا")، وكتب في مجالات متعددة فكانت له إسهامات في الترجمة والنقد الأدبي، والمباحث الإسلامية، والسير، والتاريخ، وفي القضايا الاجتماعية وفي التربية، والقصة القصيرة، والرواية، وقد حولت روايته المشهورة "دعاء الكروان" إلى فيلم في الستينيات، وكانت من بطولة الفنانة فاتن حمامة والفنان أحمد مظهر. وفي السيرة الذاتية كانت رائعته "الأيام " وهي سيرته الذاتية التي ذكر فيها كيف أصيب بالعمى، وكيف كان ضحية التخلف، وذلك حين ذهب به والده إلى أحد مدعي الطب من القرويين، والذي عالجه بطريقة أعدم فيها بصره إلى الأبد، وقالها طه حسين عدة مرات أنه لم يعد يذكر من الألوان سوى القليل.

دخل طه حسين كشيخ للدراسة الدينية في الأزهر، ولم يكن يشعر حينها بالرضى عن الأسلوب المتبع في التدريس ولا عن المنهج، ووصف سنواته الأربع حينها بأنها من أصعب السنوات. انتقل بعدها إلى الجامعة المصرية ليدرس فيها العلوم العصرية، والحضارة الإسلامية، والتاريخ والجغرافيا، وعددًا من اللغات الشرقية كالحبشية والعبرية والسريانية، وقد حصل على شهادة الدكتوراه عام 1914، عن أطروحته : "ذكرى أبي العلاء" . ثم أعطي منحة إلى "مونبيلية" في فرنسا فتغير كل عقله هناك، حيث اطلع على فكر الثورة الفرنسية، والثورات الأوروبية، والفكر اليوناني والغربي، وتبنى وتأثر بالمنهج الديكارتي العقلاني، ومن هذا المنهج قرأ الواقع العربي الشعري، النقدي، الجاهلي، الإسلامي، المدني، والفلسفي.


منهج الشك الديكارتي




تبنى طه حسين الشك الديكارتي، وهذا ما ميزه عن التنويريين الكبار أمثال محمد عبده، والأفغاني، والطهطاوي ، خصوصًا وأنه زاوج مثلهم ما بين الفكر الغربي الحداثي، وبين المعطيات السياسية والدينية والتاريخية، ولو أنه اُتهم أحياناً بأنه رجح التأثير الغربي على التأثير الموروث، وهذا ما جعله يخترق البنية الميتافيزيقية للفكر وللدين بأدوات عقلانية، ويعتقد أن هذه هي أهم الإنجازات التي قدمها طه حسين، والتي كانت استمرارًا للإرث النهضوي الذي أرساه المفكرون، والكتاب العرب منذ منتصف القرن التاسع عشر. وكل ذلك برز في اعتماده هذا المنهج من خلال قراءته للشعر العربي الحديث أيضًا خصوصًا في كتابه "حديث الأربعاء" حيث تعرض فيه لشعراء مثل أحمد شوقي، فوزي المعلوف، وخليل مطران، وكذلك للشعر الجاهلي والأموي وشعرائه .
أهمية طه حسين تكمن في أنه حمل الذهنية النقدية، ولم يكن مجرد متلقٍ للمعطيات، بل محاولاً لتفكيكها إلى أجزائها وإلى بنياتها التفصيلية، والداخلية، والمجازية، ومن ثم إعادة بنائها، وهذا ما جعله يداخل الدين بعباءة غير دينية. وهو الذي كان من الذين انخرطوا في الأزهر وفي التعليم الديني، وكان مراده أن يكون شيخًا في بداية الأمر، لكن مع هذا اتهمه بعض العقلانيين بأنه رغم كل هذه العقلانية بقي أسير بداياته وإرثه الديني مموهًا أو غير مباشر، فمن ناحية تعرض له بعض النقاد والمفكرين كاللبناني رئيف خوري في هذا المجال، ومن ناحية أخرى اتهمه بعض الإسلاميين بتشويه الدين الإسلامي، وكذلك بعض الشعراء العرب بتشويه الشعر العربي الجاهلي؛ باعتبار أن هذه القراءة هي قراءة استشراقية أخذها من الغرب أصلاً، وهي تجافي المعطيات والوقائع التاريخية الدامغة. وأن الشعر الجاهلي موجود وله شعراؤه وتاريخه، وحضارته، وفنونه، وأن الجاهلية احتضنت قبل الإسلام المسيحية واليهودية والوثنية والصابئة. كما وضع طه حسين في قفص الاتهام مرارًا وتكرارًا، وتساءل البعض "هل كان طه حسين شيوعيًّا، عميلاً للصهيونية، وهل تنصر في كنيسة في فرنسا؛ وذلك بسبب زواجه بسوزان زوجته الفرنسية، والتي بقيت على دينها طوال فترة زواجها".

ولا يزال هذا السجال مستمرًا حتى اليوم. ورغم كل هذا فقد جافى طه حسين كل الاتجاهات الدينية غير العقلانية في تفسير العلم. فهو لم يقف مع الصوفيين، أو مع المفسرين الدينيين المحض؛ لأنهم -كما يرى- جافوا العقل، وقرؤوا التاريخ إما بعواطفهم أو بغرائزهم أو بتماهيهم الأسطورية أو الخرافية القديمة. كان طه حسين شخصًا مستفزًا بالنسبة للكثيرين، كان يتحدى الموروث، جريئًا في طرح أفكاره.

نحن نفتقد اليوم أكثر من أي وقت مضى مثل هذه العقول، كان في وقته أناس مثل سلامة موسى، وجاء من بعده أشخاص كثر مثل أحمد لطفي السيد، ساروا بنفس هذا الاتجاه. طه حسين كان جزءًا من المنظومة العروبية الغربية التي ميزت الفكر العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحتى نهاية وقت عبد الناصر؛ لأن نكسة عبد الناصر في 1967 كانت نكسة لكل العالم الثالث أولاً، وللفكرة العروبية، وحتى للفكرة الحداثية التنويرية، ليأتي بديلاً فكر الانفتاح مع قدوم السادات، الذي كان أول من أثار الفتن الطائفية لمحاربة الناصرية، وأول من حرض الإسلاميين على الأقباط وعلى الشيوعيين، والناصريين والعروبيين، وسمّى نفسه الرئيس المؤمن.

في ذكرى ولادة طه حسين 15 نوفمبر1889 وفي ذكرى وفاته 28 أكتوبر1973 يبقى السؤال: هل نحن اليوم بحاجة لمثل طه حسين، هذا الرجل الذي قال عنه عبَاس محمود العقاد: إنه رجل جريء العقل، مفطور على المناجزة، والتحدي"، نحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى هذه العقلانية، وليس بالضرورة أن تغلب عليها النزعة الغربية. نحن بحاجة إلى طه حسين الذي يستقي أفكاره من واقعه، ومن التفاعلات والاشتباكات والصراعات الاجتماعية الميدانية، لا أن يسقط الأفكار الغربية على الواقع العربي.

font change