لا ينفع اللسان من دون الفم، لأن الفم هو من يُظهر فصاحة اللسان، ولولاه ما كانت هناك فصاحة كلامية هي الآن في صدام مع الفصاحة البكماء، التي تزحف حثيثا في هذا العصر الرقمي الأبكم.
في عصرنا الحاضر، لا يتكلم الناس كثيرا... كلا بل يتكلمون.. ولكن بصمت. أغلبهم متقوقع في عالمه الافتراضي. لقد غدت الفصاحة الكتابية تتسيّد الموقف، وتلعب دورا مهما في تشكيل الرأي العام، وهذا أمر رأيناه رأي العين غداة صقيع العرب المستمر.
الألسنة الطويلة والأفواه الثرثارة لم تعد تحتكر المشهد كما كان عليه الأمر من قبل. الصامتون بأغلبيتهم أو قلتهم، قد يكتبون التاريخ أو يمحونه أو يزورونه.
في علم الكلام يعد الفم واللسان صنوان.. فلا فم من دون لسان، ولا لسان بلا فم..
فعندما نتحدث عن واحد منهما في هذا السياق إنما نتحدث عن الآخر.. فإذا قلنا مثلا: مقتل (الفرد) بين فكيه لا نعني اللسان ها هنا فقط، وإنما نعني الفم أيضا.
ولكن... سيأتي على البشرية يوم تستغني فيه عن اللسان، مثلما استغنت عن القلم.
ولكنهم حتما... لن يستطيعوا الاستغناء عن أفواههم، ولو كانوا بكما.
وإذا وصلنا فعلا إلى هذا العصر الأبكم.. فهل ثمة فرق بيننا وبين بقية الكائنات؟
سؤال وجيه تمنى الجاهلي.... نتائجه:
ليت الفتى حجر!
وتمنى درويش مثله
(يا ليتني حجر)
***
ومن يك ذا فم مر مريض
يجد مرا به الماء الزلالا
***
وفي الأمثال قالوا:
في فمي ماء، وهل ينطق من في فمه ماء؟
أفواهها مجاسها، في قولهم ما أَشَدَّ فُوَّهَةَ هذا الفرس في هذا العشب، للتدليل على صحته وسلامة بدنه.
وقالوا: حتى يلين لضرس الماضغِ الحجر.
الفَمُ أصله فَوْهٌ، نقصتْ منه الهاء فلم تحتمل الواو الإعراب لسكونها، فعوِّضَ عنها الميم. فإذا صغَّرت أو جمعت رددته إلى أصله وقلت فُوَيْهٌ وأفْواهٌ، ولا يقال أفْماءٌ. فإذا نسبت إليه قلت فَميٌّ وإن شئت قلت فَمَوِيٌّ (تجمع بين العوض وبين الحرف) الذي عوِّض منه، كما قالوا في التثنية فَمَوانِ.
وللفم في العربية مفردتان أخريان هما: الفوه والثغر.
الفوه
قالوا: يداك أوكتا وفوك نفخ.
وتعرفه كتب اللغة بأنه أَصلُ بناء تأْسِيسِ الفمِ. والفاهُ والفُوهُ والفِيهُ والفَمُ سواءٌ، والجمعُ أَفواهٌ.
وقوله تعالى: ذلك قولُهم بأَفْواهِهم؛ وكلُّ قولٍ إنما هو بالفم، إنما المعنى ليس فيه بيانٌ ولا بُرْهانٌ، إنما هو قولٌ بالفمِ ولا معنى صحيحاً تَحْتَه.
وفاهَ بالكلام يَفُوهُ: نَطَقَ ولَفَظَ به؛
وفاهَ الرجل يَفُوه فَوْهاً إذا كان مُتكلِّماً.
ورجل مُفَوَّهٌ وفَيِّهٌ: قادرٌ على المَنْطِق والكلام، وكان حسَنَ الكلامِ بليغاً في كلامه.
ويقال: ما فُهْتُ بكلمةٍ وما تَفَوَّهْتُ بمعنى أَي ما فتَحْتُ فمِي بكلمة.
والمُفَوَّهُ: المِنْطِيقُ.
ويقال: قَعَد على فُوَّهةِ الطريق وفُوَّهةِ النهر، ولا تقل فَم النهر ولا فُوهة، بالتخفيف،
والوتيرة: إِطار الشفة.
ولا أظن أن هناك لغة أخرى بها تحتوي هذه المفردة.
الثغر الفم والجمع ثُغُور.:
تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً
ووجهك وضاح وثغرك باسمُ
رمى الله في عيني بثينة بالقذى،
وفي الغر من أنيابها بالقوادح
وهذا يتفق مع الصِّحاح في تفسيره الثغر، إذ يراه: ما تقدَّم من الأسنان.
وفي الأمثال يقولون: أمسوا ثغورا. وهو تماما مثل قولهم: تفرقوا أيدي سبأ.
لكن الثغر اشتهر عند العرب زمن الفتوحات بأنه مَكَانُ المَخَافَةِ من أَطراف البلاد.
ويعرف أيضا بالموضع الذي تخاف أَن يأْتيك الغازيّ منه في جبل أَو حصن وسمي ثَغْرا، لانتلامه وإِمكان دخول الغازينّ منه.
***
التَبَسُّمُ أَوَّلُ مَرَاتِبِ الضَحِكِ
وتبسم عن ثغر نقي كأنه
من اللؤلؤ المكنون في صدف البحر
ثُمَّ الإهْلاسُ ، وهو ضحك فيه فتور. وأَهْلَسَ في الضحك: أَخفاه؛ قال:
تَضْحَكُ مِنِّي ضَحِكاً إِهْلاسا
أَراد: ذا إِهْلاسٍ، وإِن شئتَ جعلته بدلاً من ضحك
ثمَّ الافْتِرَارُ والانْكِلالُ وهما: الضَّحِكُ الحَسَنُ،
ثُمَ الكَتْكَتَةُ أَشَدُّ مِنْهُمَا.
ثُمَّ القَهْقَهَةُ وهي مفردة مازالت تستعمل في الفصحى مثلها مثل التبسم.
ثُمَّ القَرْقَرَةُ. الغريب أن هذه المفردة وإن اختفت من الفصحى، إلا أنها مازالت مستعملة في بعض اللهجات العامية.
ثُمَّ الكَرْكَرَةُ.
ثُمَّ الاسْتِغْرَابُ وهذه المفردة اتخذت معنى إضافيا آخر الآن، يعني التعجب تقول: إنني أستغرب ذلك منك استغرابا.
واسْتَغْرَب في الضَّحِك، واسْتُغْرِبَ: أَكْثَرَ منه. وأَغْرَبَ:
اشْتَدَّ ضَحِكُه ولَجَّ فيه. واسْتَغْرَبَ عليه الضحكُ، كذلك.
يُقال أيضا: أَغْرَبَ في ضَحِكه، واسْتَغْرَبَ، وكأَنه من الغَرْبِ البُعْدِ. وأَغْرَبَ الرجلُ إِذا ضَحِكَ حتى تَبْدُوَ غُروبُ أَسْنانه.
ويجوز أَن يكون بمعنى الـمُتَناهِي في الـحِدَّةِ، من الغَرْبِ: وهي الـحِدَّةُ؛ قال الشاعر:
فما يُغْرِبُونَ الضَّحْكَ إِلاَّ تَبَسُّماً
ولا يَنْسُبُونَ القولَ إِلاَّ تَخَافِـيَا
ثُم الطَّخْطخَةُ، ثُمَّ الإِهْزَاقُ والزَّهْزَقَةُ، وَهِيَ أَنْ يَذْهَبَ الضَّحِكُ بِهِ كلَّ مَذْهَبٍ:
وأهْزَقَ فلان في الضحك وزَهْزَق وأنْزَقَ وكَوْكَبَ إذا أكثر منه.
ومن معاني الزَّهْزقةُ: تَرْقيصُ الأُمّ الصبيَّ، والزِّهْزاقُ: اسم ذلك الفعل.
والزَّهْزَقة: كلام لا يفهم مثل الهَيْنَمَة؛
***
الريق – الرضاب – اللعاب – ما الفرق بينهما؟
مظلومة القد في تشبيهه غصـنـا
مظلومة الريق في تشبيهه ضربا
يقول هي مظلومة القد إذا شبه بالغصن، لأنه أحسن منه وهي مظلومة الريق إذا شبه بالعسل لأنه أحلى منه.
والضَّرَبُ، بالتحريك: العَسل الأَبيض
الرضابُ، والريق أَخَصُّ منه، ويجمع على أَرْياقٍ.
وقولهم: أتيته على ريقِ نَفْسِي، أي لم أَطْعَمْ شيئاً. ويقال أتيته رَيِّقاً وأتيته رائِقاً، أي على ريقٍ لم أُطْعَمْ شيئاً.
والرَّيِّقُ أيضاً من كلّ شيء: أفضلُه وأَوّلُه؛ ومنه رَيِّقُ الشبابِ وريِّقُ المطر. قال لبيد:
مَدَحْنا لها رَيْقَ الشبابِ فَعارَضَتْ
جَنابَ الصِبا في كاتمِ السّرِ أَعْجَما
والماءُ الرائقُ: أن يُشْرَبَ على الريقِ غُدوةً. وراقَ السرابُ يَريقُ رَيْقاً، إذا لمعَ فوق الأرض.
وعلى ذكر السراب، فإن العرب كانت تسميه أيضا الآل.
والريق هو الرضاب. لكنه إذا سال فيقال له لعاب، وهنا تكمن دقة اللغة.
وقد يتخذ اللعاب معنى آخر كقول الشاعر:
وأصدى فلا أبدى إلى الماء حاجةً
وللشمس فوق اليعملات لعابُ
وقال الكميت
يصافحن حر الشمس كل ظهيرةٍ
إذا الشمس فوق البيد ذاب لعابها