قبل عدة أيام، أقرَّ البرلمان في تركيا تعديلاً على المادة 35 من القانون الخاص بالجيش التركي، و التي شكَّلت في الماضي ذريعة قانونية سمحت للجيش بالتدخل سياسيًّا لحماية الجمهورية و الدستور من بعد انقلاب عام 1960. التعديل الجديد الذي أقرَّه نواب كل من حزبي العدالة والتنمية الحاكم والشعب الجمهوري المعارض، واعترض عليه الحزب القومي الكمالي يحصر مهمة الجيش في حماية حدود الدولة من العدوان الخارجي، ويلغي دوره التاريخي كحامٍ للدستور. هذا التعديل يأتي كخطوة جديدة في سبيل إخضاع المؤسسة العسكرية التركية للسلطة المدنية، وذلك تماشيًا مع متطلبات الاتحاد الأوروبي والتي تشترط تعديلات جذرية في العلاقات المدنية العسكرية للسماح بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
خلال العامين الماضيين بدا وكأن العلاقات المدنية العسكرية أو العلاقة بين الجيش والدولة في ثلاث من أهم دول الشرق الأوسط تتجه نحو صيغة جديدة تتفق مع تصور الدول الغربية والديمقراطيات الليبرالية لهذه العلاقة، وهو التصور الذي يستبعد أي دور سياسي للجيش في الدولة، ويتوقع منه خضوعًا تامًا للسلطات المدنية المنتخبة. ففي تركيا في صيف العام 2011 قدم الجنرال "أسيك كوسانر" -قائد أركان الجيش التركي، ومعه قادة الأفرع الرئيسة للجيش- استقالتهم لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بعد ساعات من إعلان فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات العامة. وقد فُسرت هذه الاستقالات الجماعية على أنها احتجاج من الجيش التركي على المحاكمات المسيَّسة لأكثر من 300 من جنرالات وضباط الجيش التركي بتهم التآمر للانقلاب على نظام الحكم فيما عرف بمؤامرتي "المطرقة" و"إرغنيكون".
ورأى المراقبون بأن استقالات الجنرالات هي اعتراف بالأمر الواقع من قبلهم، وقبول بخضوع الجيش التركي للسلطة المدنية بشكل غير مسبوق في تاريخ الجمهورية التركية.
أما في مصر -وفي صيف العام الماضي تحديدًا- فقد أطاح الرئيس المعزول محمد مرسي وبشكل مفاجئ بقيادات المجلس العسكري الذي قاد مصر في المرحلة الانتقالية المضطربة التي تلت ثورة يناير. وتقبَّل الجيش المصري عملية التغيير هذه بصمت على الرغم من مخالفتها للإعلان الدستوري المكمل، والذي تم إصداره قبيل إعلان نتائج انتخابات الرئاسة المصرية.
و في باكستان -التي عرفت عبر تاريخها ثلاثة انقلابات عسكرية، وعلاقة متشابكة بين الجيش و السياسة- فقد بدأ فصل جديد ومختلف في هذه العلاقة بوصول الجنرال أشفق كياني إلى رئاسة الأركان بعد خروج برويز مشرف من الحكم سنة 2008. فقد تعهد كياني وفي أكثر من مناسبة بأنه لا رغبة للجيش في الخوض في الشؤون السياسية في باكستان. وكان الجيش عند وعده خلال الانتخابات العامة الأخيرة مطلع هذا العام، حيث التزم الحياد في إشرافه على العملية الانتخابية، وتقبل الأحكام الصادرة بحق قائده الأعلى سابقًا برويز مشرف، والذي حكم القضاء بمنعه من المشاركة في الانتخابات، وبوضعه تحت الإقامة الجبرية.
[caption id="attachment_55246695" align="alignleft" width="300"] قيادات في الجيش التركي[/caption]
[blockquote]في كل مرة تدخل الجيش التركي فيها سياسيًّا لم يجد صعوبة في اكتساب شرعية لتدخله، وسارع إلى تسليم السلطة إلى حكومة مدنية، ولم يحكم مباشرة كما في الديكتاتوريات العسكرية الكلاسيكية في أمريكا الجنوبية. [/blockquote]
الدوائر الغربية استقبلت هذه التحولات في العلاقة بين ثلاثة من أكبر الجيوش في الشرق الأوسط والسلطات المدنية في بلدانها بالترحاب واعتبرتها خطوة هامة في سبيل ترسيخ الديمقراطية. فالجيش في الديمقراطيات الليبرالية محايد ومنفصل بشكل كبير عن عالم السياسة والسياسة الداخلية تحديدًا. والحالات النادرة التي يتم فيها استدعاء القوات المسلحة إلى المشهد المحلي تكاد تنحصر في المساعدة أثناء الكوارث الطبيعية، أو لحفظ الأمن في الحالات الاستثنائية كما حصل في أحداث الشغب في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية عام 1992.
تأسيس هنتنغتون
هذا التصور للعلاقة بين الجيش والدولة أسس له المفكر الأمريكي "صامويل هنتنغتون" قبل أكثر من نصف قرن في كتابه الشهير "الجندي و الدولة" والذي أصبح أحد المراجع الرئيسة لدراسة العلاقة بين الجيش والسلطة المدنية. هنتنغتون حدد خمسة نماذج للعلاقات المدنية العسكرية أحدها هو النموذج الذي تسود في مجتمعه أيديولوجية معادية للعسكرية ويفتقد الجيش فيه للقوة السياسية مع احتفاظه بدرجة عالية من الاحترافية والكفاءة. وقد ربط هنتنغتون بين درجة احترافية الجيش وابتعاده عن السياسة. وبشكل عام هذا النموذج هو السائد في أمريكا وباقي الديمقراطيات الغربية، ولا تبدو هناك إشكالية حقيقية في تطبيق هذا النموذج في الديمقراطيات الغربية لأسباب عدة أولها: أن أمريكا والدول الغربية ومنذ انتهاء الحرب الباردة لا تواجه أخطارًا عدائية تهدد سلامة حدودها بشكل مباشر. وفي الحالات القليلة التي واجهت هذه الدول خطرًا يمس أمنها القومي بشكل جاد كما حصل لأمريكا خلال أحداث سبتمبر وما تلاها من عمليات عسكرية خارج الحدود وقع اشتباك في العلاقات المدنية العسكرية دل عليه الخلافات بين وزير الدفاع –آنذاك- دونالد رمسفيلد والقيادات العسكرية الأمريكية في مرحلة ما بعد غزو العراق. أما السبب الثاني فهو أن الديمقراطيات الغربية قد حسمت -ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية- صراعاتها الأيديولوجية وتخطت مرحلة التحولات الكبرى، وأصبحت بوصلتها من الناحية الأخلاقية والثقافية تدور في اتجاه الليبرالية والحريات الفردية. فمن المستبعد اليوم أن تصل إلى حكم هذه الدول أحزاب أو مجموعات تستطيع تغيير هوية المجتمع، وتفرض عليه أيديولوجية جديدة قد تؤثر على المؤسسة العسكرية.
صراعات لم تحسم بعد
عندما قرر الجيش المصري الانحياز إلى الإرادة الشعبية الواسعة، وأطاح بنظام الإخوان المسلمين "المنتخب" في الثالث من يوليو الماضي وقعت الكثير من الدوائر السياسية ووسائل الإعلام الغربية في فخ الحكم على الحركة التصحيحية للجيش من نفس العدسة التي تنظر بها إلى العلاقات المدنية العسكرية في الديمقراطيات الغربية. فكان أن قرأت هذه الدوائر ما جرى في مصر على أنه خطوة سيئة وانقلاب على الديمقراطية. لكن هذه القراءة وبغض النظر عن التوصيف التقني لما حدث في مصر (ثورة أو انقلاب) تتجاهل الكثير من الحقائق الصلبة على أرضية الشرق الأوسط. فعلى العكس من الديمقراطيات الغربية فإن صراعات الهوية والأيديولوجية لم تحسم بعد في المنطقة.
[blockquote]
إذا كان من المستبعد تمامًا أن تصل جماعات النازيين الجدد إلى الحكم في ألمانيا على سبيل المثال فإن الجماعات الدينية المتطرفة وغير الديمقراطية بإمكانها تحقيق انتصارات كبيرة في الانتخابات في كثير من دول الشرق الأوسط، وهو ما قد يهدد السلم الأهلي في هذه الدول، ويهدد هوية وعقيدة جيوشها. وهذا نوع من التحدي لا تواجهه المؤسسات العسكرية في الديمقراطيات الغربية. [/blockquote]
كذلك فإن منطقة الشرق الأوسط ليست الواحة الأكثر أمانًا في العالم، فالحدود السياسية فيها كانت ولا زالت عرضة للتغييرات وللتهديدات من عدة أطراف داخل وخارج المنطقة. فدولة مثل مصر على سبيل المثال تجاور إسرائيل التي خاضت ضدها أربع حروب، كما تواجه تهديدات انفصالية وإرهابية داخل سيناء، وتواجه خطرًا على أمنها المائي من أثيوبيا.
و تركيا تجاور دولتين في طور التفكك إلى دويلات إثنية ومذهبية قد تشكل إلهامًا للأقليات الكردية والعلوية في تركيا. بالتالي لا يمكن مقارنة العلاقات المدنية العسكرية في هذه الدول التي تقع في محيط مضطرب سياسيًّا و أمنيًّا بنظيرتها في الدول الغربية التي تعيش في حالة من السلم على أراضيها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لكن تظل المشكلة الأكبر في القراءة الغربية الحالية للعلاقات المدنية العسكرية في الشرق الأوسط هي في تجاهلها للجانب الاجتماعي والشعبوي لهذه العلاقات، وهو جانب مهم جدًا، إذ يذكر عالم الاجتماع الأمريكي "موريس جانويتز" -وهو أحد مؤسسي علم الاجتماع العسكري- بأنه لا يمكن فهم طبيعة أي جيش من دون فهم طبيعة المجتمع الذي ينتمي إليه.
جيوش لها شعبية
وفي الشرق الأوسط تحظى الجيوش الوطنية بدرجة كبيرة من الاحترام والشعبية بين أوساط المجتمع، تتفوق في أحيان كثيرة على شعبية النخب المدنية، والأسباب لهذه الشعبية تتعدد ما بين اعتماد التجنيد الإجباري الذي وسع من انضمام كافة الطبقات الاجتماعية إلى الجيش، وهذا شكَّل فرصة لارتقاء الطبقات الاجتماعية المسحوقة، إضافة إلى تاريخ هذه الجيوش في الحروب الخارجية. ففي مصر يوصف أفراد الجيش على الصعيد الشعبي بـ"خير أجناد الأرض" استنادًا إلى الحديث النبوي الشريف يقابل ذلك في تركيا المقولة الشهيرة بأن "كل تركي يولد كجندي". فالجيش -سواء في مصر أو في تركيا- ارتبط في الأذهان بكونه مؤسس الدولة الحديثة عبر ثورة الثالث والعشرين من يوليو في مصر، وحرب استقلال تركيا عام 1923.
وبالإضافة إلى الرصيد البطولي للجيشين في حروب مصر مع إسرائيل، وحرب استقلال تركيا، فإن كلا الجيشين مثلا أيضًا قوى الحداثة والتطوير وخصوصًا في بدايات إنشاء الجمهوريتين.
ففي تركيا أدخلت مجموعة الضباط في حركة (تركيا الفتاة) مفاهيم القومية والدولة الوطنية الحديثة للمجتمع، وذلك عبر ثورة العام 1908 وبعد ذلك بنحو 40 عامًا دشن الجنرال "عصمت إينونو" الانتقال الديمقراطي من حكم الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية من دون ضغوط شعبية داخلية. والجيش في مصر هو أيضاً قام بدور حداثي وتنويري عندما أنهى الإقطاع، وأقر قوانين الإصلاح الزراعي بعد أن عجزت النخب المدنية السياسية طيلة الثلاثين عامًا التي سبقت ثورة يوليو في تحقيق طموحات وحقوق ملايين الفلاحين المصريين.
[caption id="attachment_55246696" align="alignleft" width="279"] وزير الدفاع المصري عبدالفتاح السيسي[/caption]
[blockquote]لم يستند الجيش المصري في تدخله حين عزل الرئيس مرسي إلى بند دستوري بقدر ما أستند إلى واجب وطني تاريخي "غير مكتوب" ولكنه مرحب به اجتماعيًّا و شعبيًّا في الإطار غير الرسمي للعلاقات المدنية العسكرية.[/blockquote]
وفي كل من البلدين دائمًا ما كان ينظر إلى الجيش على أنه المؤسسة الأكثر احترافية وتنظيمًا والأقل فسادًا. هذه الشعبية والثقة في المؤسسة العسكرية عبر التاريخ الحديث للبلدين أعطى تفويضًا شعبيًّا غير مكتوب يسمح بل ويتوقع من هذه المؤسسة التدخل سياسيًّا عندما يعجز السياسيون في حل المشاكل.
في مايو من العام 1960 قامت مجموعة من ضباط الصف الثاني في الجيش التركي بالإطاحة بحكومة "عدنان مندريس" واعتقاله إلى جانب رئيس الجمهورية وقيادات الحكومة. تحركت هذه المجموعة من الضباط استجابة للتظاهرات التي شهدتها المدن الكبرى في تركيا احتجاجًا على تصرفات حكومة مندريس المكارثية، والتي حظرت الصحف واعتقلت الصحفيين المعارضين، وأنشأت قبل أسابيع من الانقلاب مفوضية برلمانية ينتمي جميع أعضائها إلى الحزب الحاكم؛ بغرض التحقيق في ما أسمته بالتصرفات العدائية لأحزاب المعارضة، وقامت المفوضية فيما بعد بتعليق المشاركة السياسية لمجموعة من أحزاب المعارضة. كل هذه الظروف -إضافة إلى السياسة الاقتصادية لحكومة مندريس، وبوادر تقاربها مع الاتحاد السوفييتي، والتي رأى الضباط أنها تخالف المبادئ الكمالية- أدَّت إلى تحرك الجيش للتدخل سياسيًّا وسط تأييد الشارع.
وفي كل مرة تدخل الجيش التركي فيها سياسيًّا لم يجد صعوبة في اكتساب شرعية لتدخله، وسارع في كل مرة أيضًا إلى تسليم السلطة إلى حكومة مدنية، ولم يحكم مباشرة كما في الديكتاتوريات العسكرية الكلاسيكية في أمريكا الجنوبية.
واجب وطني تاريخي
يعتقد الكثير من المحللين بأن زمن تدخل الجيوش مباشرة لتغيير السلطات المدنية على غرار ما حدث في تركيا عام 1960 قد ولى من المنطقة، جاءت الحركة التصحيحية للجيش المصري، أو ما يعرف الآن بثورة الثلاثين من يونيو لتعيد الحسابات. لم يستند الجيش المصري في تدخله إلى بند دستوري بقدر ما أستند إلى واجب وطني تاريخي "غير مكتوب" ولكنه مرحب به اجتماعيًّا و شعبيًّا في الإطار غير الرسمي للعلاقات المدنية العسكرية.
إن نجاح الجيش المصري في كسب التأييد السياسي -أو على الأقل عدم إدانة تدخله من قبل الكثير من القوى الدولية المؤثرة- سيشكل دافعًا قويًّا لإعادة إحياء الصيغة القديمة للعلاقات المدنية العسكرية في الشرق الأوسط، والتي تعطي للمؤسسة العسكرية حق الضبط والتوازن والتدخل السياسي من دون الحكم المباشر. وربما تتكرر التجربة المصرية في دول أخرى في المنطقة. وقد تشهد تركيا مستقبلاً تجربة مشابهة أقل حدية خصوصًا في ظل وجود أزمات مؤجلة قابلة للانفجار، سواء داخلية كمسألة الدستور الجديد والذي قد يغير من هوية الدولة، ويزيد من حالة الاستقطاب السياسي الحاد، أو تعثر مفاوضات السلام مع حزب العمال الكردستاني، أو حتى تعثر عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وأزمات خارجية كاحتمال ظهور دولة علوية ودويلة كردية في سوريا قد تهددان الخريطة السياسية للدولة التركية.