[caption id="attachment_55245600" align="aligncenter" width="620"] الفنانة القديرة منى واصف في مشهد درامي[/caption]
في الدراما السورية، مثلا، والتي تلقت كبير الدعم من أيام الرئيس حافظ الأسد، ثم استكمل ابنه الدعم وبوتيرة أعلى، تم التركيز في سبعيناتها على ما يسمى في النقد الروائي الماركسي «الشخصية الإيجابية» أو «البطل الإيجابي»، وهو هنا إما مدرس في مدرسة أو ضابط في الجيش أو إنسان طيب يريد الخير للكل. وكان الطلب إلى المؤلفين التركيز على البطل الإيجابي ليترافق حضوره مع سياسة الدولة الآيديولوجية الاشتراكية التي طالما ركزت على العامل والمعلّم وأفكار العطاء والمنح.
ثم في الثمانينات تغيّر المنظور إلى «البطل الإيجابي» الآيديولوجي، فعوضا من أن يكون معلّما أو عاملا أصبح شخصية تاريخية فانتازية، كما درج هذا المصطلح في نهاية الثمانينات. وكانت سياسة الدولة، وقتذاك، تحاول مدّ توسعها الإقليمي مع حرب العراق وإعطاء انطباع للعامة بأن الشخصية التاريخية هي شخصية عربية بالضرورة، وذلك للرد على الدور الإيراني في السياسة السورية والقول إن المحور العربي هو الأصل. وفي الحقيقة كانت السياسة السورية مع نهاية الثمانينات ذات طابع عربي صرف لا سابق له، فقد كان التنسيق السوري – السعودي – المصري، في أعلى مستوياته، وانضم إليه بحكم التوازنات الإقليمية: السودان ولبنان والعراق والجزائر والسلطة الفلسطينية، وسوى ذلك من توافقات ذهبية يترحم الكثير على أيامها التي ولت. هنا كانت الشخصية التاريخية هي الجامع الموحّد الذي يخدم السياسة الخارجية السورية. وبذلك، تم إخراج شخصية البطل الإيجابي إلى غير رجعة، واستُبدِل به التاريخي، أو الفانتازي التاريخي.
مع رحيل الرئيس الأسد الأب، وتولي ابنه بشار لمقاليد السلطة، كانت الفانتازيا التاريخية تلفظ أنفاسها الأخيرة، إذ لم يعد من الملائم رؤية أشخاص يرتدون الأزرق والأحمر والأخضر والأصفر، ويتنقلون على ضفاف أنهر سحرية خلابة ويمتشقون سيوفا مذهبة ويطلقون لحى مشذبة كما لو أن الشخصيات التاريخية تستخدم منتجات كهربائية حديثة لتشذيب اللحية أو حلق الشوارب، فضلا عن ثيابهم التي لا تظهر إلا مكوية ونظيفة كما لو أنهم يعيشون في غسالة أوتوماتيكية وليس على ضفاف أنهر أو رمال صحراء!
هنا، كان الناس قد سئموا هذه الرؤية المتضخمة لتاريخ غامض ولا ينتمي أصلا إلى أصوله العربية المعتادة.
[caption id="attachment_55245604" align="alignleft" width="150"] الاسد- الابن والاب[/caption]
مع تسلم بشار الأسد للسلطة، ولدت حركة اعتراض واحتجاج واسعة في أوساط المثقفين، بصفة عامة، والسياسيين بصفة خاصة، كإعلان دمشق وسواه. وكان النقد يتركز على الفساد بشكل أساسي. حصلت توجيهات جذرية في الدراما، وتم التركيز على العيوب المجتمعية والسياسية، خاصة. وبذلك استبدلت بالشخصية التاريخية الفانتازية شخصية واقعية حادة، عادة ما تكون فاسدة أو صورة عن الفساد السياسي والمجتمعي. ولعل مسلسل «سبوت لايت» من أكثر الأعمال التي فضحت الفساد السياسي والمالي في سوريا، حيث تم تركيز الضوء على رجال المخابرات ورجال السياسة ورجال الدولة في شكل صريح للغاية. لا، بل إن السخرية وصلت حدا غير مسبوق عندما «تجرّأت» حتى على المناسبات الوطنية فتظهر في بعض الفقرات كل رجال الدولة وهم يجيدون الرقصة الشعبية «الدبكة» بسبب كثرة مناسبات الدولة واضطرار كل المسؤولين إلى الرقص أمام العامة تعبيرا عن «فرحهم» البالغ مثلا بالحركة التصحيحية أو حرب تشرين.. إلخ!
في المثال السوري، رأينا انتقال الموضوعات من البطل الإيجابي، إلى الشخصية التاريخية، إلى الأزمات الاجتماعية. كما كنا نرى في مصر مثلا التركيز على مشاهد خلابة في الأفلام كترويج سياحي، ومثله الأثر التاريخي الفرعوني، وكذلك في الفترة الناصرية التي حفلت بتوجيهات البطل الإيجابي هي الأخرى كالفلاح والثورة على الطبقة الثرية القديمة واستلهام شخصيات من قاع المجتمع كبديل عن شخصيات فوقية ثرية بعيدة عن مجتمعها. وأيضا في ثمانينات الدراما المصرية التي حفلت، مثلا، بإلقاء الضوء على دور رجل الأمن في حماية المجتمع، وسوى ذلك من قضايا معالجة الإرهاب وتسليط الضوء على مرجعياته، حيث اشتهر في هذا المجال السيناريست وحيد حامد الذي أعلن غير مرة أنه طلب إليه تأليف أعمال تتعرض للإرهاب، مما حدا بخصومه إلى التشهير به ووصفه بأنه «كاتب الحكومة»!
إلا أن اللافت ليس توجيه الدراما، فهو أمرٌ يحصل حتى في أقوى حواضن السينما في العالم كهوليوود. بل اللافت في أن سطوة شهرة نجوم الدراما خفتت كثيرا في بلدان الربيع العربي، حتى ليتساءل المرء عن سبب خفوت شهرتهم وقلة احتفال الناس بهم.
هل يعود السبب في أن الناس سئمت التعامل الدوني مع النجم بصفته رمزا أعلى؟ أم أن الناس كانت تنظر إلى نجوم الدراما على أنهم من حاشية الحاكم؟ أم أن الحراك السياسي أقوى من لحظات تزجية النفس والتسالي فانصرف الناس عن نجوم السينما والدراما ليقعوا في غرام النجم السياسي الحالي الذي يظهر كل أيام الأسبوع على شاشات التلفزة وبات ظهوره أكثر من ظهور أي نجم في الأفلام والمسلسلات؟!
[blockquote]
في الواقع، تميل هذه القراءة إلى الاحتمال الأخير، حيث حاجة الشاشات إلى السياسيين والمحللين باتت تفوق حاجتها إلى نجوم سينما. فمن جهة لا يمتلك هؤلاء النجوم القدرة على التحليل السياسي. ومن جهة ثانية لا ينتمي نجوم السينما إلى تيار سياسي بعينه، عموما. وكذلك فإن السياسي مطلوب ومنشغل إلى درجة أن بعض المحللين لا يجدون وقتا للانتقال من فضائية لأخرى بسبب شدة الطلب عليه هو أو سواه. وأكبر مثال على ذلك هو برنامج الفنان هاني رمزي على شاشة «إم بي سي»، حيث أغلب ضيوفه من السياسيين، في إشارة إلى أنهم هم الذين خطفوا الأضواء من أمام نجوم الدراما والسينما، والذين باتوا يمرون في الشارع، وتقريبا، لا أحد يعبأ بهم، وذلك حصل في المشاهدة العينية، عندما بتنا نرى نجما سينمائيا أو نجمة، في التسوق أو الشارع، ولا يتلقون أي كلمة إعجاب من معجب! بينما يحتفل الناس مثلا، بمرور كاتب وسياسي كإبراهيم عيسى كما لو أنه عادل إمام في عز شهرته.. لا، بل إن شهرته وتودد الناس إليه وتقربهم منه فاقت ما كان يحصل مع أي نجم سينمائي. هذا يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن السياسي والصحافي بات يمتلك جاذبية تفوقت على جاذبية السينمائي.
[/blockquote]
في ثورات الاشتراكية وقع الناس في غرام المعلم وضابط الجيش والفلاح، وفي ثورات الربيع العربي وقع الناس في غرام السياسي والصحافي والمحلل والكاتب. في الغرام الأول ولدت بطولة النجم، وفي الغرام الثاني، بطولة القلم. البطولة الأولى ذاتية، الثانية موضوعية. الأولى تتم صناعتها بالملليمتر، والثانية تأتي هكذا بالموهبة والجرأة والثقافة. الأولى حاجة سلطوية، والثانية حاجة مجتمعية.
من غرام الوجه، إلى غرام الفكرة، تتنقل أهواء المشاهد العربي. إلا أن البطل القديم لا يزال محافظا على سحره وجاذبيته، وذلك من خلال الشاشة ذاتها!! ذلك أن نجم الفكرة، ونجم الفيلم، يتحركان أمام الناقل ذاته وبكل مقاييسه: الكاميرا. مما يوحي بأن بطل تسريحة الشعر أو القامة الممشوقة، هو بمعنى ما، ذاته بطل القلم وبطل الفكرة وبطل الموقف! والقضية أن شخصية المحلل السياسي، مثلها كبطل السينما، تخضع لآلية العرض والطلب، ومن ثم التلميع والتركيز والتكرار. ولعل المحلل السياسي أفاد من الشاشة أكثر بكثير مما أفاد منه النجم السينمائي، على الأقل لناحية المصداقية، فنجم السينما مهما زادت شهرته، فهو يبقى «ممثلا» أما المحلل السياسي فيفيد من «جدّية» موضوعه فيكسب عنب السينما وبلح الواقع، في حلقة واحدة وفي ظهور واحد. إلا أن السؤال الذي يستحق التأمل ونختم به ونستنتج منه هو: ألا يكون المحلل السياسي ممثلا أيضا، عندما يتنقل من حزب إلى حزب، ومن نظام إلى نظام، ومن رئيس ديكتاتوري قديم إلى رئيس ديكتاتوري جديد؟!
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.