الأمر لم يتوقف عند البعد النقدي الحازم ضد المنتج الأدبي لكثير من هؤلاء الكتّاب، بل إلى نوعية الأعضاء ومراتبهم الاجتماعية والوظيفية. لقد تبين أن عددا غير قليل من المنتسبين إلى اتحاد الكتاب العرب في دمشق هم على رأس عملهم في سلك الشرطة أو في قطاعات الجيش النظامي، ومنهم من كان يتبوأ أرفع المناصب في الدولة!
كثيرٌ من الموظفين في الدولة السورية كان لديهم ميلٌ لإنتاج الأدب، وإن بحدوده الدنيا على المستوى الجمالي أو النقدي. إلا أن المثير للسخرية المرة أن الأدباء كانوا يُزاحَمون حتى في بيتهم الرسمي الوحيد والمرخّص له وهو اتحاد الكتّاب العرب.
النفط السوري ينام على مقاعد الشعراء!
كانت الأمور حتى بداية منتصف التسعينيات من القرن الماضي تمر بشكل هادئ وعادي، ولا يعكر صفو عمل اتحاد الكتاب إلا مقالٌ معارض هنا أو قصيدة تهزأ بالحاكم أو النظام، وسوى ذلك. إنما تغيّرت المسألة بعيد توقيع اتحاد الكتاب العرب اتفاقا ماليا ضخما مع شركة الفرات للنفط، تقوم بموجبه الشركة النفطية بدفع مبالغ طائلة للاتحاد مقابل أن تشغل الشركة في المبنى الطابقين العلويين منه، مع الإشارة إلى أن مبنى اتحاد الكتاب العرب في دمشق مبنى ضخم ومرتفع ويقع على شارع أوتوستراد المزة الشهير بسفاراته ووزاراته ومسؤولية القاطنين وبعض من نخبة المجتمع السوري، بصفة عامة.
بعد امتلاء خزنة الاتحاد بالمبالغ المالية الكبيرة، تغيرت الأمور نحو الأسوأ، وبالتدريج، أكثر مما كانت عليه في السابق. وكان وقتها الدكتور علي عقلة عرسان يشغل منصب رئيس اتحاد الكتاب العرب، وهو للأمانة شخصٌ نزيه وصادق في التعامل ويمتلك حسا إداريا نجح فيه بخلق توازنات تضمن على الأقل الحد الأدنى من حرية التعبير وحماية الأدباء من بطش السلطات وقمعها. وللتاريخ، فهو القائل: «سيأتي وقت على البعثيين ولن ترى منهم واحدا» قاصدا الانتهازية والانتماءات الوقتية المصلحية. ونجح توقعه في العراق والآن في سوريا، حيث اختفى البعثيون هناك كما يختفي الباذنجان السوري الأسود في فصل الشتاء!
الخوفُ صديقا والنصُ ملجأً..
توالت طلبات الانتساب إلى الاتحاد بغزارة غير مسبوقة، خصوصا بعدما نجح رئيس الاتحاد، وقتذاك، وهو علي عقلة عرسان، بإقامة جمعيات سكنية رفيعة المستوى للكتّاب في منطقة مشروع دمر السكنية، وهي إحدى ضواحي دمشق الفاخرة. كان عرسان متهما بعلاقته مع النظام في سوريا، وقامت الدنيا ولم تقعد عليه عندما قام اتحاد الكتاب العرب بفصل أدونيس من لوائحه بسبب حضور الأخير لمؤتمر إسرائيلي - عربي، أذكر أنه ما عُرِف بمؤتمر كوبنهاغن. مع العلم أن أغلب الذين دافعوا عن أدونيس كانوا من الذين صوّتوا في الاقتراع لفصله من الاتحاد! لقد كان تصويتا برفع اليد ولا أحد يستطيع التنصل من رفعها أبدا، والكل يعلم ذلك.
طالت هذه المقدمة، بعض الشيء، لمنح السياق مصداقية وثائقية معينة، للقول إن وفرة الكتاب، في لوائح اتحاد الكتاب العرب، بدمشق، كانت لافتة ومثيرة للسخرية في آن واحد معا. حيث كانت لنا ملاحظة، وقتذاك، بأن كثرة هذا العدد من المؤلفين، وكذلك الميول المتضخمة لمحاولة إنتاج الأدب، سببه الوحيد هو ضعف الحراك السياسي في سوريا، أو انعدامه في أغلب الأحيان. فغياب حرية التعبير وتقييد الحريات والرقابة السياسية الصارمة على إنتاج النصوص، وكذلك رد فعل النظام العنيف على أي نص ناقد له ولو تلميحا، وأيضا الخوف المفرط من قوة النظام التي تربعت صدر السوريين بعنف وغلظة؛ لقد كان السوريون يعيشون خوفا داخليا رهيبا من بطش أجهزة الاستخبارات مفتوحة الصلاحيات، وكان رجل الأمن مهما قل شأنه ورتبته قادرا على جرّ قرية كاملة من عنقها وسحبها إلى الاعتقال، دون أي مبالغة.
لقد كان الخوف صديق السوريين الوحيد، هو الذي يسيرهم ويحدد خياراتهم وتفكيرهم وسلوكهم. ولا نقول هذا الكلام بطولةً، طبعا، فليس الآن هو وقت البطولة بعدما انتهى النظام هناك، وإن لم يسقط، بل نقول للسياق التاريخي ولفهم ظاهرة وفرة العدد الكبير من الكتاب والشعراء السوريين، الذين وجدوا ضالتهم في محاولة إنتاج الأدب، هربا من خوفٍ قارس يلتحم بلاشعورهم كما يلتحم الماء بالماء.
الدليل على ما كنا ذهبنا إليه، منذ أول تسعينيات القرن الماضي، في القول إن الخوف هو الأب الروحي لهذا العدد الوفير من منتجي النص الأدبي، هو ما يحصل الآن في تطورات الشأن السياسي، سواء في سوريا أو مناطق عربية عديدة، لقد تضاءلت محاولات النشر الأدبي وقل عدد كاتبي الخواطر أو «القصائد» في شكل كبير. لقد ذهب أغلب هؤلاء إلى الإنترنت الذي ينتظرهم بفارغ الصبر للتعبير عن مكبوتهم السياسي وميولهم الثقافية والاجتماعية المتعددة.
هل القصيدة مخيم للاجئين؟
عملت شبكات التواصل الاجتماعي على تخفيف الضغط عن الصفحات الثقافية للدوريات العربية (!) هذه الصفحات التي كانت مضطرة لسبب أو لآخر للنشر لهذا أو ذاك وإن تحت عناوين «إبداعات شبابية» أو «إبداع الشباب» أو ما سوى ذلك من عناوين لمنح شرعية لنص أدبي مخلخل أو ركيك أو مجرد خاطرة. هو ما حصل مع السوريين الذين يتهافتون الآن على شبكات التواصل الاجتماعي لمتابعة مشروع تحطيم وثن الخوف الذي سرطن عقلهم الباطن. فقد كان حتى كتاب أصل الأنواع لدارون مثارا للشبهات كونه يمهّد لاعتناق الشيوعية، وكان رجال الأمن ينصحون الآباء بمنع هذا الكتاب من الدخول إلى بيوتهم كي لا يغرر بأولادهم ويجرفهم إلى منظمة العمل الشيوعي أو التيارات الماركسية الأخرى!
ما أخفاه الخوف أظهرته الشبكة العنكبوتية، قد يخرج منتجٌ مشوَّهٌ أو نصٌ ضعيف مخلخل، قد نلمح هبوطا في مستوى التخاطب، إلا أن الرائع أن الرعب مات، أن الجنوح إلى إنتاج نص أدبي وإتخام الصفحات الثقافية، قد ولى إلى غير رجعة. وإذا كانت مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي قد أنتجت مئات الأدباء فإن سوريي الألفية الثالثة سيحددون خيارهم الأمثل، مهما بلغت درجة العنف ومهما بلغ الدمار ومهما قيل وسيقال: الأدب السوري – والعربي - القادم سيكون أدبا حقيقيا صرفا، لم يحدده خوفٌ، ولم يكتبه مرعوبٌ مكبوتٌ يتحطم من الداخل كلما رأى سيارة الأمن العسكري تمر أمامه..
سقوط الخوف وزوال الإحساس بالهامشية واحتقار الذات، في كثير من بلدان «الربيع العربي» سيكون مؤثرا في شكل خاص على الأدب، إذ سيتخذ طريقا اختياريا لا إجباريا، وسيكون الصمت فيه هو الأداة الفنية التي اختفت من صانعي النصوص بعد عقود «صوت المعركة» و«النضال» و«تغيير العالم». ولو أن فاتورة الربيع العربي تبدو مرتفعة بعض الشيء هنا أو هناك، إلا أن منتج النص سيكون الرابح الأكبر! وسيكون فضل الإنترنت على الأدب العربي كبيرا كما كان دور المتنبي في الشعر العربي كبيرا، إذ خلّص الأدب من الهاربين اللاجئين إلى النص، كما لو أن القصيدة مخيم للنازحين أو وكالة لتقديم الغوث!