أثناء عملية تسليم الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط العام الماضي لإسرائيل، التقطت له صورة شهيرة وهو محاط بمجموعة من الرجال المصريين، باعتبارهم وسطاء في إتمام الصفقة، وأثير التساؤل عن كنه ذلك الرجل الذي بدا في الصورة مرتديا الجينز، ويمسك بيد شاليط ويسلمه للطرف الإسرائيلي.. ولم يكن هذا الرجل سوى وكيل المخابرات المصرية آنذاك، اللواء محمد رأفت شحاتة، الذي ترأس عرش ذلك الجهاز الخطير فيما بعد، ليظهر في اللقطة الثانية بالملابس الرسمية، أثناء أدائه اليمين الدستورية.
لم يكن مشهدا مألوفا حينما شاهده الملايين على الشاشات المصرية والعربية، يؤدي اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية بشكل علني، وأمام العدسات وتحت الأضواء الكاشفة، في واقعة غيرمسبوقة بالنسبة لمن يتولون هذا المنصب الحساس.
على مدار عقود طويلة تجاوزت النصف قرن بكثير منذ إنشاء جهاز المخابرات المصرية، كان صاحب منصب مدير المخابرات مجهولا للأغلبية العظمى من الناس، ولا يعلمه سوى المتخصصين والمقربين من دائرة صنع القرار. وكان هناك تكتم حول هذا الموضوع، بل كان الحديث عن رجال المخابرات من المحرمات التي يحظر الاقتراب منها، وعادة ما كان يكتفى في مثل هذه المناسبات بنشر خبر مقتضب عن تعيين مدير جديد للجهاز الأشهر والأخطر في تاريخ مصر المعاصر.
لذا فوجئ المصريون بظهورمدير مخابراتهم الجديد على الشاشة، وهو يؤدي القسم، لأنه أمر لم يعتادوا عليه. ويعد اللواء الراحل عمر سليمان مدير المخابرات الوحيد الذي اقترب من دائرة الضوء، خاصة في أواخر عهد الرئيس السابق مبارك، قبل أن يعينه نائبا له أثناء أحداث ثورة يناير المصرية.
كاتم أسرار عمر سليمان
وإذا كان البعض قد وصف اللواء محمد شحاتة بأنه كاتم أسرار عمر سليمان وذراعه اليمنى، فإنه يبدو أن رئيس المخابرات الجديد سيظهركثيرا مثل عمر سليمان، ولن يكون مجهولا كباقي رؤساء الجهاز السابقين، وذلك بعد أن عرفت الأضواء طريقها إليه مبكرا، حتى قبل أن يتولى إدارة الجهاز، من خلال ظهوره الإعلامي في أكثر من حدث سياسي، كان أشهرها ظهوره في تلك اللقطة التاريخية مع الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط بعد الإفراج عنه من قبل حماس، لتسليمه إلى الجانب الإسرائيلي، مقابل الإفراج عن أكثر من ألف سجين فلسطيني في صفقة مثيرة للجدل، كان اللواء شحاتة مهندسها الرئيسي. كما ظهرعلنيا من قبل عندما ترأس الوفد المصري الأمني في قطاع غزة عامي 2005، و2006، مع اللواء محمد إبراهيم، حيث منحهما الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن نوط القدس، تقديراً لجهودهما في خدمة الشعب الفلسطيني.
الظهور العلني لمدير المخابرات المصرية الجديد أثناء القسم، لم يكن هو السبب الوحيد لإثارة الجدل حوله، وإنما كان ظهوره ومعه المصحف الشريف، واضعا يده عليه أثناء تأدية اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية، وبمنطوق مختلف للقسم بعد أن أضاف إليه عبارة الولاء لرئيس الجمهورية، أثار جدلا واسعا في كل الأوساط، ورفع درجة حرارة التوتر بينه وبين العلمانيين والليبراليين، الذين اعتبروا تصرفه ذلك بمثابة مؤشرعلى تحولات في توجهات الدولة المصرية نحو أسلمة أجهزتها، بما فيها جهاز المخابرات في ظل حكم رئيس إخواني.
شفافية ووضوح
الرفض وعدم الارتياح من قبل بعض القوى السياسية المصرية يواجهها "كاتم أسرار عمر سليمان والذراع اليمنى له" خاصة من قبل مناهضي التيار الإسلامي الذين يعتبرون محمد شحاتة مقربا من الإخوان سيما بعد مشهد القسم، إلا أن محمود حسين الأمين العام لجماعة الإخوان المسلمين نفى ذلك، مؤكدا أنه لو أراد الإخوان المسلمون أخونة المخابرات، لأتوا برئيس مخابرات من الجماعة، وأن الاختيار، كما قالت الرئاسة، جاء بناء على كفاءة الرجل وخبراته الكبيرة. كما صرح محمد فؤاد جاد الله المستشار القانوني للرئيس المصري أن الظهورالعلني لمدير المخابرات المصرية، هو بداية لمرحلة جديدة من الشفافية والوضوح والتطور في دور المخابرات العامة.
وعلى الجانب الآخر يرفض كثير من الإسلاميين شحاتة بحكم كونه كان مقربا من عمر سليمان ـ الذي اتهم بأنه كان من فلول النظام السابق - وبسبب علاقته القوية بإسرائيل. ومن ثم يبدو الأمر كما لوكان هناك رفض للواء شحاتة من كل الأطياف السياسية المصرية.
[caption id="attachment_55239322" align="alignright" width="225"] عمر سليمان[/caption]
إلا أن فريقا ثالثا مؤيدا للرئيس المصري يعتبر اختياراللواء محمد شحاتة مديرا للمخابرات المصرية قرارا حكيما، بحكم علاقته القوية بطرفي السلطة الفلسطينية حماس وفتح، وكذلك لقدرته على التعامل مع إسرائيل وملف الصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام، مستشهدين في ذلك بنجاحه في عقد كثير من اتفاقات المصالحة وإبرام الصفقات الأمنية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وعلى رأسها صفقة شاليط.
كما يرى المحللون من أنصار هذا الرأي أن الاختيار جاء بسبب ما يتمتع به اللواء شحاتة من قدرات ذاتية على الإقناع وفض الاشتباكات ونزع فتيل الأزمات بهدوء وسرية شديدة تضمن تحقيق النتائج المرجوة، وهو ما بدا واضحا في دوره الكبير في نزع فتيل أزمة إضراب الأسرى الفلسطينيين عن الطعام في مايو (أيار) الماضي.
بداية درامية وأحداث دموية
البداية الدرامية والأحداث الدامية التي دفعت به إلى منصب مدير المخابرات المصرية، لم تكن تخطر ببال ضابط المخابرات الصغير، وهو في بدايات مشواره، حينما عمل في لندن عامين، قبل أن يعمل لفترة في مركز الدراسات الاستراتيجية بمصر، ويكون مسؤولا عن العديد من القضايا الحساسة، وهذا ما أكسبه خبرة مهمة، وأهله للعديد من المهام الصعبة التي أداها باقتدار كرجل مخابرات. فلم يكن يتوقع وكيل المخابرات السابق أن يتولى بين يوم وليلة، مهام عمل رئيس المخابرات المصرية، بعد تنحية اللواء مراد موافي عقب حادث رفح الشهير، الذي راح ضحيته 16 شخصا في شهررمضان الماضي، حتى صدر القرار بتعيينه رسميا في شهر سبتمبر (أيلول) مديرا عاما للمخابرات المصرية بعد سنوات طويلة من الخبرة العلمية والعملية في مختلف المسائل الأمنية والقومية والسياسية. الأمرالذي يجعل الكثيرين يعولون عليه في تحريك المياه الركدة، فيما يتعلق بقضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، لا سيما في ظل عمله الطويل في هذا الملف الشائك والمعقد.
ارتياح عام
على الصعيد الإسرائيلي، أعرب المسؤولون عن ارتياحهم لاختيار شحاتة مديرا للمخابرات المصرية، ووصفوه بأنه أحد أهم وسائل التهدئة مع الفلسطينيين وأهم الوسطاء فيما بينهم. وعلى الجانب الغربي تتوسم فيه الحكومات الغربية، القدرة على كسرالجمود المصري تجاه اسرائيل. أما الفلسطينيون فهم راضون أيضا عن شحاتة، خاصة بعد مواقفه السابقة معهم ومساعدته لهم في موضوع الأسرى والسجناء وقربه من حماس. كما أنهم يستشعرون ما يحمله لهم من مشاعر طيبة، إيمانا منه بحقوقهم، وكانت كلماته أمام الرئيس أبو مازن لحظة تكريمه، حين قال إنه مهما بذلنا من جهد، فإنه لا يعوض قطرة دم من طفل فلسطيني، وأن القضية الفلسطينية في قلب كل مصري، رسالة طمأنة للفلسطينيين.
اختبار صعب
الجدية والصرامة والثقة والاحترام من الجميع.. سمات تميز شخصية اللواء محمد شحاتة، وتحمل الأمل وحسن الظن في مدير المخابرات المصرية الجديد.
إلا أن اختبارا صعبا مطلوب أن يتجاوزه مدير المخابرات المصري يتعلق بكيفية المواءمة بين التوجه السياسي لرئيس الدولة الحالي وحكومته، وبين الحفاظ على الاستقرار والتوازن في الملفات المصرية والعربية الشائكة، خاصة فيما يتعلق بالصراع العربي ـ الإسرائيلي.
أسابيع قليلة مرت على توليه منصبه الحساس يصعب تقييم أدائه خلالها، ويبقى القول إن المهمة لن تكون سهلة أمام رجل المخابرات الكبير في قيادة جهازحساس تحت رئاسة رئيس من الإخوان. ويبقى السؤال هل كان الرجل ذكيا حينما أقسم بتلك الطريقة لطمأنة الإخوان إليه، أم أنه سيثير القلق بدعم سياسات تميل للتوجه الإسلامي بشكل عام؟ وهل يمكن حدوث صدام متوقع في الفترة المقبلة حينما تنكشف الأموروالنوايا؟!
هذا ما ستكشفه الفترة المقبلة.