كانت تلك الانتصارات الاقتصادية لبكين صادمة بالنسبة للعديد من السياسيين داخل الكونغرس الأميركي وفي مجتمع السياسة الأوسع. فعلى الرغم من أن الهيمنة الاستراتيجية للصين على الموارد المهمة في الأسواق الناشئة لم تكن خفية، كانت هناك تساؤلات حول كيف تستطيع دولة لم تساهم في تحول أفغانستان أن تفيد من ثرواتها المعدنية؟ وكيف للدولة التي ساهمت أكثر من أي أحد آخر أن تسمح لها بفعل ذلك؟
ولكن لا يجب أن يكون الأمر مفاجئا، فالحقيقة أن الولايات المتحدة كانت تفتقر منذ فترة طويلة حتى للمظاهر الخارجية لاستراتيجية للتنافس مع الصين في الأسواق الناشئة. ومن ثم، تتعرض الشركات الأميركية بصفة دائمة للهزيمة على يد نظيراتها الصينية في آسيا الوسطى، والشرق الأوسط، وأفريقيا، بل وحتى في أميركا اللاتينية. ولا تقدم الحكومة الأميركية للشركات الأميركية الحد الأدنى من المساعدة فقط، بل إن القيود المتشددة التي تفرضها ومتطلبات المراجعة تثبطان في بعض الأوقات من عزيمة الشركات الأميركية لدخول أسواق جديدة. وبعيدا عن الطنطنة الاعتيادية، لم يظهر صناع السياسة الأميركيون حتى الآن رغبة في حشد القوة الحكومية نيابة عن القطاع الخاص.
ويشترك كلا الحزبين في تلك الكراهية لدبلوماسية الشركات رغم اختلاف الدوافع وراء تلك الكراهية. حيث يخشى الليبراليون أن يمتد نفوذ الشركات إلى الحكومة، فيما يرفض المحافظون تدخل الإدارة الفيدرالية في السوق الحرة. وإلى حد معين، فإن لتلك المخاوف ما يبررها، حيث إن دفاع واشنطن المستميت عن القطاع الخاص ربما يتحول إلى إمبريالية اقتصادية ويثير الاستياء في الخارج.
ولكن الأسواق الناشئة تقدم استثمارات مرتفعة العائدات ومدخلا للموارد الطبيعية الحيوية التي لا تستطيع الولايات المتحدة أن تتغاضى عنها، بالإضافة إلى الفرص الواعدة بتعميق العلاقات مع الدول ذات الأهمية الاستراتيجية. ولم يعد بإمكان الحكومة الأميركية أن تجلس ساكنة فيما تهيمن الشركات التابعة للحكومة الصينية على سوق ناشئة تلو الأخرى. فإن فعلت ذلك، فسوف يفقد قطاع المال والأعمال الأميركي العديد من تلك الأسواق في المستقبل القريب، مما يضر بالمصالح الاقتصادية والجيوسياسية للبلاد.
ولكن اللعبة لم تنته بعد، حيث إن استياء العديد من البلدان النامية من الممارسات المالية الصينية في تزايد مستمر. وفي الوقت نفسه، يبدو أن الولايات المتحدة قد فهمت أخيرا أبعاد المشكلة. ومن ثم، أصبح الوقت ملائما لكي تتغلب الولايات المتحدة على ترددها في ممارسة الضغط لصالح الشركات الأميركية وإعادة التفكير في الطريقة التي يمكن أن تساعدهم بها بالخارج.
ولم تكن الحكومة الأميركية دائما بمثل ذلك التحفظ في الترويج لمصالحها التجارية بالخارج. فقد أمر الكونغرس عام 1794، في محاولة للدفاع عن السفن التجارية في مواجهة القرصنة في البحر المتوسط، بنشر ست فرقاطات «كافية لحماية تجارة الولايات المتحدة»، وهو ما أصبح لاحقا البحرية الأميركية. وسرعان ما تم إرسال تلك السفن لمهاجمة قراصنة شمال أفريقيا وتحرير التجار الأميركيين. وقد قامت البحرية الجديدة بحماية السفن التجارية الأميركية من القراصنة الفرنسيين في الكاريبي. وخلال معظم القرن التاسع عشر، كانت فرق البحرية الأميركية تمشط البحر المتوسط، والكاريبي، والمحيط الهادي وساحل أفريقيا وتمنع أعداء الولايات المتحدة من عرقلة سير بضائعها.
بل وقد اتخذت الحماية الأميركية جولة أكثر عنفا في بداية القرن العشرين، عندما تبنت الحكومة «دبلوماسية الدولار» باعتباره المبدأ الحاكم للسياسة الخارجية. وشجعت واشنطن المستثمرين الأميركيين على إرسال رؤوس الأموال إلى الخارج والبلدان الأجنبية لكي تظل منفتحة ومرحبة بالأعمال الأميركية. كما أقرضت المال للحكومات الأجنبية بمعدلات سخية، وطلبت أن يقدموا في المقابل معاملة خاصة للشركات الأميركية. بل وقد استخدمت القوة العسكرية في بعض الأحيان لكي تدفع الدول لتبني سياسات تجارية مقبولة: فقد فرضت البحرية الأميركية بالتعاون مع المارينز، سياسة «الباب المفتوح» التي ضمنت أن تظل الصين، بثروتها المعدنية الكبيرة، وفرص إقامة مشروعات بناء عملاقة، متوائمة مع مصالح الشركات الأميركية.
في تلك الأيام الأولى، شجعت واشنطن الشركات الأميركية على أن تقيم مشروعاتها في أجزاء بعيدة جدا من العالم، وكانت تلك الشركات تعتمد دائما على حكومتها في الدعم الدبلوماسي، بل والدعم العسكري في بعض الأحيان. ولكن في النصف الثاني من القرن العشرين، انتقلت الأولويات الأميركية إلى تعزيز العلاقات بين البلدان الغربية واحتواء الاتحاد السوفياتي والحفاظ على الاستقرار العالمي. واحتل الترويج للمصالح التجارية مرتبة ثانية. أما بالنسبة للقطاع الأميركي الخاص، وعندما انقسم العالم إلى منطقتين للنفوذ إحداها أميركية والأخرى سوفياتية، أصبحت الأسواق برمتها خارج السياق. بل وأصبحت الحكومة الأميركية أقل اهتماما بالدبلوماسية التجارية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. فقد شعر الزعماء الأميركيون بأن نفوذ الحكومة لم يعد ضروريا لتعزيز مصالح القطاع الخاص، وأن الولايات المتحدة، باعتبارها القطب الأوحد في العالم، تسمو فوق ذلك النوع من الترويج للذات.
ولم يظهر ذلك التردد الأميركي إلا خلال حربي أفغانستان والعراق. فقد ذهبت إدارة جورج بوش - التي كانت تسعى لنفي المزاعم المتعلقة بأن كلا الغزوين كانا بتشجيع من الشركات ذات الصلات السياسية - أبعد من ذلك بوقف المبادرات التي قضت على الترويج المالي للولايات المتحدة الأميركية. وعندما عرضت أفغانستان صفقة مخزون النحاس بمنجم «أيناك» في 2007، ذكر الرئيس الأفغاني حامد كرزاي، في لقاء مع بوش، أن الشركة الأميركية قدمت عطاء وأنه يتمنى أن تتمكن الشركة «من تحقيق النجاح» في العملية.. وهو يمثل أسلوبا دبلوماسيا يعرب به عن تأييده. فانتفخت أوداج بوش وأخبر كرزاي بأن كل ما يهم الولايات المتحدة هو المنافسة التي تتسم بالشفافية. وبخلاف ذلك، فإن تحديد الفائز أمر يرجع إلى أفغانستان.
وبالطبع، فإن هناك جاذبية متأصلة لفكرة أنه على الولايات المتحدة أن تركز على الشفافية وأن أي شيء بخلاف ذلك لن يكون ملائما. ولكن منافسي البلاد - الصين، والهند، وروسيا، وأوروبا - كانوا يتدخلون بالفعل. فقد كان ذلك القيد الأميركي، رغم أنه ذو مغزى، أحادي الجانب ومن ثم فإنه أصبح عاملا سلبيا بالنسبة لها في الأسواق الناشئة التي تتداخل فيها السياسة والمال والأعمال في كل خطوة.
التخلف
ربما تكون واشنطن ضعيفة في الترويج المالي، ولكن بكين أصبحت خبيرة في ذلك. فمن خلال تبنيها لسياسات تماثل تلك السياسات التي تبنتها الولايات المتحدة في بداية القرن العشرين، قضت الصين العشرين عاما الماضية وهي تبحث بدأب عن كافة الفرص المتاحة في آسيا الوسطى، والشرق الأوسط، وأفريقيا، وتستخدم عددا من الخطوات التكتيكية في تلك العملية.
وأولى الخطوات التكتيكية التي تستخدمها بكين هو استخدام احتياطيها الهائل من العملة الأجنبية لتقديم قروض منخفضة الفائدة أو غيرها من أشكال التمويل للحكومات في العالم النامي، وعادة ما كان ذلك يتم في مقابل الوصول للموارد الطبيعية وعقود البنية التحتية. وخلال تلك العملية، أصبحت بلدان الأسواق الناشئة معتمدة على الحكومة الصينية فيما يتعلق باستمراريتها الاقتصادية. وتدرك الصين ذلك ولا تخجل من الإفادة من تلك القوة للحصول على عقد مربح، وتحديد شكل مبيعات المورد، أو الإطاحة بالشركات الغربية. وقبل أن تمنح الدول النامية حقوق التنقيب أو مشروعات البناء لها، كانت عادة ما تتدخل الصين وتدعم شركاتها من خلال وزير الخارجية أو في بعض الأحيان رئيس الوزراء.
كما تقدم الصين العون للشركات التابعة للدولة في عطاءاتها للموارد الطبيعية حيث تسمح لهم بتقديم شروط أكثر جاذبية مما تستطيع الشركات الأميركية تقديمه. وقد شاهدت ذلك بنفسي خلال العام الماضي، عندما كانت شركتي هي الشركة الاستشارية لشركة غربية تنافس شركة «المؤسسة الصينية الوطنية للنفط» على عدد من حقول البترول في شمال أفغانستان. حيث عرضت «المؤسسة الصينية الوطنية للنفط» 15 في المائة من كافة العائدات التي تأتي من تلك الحقول للحكومة الأفغانية وكانت مستعدة لأن ترفع تلك النسبة، بالإضافة إلى بعض الشروط الأخرى التي تجعل من المستحيل بالنسبة لشركة «المؤسسة الصينية الوطنية للنفط» أن تحقق عائدات من ذلك الاستثمار. ولكن ذلك هو حال العديد من الاستثمارات في الموارد الطبيعية التي تقوم بها الشركات التابعة للدولة الصينية، حيث إن تلك الشركات لا تسعى وراء المال، ولكن الحكومة الصينية ترغب في الحصول على تلك الموارد المهمة لدفع النهضة الاقتصادية للبلاد.
ومن التكتيكات الصينية الأخرى تكديس المشروعات الكبرى لتطوير البنية التحتية للموارد الطبيعية بعطاءات من الشركات التابعة للدولة. فعلى سبيل المثال، وعدت الحكومة الصينية عام 2008، في إطار عرض قدمته شركة تابعة للدولة في عطاء منجم «أيناك» للنحاس في أفغانستان، ببناء خط سكة حديد وعدد من الطرق الرئيسية في المنطقة. ولاحقا، وعندما كانت شركة «المؤسسة الصينية الوطنية للنفط» تنافس على موارد البترول في شمال أفغانستان، عرضت الصين بناء طريق ضخم ومحطة ضخمة لتكرير البترول، وهو ما سوف يتجاوز، بكافة الحسابات، ما يمكن أن يتطلبه الحصول على ذلك الاحتياطي. ولكن حكومة أفغانستان كانت سعيدة بقبول ذلك الاستثمار.
وقد أفادت تلك التكتيكات الصين إلى حد كبير. ففي أفريقيا، تزايد حجم التجارة والاستثمارات الصينية من نحو 10 مليارات دولار في السنة قبل عشرة أعوام إلى ما يزيد على 120 مليار دولار حاليا. وتتجاوز الشركات الصينية ما قيمته 50 مليار دولار من صفقات البنية التحتية هناك سنويا، حيث توقع عشرات من عقود الهيدروكربون والمعادن المربحة كذلك. كما تستهدف بكين آسيا الوسطى، التي تعمل كبرى الشركات الصينية التابعة للدولة فيها بسرعة على تعزيز حضورها حتى في البلدان التي تقع خارج دائرة النفوذ التقليدية للصين. ففي السنوات القليلة الماضية، على سبيل المثال، أقرضت بكين 4 مليارات دولار إلى تركمانستان في مقابل الحصول على حقوق تطوير أكبر حقول الغاز بالبلاد لمدة 30 عاما، وقدمت 10 مليارات دولار إلى كازاخستان في مقابل السماح لشركة صينية بشراء واحد من أكبر منتجي النفط بالبلاد، ودفعت كازاخستان وتركمانستان وأوزبكستان للموافقة على خط إنتاج كبير للغاز تعارضه كل من روسيا وأوروبا. وتاريخيا، تقع تلك البلدان في دائرة النفوذ الروسي، ولكن الصين منشغلة حاليا بإنشاء خطوط الأنابيب على أراضيها واستخراج البترول، والغاز، والنحاس، والحديد الخام، والليثيوم، والعناصر الطبيعية النادرة منها.
وليست الصين هي الدولة الوحيدة التي تستعين بالدبلوماسية التجارية النشطة، حيث دائما ما تلقي كل من البرازيل، والهند، وروسيا بالثقل السياسي وراء الشركات النافذة التابعة للدولة أيضا. وتتخلف الولايات المتحدة حتى عن أصدقائها الأوروبيين. فقد أعلن وزير خارجية المملكة المتحدة رسميا أن الترويج للشركات البريطانية يعد من أولى أولويات السياسة الخارجية، فيما كان يصطحب الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي باستمرار المديرين التنفيذيين لكبرى الشركات الفرنسية خلال رحلاته الدولية. وفي أسواق معينة، ينفق الدبلوماسيون الألمان معظم وقتهم في اصطحاب التنفيذيين بالشركات الألمانية إلى لقاءات مع المسؤولين بالحكومات الأجنبية ويعملون من الكواليس لكي يفتحوا الباب أمام الشركات الألمانية. وبالفعل، تستعين الحكومة الألمانية في آسيا الوسطى بشركات جماعات الضغط لكي تعمل إلى جانب الدبلوماسيين بها. وضمن أقرانها، تعد الولايات المتحدة هي الأقل جرأة في الترويج لمصالحها التجارية.
فرصة للمنافسة
ربما تكون بكين هي من اتخذ زمام المبادرة في الدبلوماسية التجارية، ولكن واشنطن تستطيع اللحاق بها إذا ما غيرت مسارها الآن. حيث يتزايد سخط العديد من الدول في العالم النامي من هيمنة الصين على اقتصاداتها، ويسعى البعض لتنويع علاقاته، وهي فرصة على الولايات المتحدة الإفادة منها. ففي اجتماعات خاصة، أقر مسؤولون من كازاخستان بأنهم بدأوا يفكرون في التنويع الاستراتيجي أثناء تقييم العطاءات الأجنبية المطروحة عليهم. وفي الوقت نفسه، استبعدت منغوليا الشركات الصينية من الاستثمار في العديد من حقول الفحم والنحاس لديها، كما تحاول التخلص من عقودها مع الشركات الصينية فيما يتعلق بموارد أخرى حتى تتمكن من التعاقد مع الشركات الغربية.
كما تزايد إحباط الدول النامية من الممارسات المالية الصينية. فقد اشتهرت الشركات الصينية بأنها تستعين بعمال من الصين بدلا من الاستعانة بالعمالة المحلية وتتجاهل الاعتبارات البيئية، كما أنها تستخدم تكنولوجيا متأخرة. وعندما يأتي الأمر إلى المشروعات الأقل أهمية، فإن تلك الشركات تفتقر في الغالب إلى الخبرة المناسبة، وذلك نظرا لأن المسؤولين الصينيين ينظرون إلى الأمر باعتباره فرصة لمنح تلك المزايا للشركات ذات البعد السياسي التي ربما تكون غير مؤهلة فنيا.
ولكي تصبح الأمور أكثر تعقيدا، تصبح الشروط الاقتصادية الجذابة التي تقدمها الشركات الصينية في بعض الأحيان مراوغة. فعلى سبيل المثال، ربما تقدم الشركة الصينية للحكومة نسبة أعلى من العائدات المستقبلية عن إيجار أحد حقول البترول مما تقدمه الشركة الأميركية (مثلا: 20 في المائة في مقابل 10 في المائة). ولكن الشركة الفائزة تستعين بتكنولوجيا أقل تطورا لخفض التكلفة، فمثلا، تلجأ الشركة إلى تكنولوجيا المسح الاهتزازي ثنائي البعد بدلا من ثلاثي البعد، أو تستخدم أبراج حفر عتيقة الطراز. ومن ثم، تسفر العملية عن استخراج كمية أقل من البترول مما تستخرجه الشركات الغربية، بل وربما تضر بالمخزون في نهاية الأمر. كما أن نسبة الـ20 في المائة تنطبق على جزء أصغر وربما تتطلب تكلفة أعلى في بعض الأحيان.
كما تستغرق الشركات الصينية أيضا وقتا أطول في استخراج الموارد مما تستغرقه نظيراتها الغربية. حيث تعمل معظم شركات البترول والغاز والتعدين الصينية نيابة عن الحكومة الصينية الأكثر اهتماما بتأمين قدرتها بعيدة المدى على الوصول إلى الموارد الطبيعية من تحقيق الأرباح. ولذلك، فإنها ربما تتحرك ببطء بغرض الحفاظ على المورد لوقت لاحق، عندما يتزايد الطلب الصيني عليه. وبالتالي، فعندما يتم تأجيل عملية التعدين أو الحفر لسنوات، فإن الدولة المضيفة لا تحقق أي عائدات على الإطلاق.
وتحاول الشركات الصينية، في بعض الأحيان، إعادة التفاوض على الشروط الأصلية للاتفاق بعدما ترسخ وجودها على الأرض. وعند تلك النقطة، يصبح من الصعب - سياسيا، وقانونيا، ولوجستيا - بالنسبة للحكومات المضيفة أن تلغي العقود وتبيع المورد لطرف آخر خاصة إذا ما كانت بكين تمارس ضغوطا إضافية خلال إعادة التفاوض.
وفي المقابل، من الصعب على الشركات الأميركية أن تنجو بمثل ذلك النوع من السلوكيات، حيث إنها تخضع لمجلس إدارة ومساهمين ويجب أن تعلن عن صفقاتها بشفافية مما يجعل من المستحيل أن تنتهك شروط تلك العقود التي وقعت عليها. كما أنها تستخدم تكنولوجيا متقدمة تستطيع أن تعثر على الموارد وتستخرجها وتتفادى بقدر الإمكان إلحاق الضرر بالاحتياطي والمناجم. وهي تتحرك تماما بدافع تحقيق الربح مما يجعل دوافعها تماثل تماما حوافز الحكومات المضيفة ويمنحها الدافع لتطوير تلك الموارد بسرعة.
وليس مفاجئا إذن أن دول الأسواق الناشئة تتوق للمزيد من الاستثمارات مع الغرب، خاصة مع الولايات المتحدة. فكما يؤكد أي رجل أعمال أميركي عمل في الأسواق الناشئة، يتوق المسؤولون هناك لمد السجادة الحمراء أمام الشركات والمستثمرين الأميركيين، فما زالت العلامات التجارية الأميركية قوية، وما زال ينظر إلى الشركات الأميركية في تلك البلدان باعتبارها المصداقية المطلقة للشرعية التجارية بالإضافة إلى كونها خطوة صوب علاقات أقوى مع الحكومة الأميركية نفسها.
التخلص من الروتين
لقد منحت الصين، عبر المراوغة، فرصة طيبة للولايات المتحدة لكي تنافس. ولكي تستغل الفرصة، يجب أن تعيد واشنطن تماما التفكير في الطريقة التي تروج بها لشركاتها في الخارج.
وهناك إشارات إلى أنها قد بدأت بالفعل تحقيق ذلك، فقد أكدت وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون «فن إدارة الاقتصاد» في خطاباتها الأخيرة، كما أنها استضافت في فبراير (شباط) الماضي مؤتمرا ليومين حول «دبلوماسية الوظائف»، قائلة: «لن نرتاح قبل أن تصبح الحكومة الأميركية النصير الأكثر فعالية للأعمال والتجارة في كل مكان». ولكن المسؤولين السابقين كانوا قد قدموا وعودا مماثلة، لكي يروا مبادراتهم الأولية وهي تنتهي بالفشل. فإذا ما كانت كلينتون تريد أن تتأكد من استمرار جهودها، سيكون عليها إعادة تقييم الدبلوماسية التجارية الأميركية على كافة الأصعدة الحكومية.
وعادة ما تأخذ حاليا وزارة التجارة زمام المبادرة في تسهيل الأعمال الأميركية بالخارج، ولكن يجب أن تشارك الأقسام الحكومية الأخرى، بما في ذلك وزارة الخارجية، كما يجب وضع خطة للتنسيق بين كافة الأطراف، حيث إن تلك الوزارات والمبادرات تتم على مستوى ضعيف، وتتعرض لعرقلة البيروقراطية من خلال العديد من المكاتب التي تعمل في بعض الأحيان لأغراض أخرى. بالإضافة إلى أن برنامج الحكومة الأميركية الذي يسمح للشركات الأميركية بأن تطلب مساعدة واشنطن في عمليات محددة هو برنامج معقد وصعب وعادة ما يسفر عن مجرد خطاب من وكالة أميركية لنظيرتها الأجنبية وبالتالي فإنه لا يقدم دعما نشطا. فهذه المبادرات المتعددة تحتاج إل أن تقتصر على مكتب واحد داخل وزارة الخارجية يمكنه تنسيق الجهود مع كافة الوكالات والوزارات.
كما يجب على واشنطن إعادة صياغة القواعد التي تمنع تفضيل شركات أميركية عن الأخرى. والمبدأ الإرشادي وراء تلك القواعد بسيط: فإذا ما كانت إحدى الشركات تتوافق مع أحد معايير التأهيل وهي الشركة الأميركية الوحيدة التي قدمت عطاء للمشروع، يجب أن تحصل على دعم الحكومة، أما إذا كانت هناك العديد من الشركات الأميركية التي تتنافس، فيجب على الحكومة أن تجد وسيلة أخرى للترويج لها جميعا بدلا من عدم الترويج لأي منها.
كما يجب أيضا على الدبلوماسيين الأميركيين أن يصبحوا أكثر نشاطا في دعم الشركات الأميركية. فاليوم، تخفق وزارة الخارجية بشكل عام في أن تعرض على الحكومات الأجنبية مزايا التعامل مع الشركات الأميركية والانسحاب من التعاون مع نظيراتها الصينية. فيجب أن يكون الترويج للمصالح التجارية الأميركية جزءا من التعريف الوظيفي لمهمة السفراء، ويجب أن يتم تقييمهم من خلال كيفية تنفيذهم لذلك. فيجب أن يبرز الدبلوماسيون التكنولوجيا المتفوقة للولايات المتحدة، والممارسات المالية، وأن يوضحوا أهمية التنويع الاستراتيجي، وخاصة، توضيح أن تقديم نسب عالية من العائدات لا يضمن في العادة تحقيق عائدات أكبر. كما يجب على وزير الخارجية شخصيا أن يلقي بثقله في المشروعات الكبرى.
كما يجب أن يقضي الدبلوماسيون بعض الوقت في إقناع الحكومات المضيفة بتقسيم الحقول المتنافس عليها بين الشركات الغربية والشركات الصينية. ففي الوقت الحالي، يتم عقد العديد من الصفقات على نحو مبسط، حيث يتم اختيار صاحب العطاء الذي يقدم أعلى معدل للعائدات، أو الذي يقدم أقل تكلفة في حالة مشروعات البنية التحتية. وعادة ما تفضل مثل تلك العمليات الشركات الصغرى التي لا تستعين بأي عمالة محلية. وتحتاج واشنطن لأن ترسل رسالة مفادها أنها عندما تفوز بالعقود، يجب أن يضع المسؤولون في اعتبارهم عوامل مثل البراعة التكنولوجية للشركة، وسجلها في الحفاظ على البيئة، وخططها لتوظيف العمالة المحلية.
[caption id="attachment_55238783" align="alignleft" width="199"] الاقتصاد الأميركي يتراجع[/caption]
ومن المناحي الأخرى التي يجب على الولايات المتحدة تحسينها هي شبكة القوانين والقيود المربكة والمعقدة. حيث إن قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة والذي يجرم رشوة المسؤولين الأجانب، وقسم مراقبة الأصول في وزارة الخزانة والتجارة الأميركية OFAC، والذي ينفذ العقوبات الاقتصادية، يضعان قيودا هائلة على الشركات الأميركية في الأسواق الناشئة. واليوم، لا تعرف الشركات عادة إجابة لأسئلة بسيطة مثل: ما الذي يؤهل شخصا ما للعمل كمسؤول بالخارج؟ ما مدى مسؤولية الشركة الأميركية عن أفعال شركائها المحليين؟ كيف تتكون المعلومات بوقوع عملية رشوة؟
وقد أصبحت الأمور أكثر إرباكا نظرا لأن إدارة أوباما قد قررت أن تعزز تطبيق قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة، حيث طبقت ذلك على عدد يماثل ضعف العدد في عامي 2009 و2010. فيجب على الحكومة أن تصدر إرشادات أكثر وضوحا فيما يتعلق بأنواع السلوك المحددة التي تخضع لتلك الضوابط، كما كانت قد قالت إنها ستفعل في وقت لاحق من العام الحالي.
وفي الوقت نفسه، يجب على الولايات المتحدة أن تحاول أن تجد سبيلا للحصول على المنفعة الاستراتيجية من تنظيماتها. فعلى سبيل المثال، يجب أن تدفع الولايات المتحدة البلدان الأخرى لأن تطلب من المتنافسين على مشروعاتها الالتزام بإجراءات صارمة لمكافحة الفساد وهو ما سيمنح الشركات الأميركية الملتزمة بالفعل ميزة على نظيراتها الصينية، حيث إن الشركات الصينية تعد بالفعل من بين أكثر الشركات فسادا في العالم، فقد أشار تقرير حديث لـ«الشفافية الدولية» إلى أن احتمالات تقديم الشركات الصينية للرشوة يفوق أي طرف آخر بخلاف نظرائها الروسية. أما بالنسبة للتنظيمات الأخرى التي تتعلق بكل شيء من البناء إلى الاتصالات، فعلى واشنطن أن تحاول تحويل المعايير الأميركية إلى قوانين دولية. فإذا فعلت ذلك، فإنها لن تساعد فقط البلدان النامية من خلال توفير أقوى وأفضل الممارسات، ولكنها سوف تقلب الموازين لصالح الشركات الأميركية التي تلتزم اضطراريا بتلك المعايير.
وأخيرا، يجب على الولايات المتحدة أن تسهل إقامة شراكة بين الشركات الأميركية والوكالات الحكومية التي تخصص المساعدات الخارجية، حيث دائما ما تنسق الشركات الصينية مع الحكومة الصينية لكي تقدم عروضا تجارية بمصاحبة مشروعات المساعدة ومن ثم فإنها تعزز القيمة المتوقعة لعطاءاتها. فعلى سبيل المثال، تنافس الشركة الصينية على منجم للفحم وتتعهد ببناء طريق سريع كبير في الوقت ذاته، حيث تتخذ تلك الاستثمارات في البنية التحتية شكل المساعدة ويتم تمويلها من قبل الحكومة الصينية. ومع ذلك، تستطيع الشركة الصينية أيضا أن تستفيد من بناء ذلك الطريق في أن تجعل العطاء يبدو أكثر جاذبية. ولكن من الصعب على الشركات الأميركية أن تقوم بالشيء نفسه، ويجب أن يتغير ذلك. فيجب أن تسمح وكالات المساعدة الأميركية لنفسها بالتنسيق أكثر مع القطاع الخاص، حتى تستطيع الشركات الأميركية الاستناد إلى مشروعات المساعدة خلال عطاءاتها أو أن يتم وضع العطاء مع عروض مشروعات التنمية التي تقدمها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في باقة واحدة. وعندئذ فقط، يمكن لواشنطن أن تحصل على القيمة التجارية من موازنتها للمساعدات.
لا وقت للخوف
للولايات المتحدة العديد من المصالح المتعارضة المتعلقة بالسياسة الخارجية: الأمن القومي، حقوق الإنسان، سيادة القانون، وغيرها. ولا تستطيع البلاد العودة إلى دبلوماسية الدولار عندما كانت جميع تلك المصالح خاضعة لذوي الشركات الكبرى. ففعليا، وكما يتضح من الصين نفسها، فإن تلك المقاربة ترتد على صاحبها.
ولكن بندول الساعة ذهب بعيدا في الاتجاه الآخر. فمنذ مدة طويلة، تجاهلت واشنطن تقريبا الدبلوماسية التجارية، وتنازلت عن العديد من المعارك الاقتصادية لصالح الصين. وكانت نتيجة مثل ذلك الجبن أن المنافس الواعد للولايات المتحدة تمكن من التهام حصة السوق في الأسواق الناشئة في جميع أنحاء العالم، وتأمين الموارد الاستراتيجية، والفوز بعقود البنية التحتية، وغرس رايته التجارية حتى في البلدان التي تعد من الحلفاء الأقوياء للولايات المتحدة. وتحتاج الولايات المتحدة لأن تجد وسيطا لطيفا يصبح من خلاله الترويج التجاري مرة أخرى من الأعمدة الرئيسية لسياستها الخارجية رغم كونه ليس الهدف الرئيسي.
لقد منح تراجع شعبية الشركات الصينية في العالم النامي فرصة للولايات المتحدة لكي تستعيد المبادرة في تلك الأسواق المهمة. وتتوق البلدان النامية للعمل مع الشركات الأميركية ومن ثم تحتاج واشنطن لأن تتخلص من الروتين الذي يعرقل هذه الشركات من أن تفعل ذلك. حيث إن أية إصلاحات تقابل في الغالب بمعارضة سياسية وبيروقراطية. ولكن ربما يساعد ضعف الاقتصاد الأميركي، إذا لم يساعد شيء آخر، في النهاية على إقناع زعماء البلاد بأن إجراء مثل تلك التغييرات قد تأخر كثيرا.
* ألكسندر بنارد: المدير الإداري لشركة «غريفون بارتنرز»، وهي شركة استشارية واستثمارية تركز على الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.