في 14 يوليو (تموز) 1958، وقبل أن يتم مسعود عامه الثاني عشر، قام مجموعة من ضباط الجيش بخلع الملكية الهاشمية، وهو ما سمح لأسرته بالعودة إلى العراق. ولكن قبل أن يمر وقت طويل، وقع خلاف بين عبد الكريم قاسم وبرزاني الأب، عادت أسرة برزاني على أثره إلى الشمال.
وفي صيف 1961، اندلع القتال في شمال العراق نظرا لأن والد مسعود كان يصفي حساباته مع القبائل المجاورة والتي كان قاسم يدعمها سرا. وبعد ذلك شن مجموعة من المسلحين الأكراد في 11 من سبتمبر (أيلول) هجوما على رتل عسكري، مما دفع قاسم لأن يأمر بحملة تفجيرات واسعة النطاق على الشمال، طالت مدينة «برزان»، مسقط رأس الملا مصطفى. وقبل أن يمر وقت طويل، كان شمال العراق بأسره قد أصبح في حالة ثورة ملتفا حول راية الملا مصطفى. وهي الثورة التي استمرت حتى مارس (آذار) 1975.
وفي الوقت الذي اندلعت فيه الثورة، كان مسعود قد أصبح في الخامسة عشر من عمره. وقبل أن يمر وقت طويل، كان مسعود، وأخوه إدريس، قد بدءا يضطلعان بأدوار مهمة ويحتلان مناصب نافذة في القيادة الكردية. فوفقا لوثيقة للاستخبارات الأميركية، أصبح مسعود بحلول عام 1972 مسؤولا عن الاستخبارات الكردية، التي تأسست عام 1968 بمساعدة من السافاك (منظمة الاستخبارات والأمن القومي) الإيرانية. وقد عمل مسعود مع الاستخبارات الكردية على توفير الأسلحة والمساعدات المالية للمتمردين الأكراد الذين كانوا يخوضون حربا وحشية ضد النظام البعثي المدعوم سوفياتيا. ولكن بعدما عقد شاه إيران صفقة مع صدام حسين للتخلي عن الأكراد في مارس (آذار) 1975 بتوقيعه على «اتفاقية الجزائر» التي وضعت نهاية مأساوية للحرب، هرب مسعود مع أبيه إلى المنفى في إيران ومنها إلى الولايات المتحدة التي توفي فيها الملا مصطفى إثر إصابته بالسرطان عام 1979.
[caption id="attachment_55238490" align="alignleft" width="189"] الملا مصطفى برزاني[/caption]
وفي أعقاب وفاة أبيه، عاد مسعود إلى العراق حاملا جثة أبيه واستأنف حياته كقائد كردي قومي. وخلال معظم فترة الحرب بين إيران والعراق، كان مسعود يمارس دورا ثانويا في «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بعد أخيه، ولكن ذلك تغير تماما في يناير (كانون الثاني) 1987 عندما توفي إدريس فجأة إثر أزمة قلبية، مما مكن مسعود من تولي زمام السلطة في الحزب. وخلال السنوات القليلة الأولى لقيادته الحزب، شن صدام حملة الأنفال الدموية، التي أكدت لمسعود مدى الوحشية التي يستطيع النظام العراقي أن يصل إليها.
صلات وثيقة
في التسعينيات، اتخذ الصراع الكردي معنى مختلفا بالنسبة لواشنطن في ظل بدء إدارة كلينتون التخطيط لسقوط صدام. ونظرا لأن الأكراد كانوا حليفا طبيعيا ضد النظام العراقي، كان منطقيا أن تعمل الاستخبارات الأميركية على تطوير صلات وثيقة مع مسعود وخصمه، جلال طالباني، وهو قومي كردي آخر كان يحارب أحيانا مع الملا مصطفى خلال الثورة الكردية ثم شكل «الاتحاد الوطني الكردستاني» في عام 1975 في مواجهة «الحزب الديمقراطي الكردستاني». وفي أعقاب إخراج العراق من الكويت، وما تلا ذلك من انتفاضات في الشمال الكردي، والجنوب الشيعي، سعى النظام للتفاوض على اتفاقية حكم ذاتي جديدة مع مسعود وطالباني.
فوفقا لكتاب «التاريخ الحديث للأكراد» للمؤلف ديفيد ماكدوال، وجد صدام حسين أن التفاوض مع مسعود أكثر سهولة، لأنه «كان يخشى العودة للحرب»، فيما كان طالباني أكثر عنفا وأكثر اعتيادا على التكتيكات التفاوضية الدموية لصدام حسين. وبالفعل، وصف محمود عثمان، الذراع اليمنى للملا مصطفى، ذات مرة، مسعود بأنه «لين للغاية». ولكن ذلك مفهوم، أخذا في الاعتبار الأحداث المرعبة التي شهدها مسعود في حياته القصيرة: خيانة إيران لأبيه، المعاملة المهينة التي لاقاها أبوه على يد الاستخبارات الأميركية عندما كان يخضع لعلاج السرطان في الولايات المتحدة، والرعب المرتبط بالحرب الإيرانية العراقية، ومذبحة حلبجة، وحملة الأنفال التي تلتها، وإخفاق الولايات المتحدة في مساعدة الأكراد في انتفاضة 1991. فإذا استطاع مسعود تحقيق حلمه بالاستقلال من خلال التفاوض مع صدام حسين، فليكن إذن.
وفي أبريل (نيسان) 1991، وفي أعقاب حرب الخليج وما تلاها من انتفاضات شيعية وكردية، شرعت الولايات المتحدة في «عملية التخفيف من الكرب» التي وفرت منطقة حظر طيران لحماية كردستان العراق. وبفضل الحماية الأميركية، تمكن الأكراد من تنفيذ شكل خاص من أشكال الاستقلال يعتمد على الاتفاق بين الملا مصطفى وصدام حسين الذي يرجع إلى مارس 1970. وقد تم إجراء الانتخابات في مايو (أيار) 1992 بغرض تشكيل «حكومة إقليم كردستان» وهو ما أفضى إلى منافسة شرسة بين مسعود الذي حصل على 48 في المائة من الأصوات، وطالباني الذي حصل على 45 في المائة من الأصوات، فيما حصل «الاتحاد الوطني الكردستاني» على6.43 في المائة. وبينما كان «الحزب الديمقراطي الكردستاني» هو الفائز من الناحية الفنية، كانت النتائج متقاربة للغاية حتى أن الحزبين توصلا لصفقة لمشاركة السلطة غرست بذور النزاع المستقبلي.
وبعد عامين من الصراع المتصاعد بين الحزبين، والذي كان يدور في جانب كبير منه حول تخصيص العائدات، اندلع القتال بينهما في مايو (أيار) 1994 بسبب نزاع على ملكية قطعة أرض بين عضو من أعضاء «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، ومزارع ينتمي لـ«الاتحاد الوطني الكردستاني». وبنهاية أغسطس (آب)، كان هناك ما يزيد على 1000 من القتلى، مما دفع الولايات المتحدة إلى التدخل والتوسط لوقف إطلاق النيران، ولكن القتال اندلع مرة أخرى في ديسمبر (كانون الأول) 1994، مما أدى إلى مقتل أكثر من 500 شخص. ومرة أخرى، تدخلت الولايات المتحدة في أبريل (نيسان) 1995، وتمكنت من عقد اتفاقية لوقف إطلاق النيران لم تدم طويلا. فقد كانت كردستان تنحدر صوب حرب أهلية وهو ما كان يريده صدام حسين تماما.
خيانة صادمة
وفقا لكتاب «أمة خفية» للمؤلف كويل لورانس، تفاقم النزاع بين مسعود وطالباني، وكان كلا الطرفين يبحث عن حلفاء، فيما كانت الولايات المتحدة عالقة بينهما، مع مصالحها المختلفة. وفي صيف 1996، استعان طالباني، بدعم من إيران، بقوات «الحزب الديمقراطي الكردستاني» المعروفة باسم البشمركة (من يواجهون الموت)، واستولى على أربيل. وهو ما أدى إلى تحول مذهل في الأحداث. فمنذ 1994، كان مسعود يتفاوض سرا على صفقة استقلال مع بغداد. وعندما عاد طالباني إلى إيران طلبا للمساعدة، دفعت الحاجة إلى الحصول على أسلحة متقدمة مسعود إلى اللجوء إلى أسلحة صدام. ثم وفي أواخر أغسطس (آب) 1996، دعا مسعود، الذي كان يواجه هزيمة محققة على يد طالباني، 40 ألفا من القوات العراقية إلى أربيل. وهو ما مثل خيانة صادمة بالنسبة للمثل الكردية، خاصة في ظل أن نحو 8000 من أقارب مسعود كانوا قد قتلوا بأوامر من صدام حسين.
[caption id="attachment_55238491" align="alignright" width="252"] جلال طالباني[/caption]
وبعودته إلى صدام، كان مسعود قد خان الاستخبارات الأميركية أيضا، فعن ذلك يقول كينيث بولاك، الاستخباراتي الأميركي المخضرم، وكبير مستشاري كلينتون لشؤون الشرق الأوسط: «لم تكن لدينا فكرة على الإطلاق. فقد شعرنا بالصدمة إثر تلك الخيانة». ولكن ذلك التطور الصادم للأحداث منح الولايات المتحدة أيضا دافعا أقوى لتحقيق نوع من المصالحة بين «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، و«الاتحاد الوطني الكردستاني»، فقد حثت الولايات المتحدة كلا الجانبين في أكتوبر (تشرين الأول) 1996 على قبول وقف إطلاق النار، والذي قبله الطرفان بعدما حفزتهما إدارة كلينتون على قبولها من خلال تقديم هبة بقيمة 11 مليون دولار لكل من مسعود وطالباني. وعلى الرغم من أن القتال سوف يندلع بشكل دوري بعد ذلك طوال العامين التاليين، تمكنت الولايات المتحدة في أغسطس (آب) 1998 من إقناع كلا الطرفين بالتخلي عن صراعهما والموافقة على اتفاقية شاملة للسلام استمرت حتى وقتنا الراهن.
وقد تم تعزيز الاتفاقية الدائمة بين مسعود وطالباني في أكتوبر 2002، مع بداية الغزو الأميركي للعراق، عندما حضر كلا الزعيمين البرلمان الكردي ووجها اعتذارا لأسر الضحايا الذين ماتوا خلال الحرب الأهلية.
وفي أعقاب الغزو الأميركي للعراق في 2003، وجد مسعود وطالباني أرضية مشتركة في تحويل كردستان إلى مكان هادئ وآمن واقتصاد مزدهر، فيما تحول باقي العراق ضد نفسه في صراع طائفي محموم. فقد تم عقد التوازن بين الخصمين بأسلوب بارع: حيث تم انتخاب مسعود رئيسا لحكومة إقليم كردستان من خلال اقتراع برلماني في 2006، فيما أصبح طالباني رئيسا للعراق في 2005. وقد تم تعزيز ذلك التوازن في عام 2009، عندما تم انتخاب مسعود رئيسا عبر اقتراع شعبي في كردستان ما جعله الرجل القوي في الإقليم فيما أعيد انتخاب طالباني رئيسا في الانتخابات العراقية العامة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2010.
وبعد أربعة أعوام من النزاع العنيف، سمح خلع صدام حسين في عام 2003 لمسعود برزاني وجلال طالباني بأن يجدا الأهداف المشتركة لخلق منطقة مستقلة وآمنة للشعب الكردي. ومما لا شك فيه أن الهدوء السلمي الذي تمتعت به المنطقة الكردية منذ أواخر التسعينيات هو النتيجة المباشرة للتوافق بين هاتين الكتلتين رغم صعوبة التخلص من تلك العقود من العداء المرير. وعلى الرغم من تفاقم التوترات في كردستان بشأن الهيمنة والفساد ومحاباة الأقارب من قبل عائلتي برزاني وطالباني، فمن الصعب التكهن بما سوف يحدث عندما يتوفى طالباني الذي بلغ عقده الثامن من العمر. فهل سوف تستمر أسرة برزاني في تعزيز هيمنتها على المنطقة، أم سوف يظهر نظام أكثر انفتاحا وديمقراطية وغير محابٍ للأقارب؟ من الصعب الجزم بذلك ولكن ليس هناك شك في أن مسعود برزاني سوف يلعب دورا رياديا في تشكيل المسار الذي سوف تتخذه كردستان العراق.