يبدو أن أجمل ما قدمه أولمبياد لندن لسكانها، هو أنه أراحهم أسبوعين كاملين، من متابعة أخبار السياسة، وخزعبلات السياسيين وألاعيبهم التي لا تعرف راحة ولا مملا.
لكن ما أن انقضى هذان الأسبوعان، حتى عادت المياه إلى مجاريها بسرعة، وكأنها لم تعرف توقفا، وبدأ الناس يغرقون، من جديد، في مسلسل الخلافات بين حزب المحافظين وشريكه غير المتكافئ معه في السلطة حزب الأحرار الديمقراطيين. وعلى شاشات التلفاز غابت وجوه الرياضيين والملاعب، وعادت نفس الوجوه السياسية المعتادة للساسة، وهي تمارس الدجل والخداع من دون حياء. ثم، فجأة، وعلى غير توقع، قفزت قضية مثيرة للدهشة وللخيال معا، من حيث لا أحد يعرف، وتصدرت الصفحات ونشرات الأخبار، ألا وهي قضية حصول مؤسس موقع "ويكيليكس" على اللجوء السياسي من رئيس دولة الاكوادور. وترتب على ذلك أن قامت الدنيا في دواوين الحكومة البريطانية ومازالت، حتى هذ اللحظة، لم تقعد بعد، ولا أحد يدري، على وجه الدقة أو التقريب، متى ستعود الأمور إلى سيرتها الأولى!
مواجهة عويصة
الحقيقة، التي لا مراء فيها، هي أنه لا أحد، تقريبا، كان يتخيل أن دولة صغيرة، تدعى الاكوادور، تقع في جهة ما من جهات قارة اميركا اللاتينية، وتكاد تكون منسية، تعلن في يوم الخميس 16 اغسطس (آب) 2012، الدخول في مواجهة دبلوماسية عويصة مع بريطانيا أولاً، ثم مع السويد ثانياً، وثالثاً وهو الأكثر إثارة، مع الإدارة الأميركية التي تعتبر اميركا اللاتينية حديقتها الخلفية، والسبب هو قرارها بمنح اللجوء "الدبلوماسي"، بشكل غير متوقع، في نفس التاريخ أعلاه، لشخص اسمه جوليان اسانج، 41 عاما، والذي يحمل الجنسية الاسترالية، ومؤسس لموقع الكتروني شهير على الشبكة العنكبوتية معروف باسم ويكليكس، مكرس للشفافية، وعدو لسرّية المعلومات، تمكن، منذ شهر فبراير (شباط) عام 2006 وما تلاه، من تسريب 251 ألف برقية دبلوماسية، ونشرها على الانترنت وفي العديد من الصحف، في مناطق مختلفة من العالم، مما أوقع الساسة الأميركيين، والدبلوماسية الاميركية نفسها، في احراجات غير مسبوقة ولا تخطر على بال. وكما هو غير متوقع لقطاع كبير من الرأي العام العالمي، كشفت الوثائق المنشورة لشعوب ولدول العالم، التدليس والكذب اللذين يمارسهما الدبلوماسيون والساسة الأميركيون على وجه الخصوص. جوليان اسانج كشف لنا جميعا، وأينما كنّا ذلك، لكن مازال هناك الكثير من الكذب والتدليس الذي يمارسه ساسة ودبلوماسيون آخرون، في دول العالم الأخرى، ولم يتم كشفه بعد، وعلى أمل أن يكشفه لنا، قريبا جداً، اسانجيون آخرون!
الأزمة، بين حكومتي بريطانيا العظمى، وأكوادور "الصغيرة جدا" بدأت قبل شهرين من تاريخ منح الاكوادور اللجوء السياسي لأسانج، وتحديداً، حين دخل اسانج، في الـ19 من يونيو (حزيران) 2012، إلى مقر سفارة الاكوادور، الواقعة خلف محلات هارودوز الذائعة الصيت، في منطقة نايتس بريدج الفارهة لندن، وطلبه اللجوء السياسي.
حملة آلاعيب
لكن الأزمة بين حكومة بريطانيا العظمى، وبين جوليان أسانج بدأت قبل ذلك التاريخ، بوقت طويل نسبيا، أي في عام 2010، حين رفعت سيدتان سويديتان دعوى قضائية ضد جوليان اسانج بتهمة الاعتداء الجنسي. في 20 أغسطس 2010. وعلى أثرها طالبت السويد رسميا بريطانيا، عن طريق النيابة العامة السويدية، بتسليم اسانج للمحاكمة في قضيتين جنائيتين: الأولى تتعلق بالاغتصاب، والثانية بالاعتداء الجنسي.
اسانج أنكر التهمتين بشدة، ولم ينكر أنه مارس الجنس مع السيدتين، في أوقات مختلفة، وبرضاهما.
مناصرو اسانج بدأوا الحديث عن إمكانية وجود مؤامرة كبيرة دخلت حيز التنفيذ. فقد ظهرت رسالة على موقع "تويتر" تقول إن مجموعات المناصرين لاسانج تلقت تحذيرا بتوقع "حملة آلاعيب قذرة" إلا أن مكتبي المحاماة اللذين يمثلان السيدتين نفيا هذا الزعم، ووصفاه بأنه خطأ وشائن.
لكن أمر القبض على أسانج سرعان ما تم سحبه بشكل مؤقت عقب ذلك، الأمر الذي دفع بمحامي السيدتين إلى التظلم ضد سحبه، وفي شهر سبتمبر (أيلول) أعيد فتح القضية، مما زاد في مخاوف مناصري اسانج بوجود مؤامرة. في نفس الشهر، وافقت محكمة في استكهولم العاصمة السويدية، على طلب باعتقال أسانج للتحقيق معه على صفة الاشتباه في التهمتين.
مارك ستيفنز، محامي أسانج في بريطانيا، قال إن موكله عرض على السلطات السويدية التحقيق معه في مقر السفارة السويدية في لندن، أو في مقر اسكوتلنديارد، مقر الشرطة البريطانية، عبر الأقمار الاصطناعية، أو عبر الدائرة المغلقة، إلا أن العرض قوبل بالرفض.
عقب ذلك بشهرين أصدرت الشرطة الدولية (الانتربول) أمرا بالقبض على اسانج، مما أجبر اسانج على تسليم نفسه للشرطة في لندن وتم احتجازه. وتمكن مناصرو اسانج من تجميع مبلغ يصل حوالي 240 ألف جنيه استرليني دفعت ككفالة لقاء الأفراج عنه من الاحتجاز.
في شهر فبراير 2011، اصدرت محكمة بريطانية حكما بتسليم اسانج للسويد، إلا أن فريق الدفاع عن اسانج طعن في الحكم وقُبل الطعن، ونقلت القضية إلى محكمة الاستئناف، لكن دفاع اسانج أخفق في مسعاه، وفي شهر يونيو 2012 رفضت محكمة عليا بريطانية محاولة اسانج لإعادة فتح الاستئناف.
في الأسبوع التالي لصدور الحكم برفض الاستئناف، دخل اسانج مقر سفارة الاكوادور طالبا اللجوء السياسي. وانتقلت الأزمة من مرحلتها الأولى إلى مرحلتها الراهنة، حيث تقف بريطانيا العظمى في مواجهة دولة الاكوادور.
إعدام مؤجل
[caption id="attachment_55238058" align="alignleft" width="300"] كريستين أسانج والدة جوليان أسانج تتحدث مع محامي الدفاع عن ابنها [/caption]
رفض جوليان اسانج قبول الحكم بتسليمه إلى السويد مبعثه الحقيقي، هو تأكده من أن الإدارة الأميركية سوف تطالب السويد بتسليمه، وأن الأخيرة، وفقا للاتفاقات الموقعة بينهما في هذا الشأن، ستفعل ذلك، ومتى وصل اسانج للولايات المتحدة فإنه سوف، يقف أمام المحاكم الاميركية، ليواجه تهمة إفشاء أسرار رسمية تهدد الأمن القومي، وهي تهمة عقوبتها الأعدام. وخوف جوليان أسانج من مواجهة هذا المصير، هو الذي حدا بحكومة الاكوادور إلى منحه اللجوء السياسي. ففي خطاب متلفز ألقاه وزير الخارجية الاكوادوري ريكاردو باتانيو، أعلن فيه منح اسانج حق اللجوء السياسي، قائلا: "إن اللجوء حق اساسي من حقوق الانسان، وأن الحكومة الاكوادورية تدافع عن حقها في حماية أسانج، وقد قررنا منحه اللجوء السياسي".
هذا الإجراء في دفاع الاكوادور عن حقها في حماية أسانج، أثار غضب الحكومة البريطانية كما بدا ذلك في رد فعل وزير خارجيتها وليام هيغ، الذي عقد مؤتمرا صحافيا أوضح فيه أن لبريطانيا التزامات دولية لابد من احترامها، وأن اسانج استنفد كل النواحي القانونية في الموضوع، وليس أمامه سوى احترام حكم المحاكم والقضاء وتسليم نفسه. ولم ينس هيغ في حديثه أن يهدد برفع الحصانة الدبلوماسية عن السفارة الاكوادورية في لندن، من أجل تنفيذ حكم القانون! كما أعلن الوزير أن بلاده لن تسمح مطلقا لاسانج بمغادرة السفارة إلى الاكوادور.
هرج في "الائتلافية" البريطانية
تصريحات هيج أثارت غضب نيك كليغ زعيم حزب الأحرار الديمقراطيين ونائب ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني، حيث قالت تقارير اعلامية إن كليغ لم يبلغ مسبقا بما قامت به الخارجية البريطانية، واحتج فوريا لدى وزارة الخارجية البريطانية لدى سماعه بالأخبار، طالبا منها عدم العمل على عدم جعل الموقف يتدهور بشكل اسوأ. وتضيف نفس التقارير أن كاميرون رئيس الوزراء الموجود خارج البلاد في اجازة، لم يبلغ بما قامت به الخارجية أيضا، وانه قام بالحديث هاتفيا مع وزير خارجيته هيغ. وقال مصدر من 10 داوننغ ستريت مقر رئيس الحكومة، إن التكتيك الذي قامت به الخارجية البريطانية لم يحقق الغرض الذي خصص له، مما يعني بشكل أو بآخر أن بريطانيا صارت معرضة للمساءلة دوليا عقب قيام الاكوادور بالشكوى علنيا.
السويد، بدورها، أغضبها ايضا قرار الحكومة الاكوادورية وقامت وزارة خارجيتها باستدعاء السفير الاكوادوري لديها، وعبرت له مباشرة عن احتجاجها. وأحرزت الاكوادور نصرا دبلوماسيا، بتمكنها من تسجيل هدف في المرمى البريطاني – السويدي، حينما حظيت بدعم دول أميركا اللاتينية بحقها في منح اللجوء لاسانج.
وبطيعة الحال فقد تعرضت السفارة الاكوادورية في لندن للكثير من الاستفزاز، من قبل رجال الشرطة البريطانيين الذين زجت بهم السلطات من أجل تخويف السلطات الاكوادورية، وحملها على التراجع على قرارها بمنح جوليان اسانج حق اللجوء، وادان الرئيس الاكوادوري الاستفزازات الأمنية البريطانية، وأكد أن الحكومة البريطانية ليس من حقها ابتزار حكومة بلاده، كما ليس من حقها اقتحام السفارة وخرق القانون الدولي. وقال إن بلاده مستعدة للتفاوض حول الموضوع مع البريطانيين، وأنه بإمكان السلطات السويدية التحقيق مع اسانج في مقر السفارة، كما أن بلاده مستعدة لتسليم اسانج للسويد، في حالة موافقتها على عدم تسليمه لطرف ثالث. السويد رفضت عروض الرئيس الاكوادوري في حين ان الادارة الاميركية قالت إنها لا تستبعد ان تتقدم للسويد بطلب تسليم أسانج، للمثول امام القضاء الأميركي.
وخرج مناصرو اسانج بالعشرات في مظاهرات فرح عارمة أمام السفارة الاكوادورية، وارتدى الكثيرون منهم أقنعة على وجوههم كتب عليها "أنا جوليان". ودخل بعض المتظاهرين في مماحكات ومشاحنات مع رجال الشرطة، مما اضطر رجال الشرطة للقبض عليهم، ومازالت كل مداخل السفارة الاكوادورية حتى وقتنا هذا، تتعرض لمراقبة شديدة من رجال الشرطة البريطانية طوال فترات النهار والليل خشية من هروب أسانج. وبالتأكيد فإن دافع الضرائب البريطاني هو الذي يتحمل دفع التكاليف المالية الباهظة لهذه المراقبة الأمنية المستمرة، في حين أن اسانج يحظى بالراحة والأمن في غرفة من غرف السفارة الاكوادورية، وحسبما يقول أنصاره، فإن معنوياته مرتفعة جداً، وهو حاليا لا يعاني من القلق، خاصة انه على أتصال دائم بالعالم الخارجي عن طريق الانترنت، لأنه يحمل جهاز حاسوبه معه.
حرمة اقتحام المباني الدبلوماسية
[caption id="attachment_55238060" align="alignright" width="300"] حذر الرئيس الاكوادوري رافاييل كوريا بريطانيا من عواقب تهديدات الشرطة باقتحام سفارة بلاده [/caption]
هل بإمكان بريطانيا اقتحام السفارة الاكوادورية في لندن؟
وفقا للقاون الدولي فإنه ليس بمقدور قوات أمن دولة مضيفة، الدخول إلى مقر سفارة دولة أخرى في أراضيها من دون إذن رسمي من سفير تلك الدولة.
اتفاقية فيينا لعام 1961 حول العلاقات الدبلوماسية، تؤكد عدم حق الدولة المضيفة في اقتحام مبنى سفارة دولة اخرى في أراضيها وهذه القاعدة تطال جميع الدول الموقعة على الاتفاقية (Rule of Inviolability). إلا أن وزارة الخارجية البريطانية أبلغت الاكوادور أن بامكانها رفع الحصانة الدبلوماسية عن مقر السفارة، وفقا لنصوص قانون بريطاني صادر عن البرلمان في عام 1987. وقد صدر القانون عقب أزمة السفارة الليبية، حينما تعرضت الشرطية ايفون فليتشر للقتل بالرصاص أمام السفارة في "سانت جيمس سكوير"، حيث بقيت السفارة الليبية معرضة لمحاصرة قوات الأمن لمدة 11 يوما في أبريل (نيسان) 1984.
وامام المحكمة العليا ستحاجج الحكومة البريطانية بأن اقتحامها للسفارة ليس مخالفة للقانون الدولي، لأن السفارة الاكوادورية هي من قام بخرق بنود اتفاقية فيينا. وردا على ذلك ترى الحكومة الاكوادورية ان القانون البريطاني لعام 1987 والمسمى (The Diplomatic and Consular Act 1987) لا ينطبق على هذه الحالة، لأنه ليس بمستطاع أحد، الجدال بأن وجود اسانج يمثل تهديدا للجمهور البريطاني.
ويقول سفير سابق لبريطانيا في روسيا، إن بريطانيا لا يمكنها القيام باقتحام السفارة الاكوادورية، لأنها لو فعلت ذلك، فإنها سوف تخلق سابقة تعود بالوبال عليها، وسوف تتعرض سفاراتها في كثير من الدول، وخاصة سفارتها في روسيا، للاقتحام من قبل أجهزة الأمن الروسية.
من جهة أخرى، يرى الخبراء في القانون الدولي أن الاكوادور لديها التزام باحترام القوانين البريطانية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية البريطانية.
والحقيقة ان تصريح رئيس الدبلوماسية خلق ردود فعل غاضبة في العديد من دول العالم، مما دفع وزارة الخارجية للتراجع والتوضيح عبر تصريحات مسؤولين بها، مخففين من لهجتهم بشكل واضح.
سوء تصرف
يقول المعلق السياسي بصحيفة التايمز روجر بويز في تعليقه (17 أغسطس 2012) على التهديد البريطاني باقتحام السفارة: "الدرس الأول في الدبلوماسية لا تقطع الطريق امام المفاوضات، ملمحا إلى الاكراه. الدرس الثاني لا تفعل ذلك كتابة".
واستنادا إلى بويز فإن نتيجة سوء التصرف البريطاني الرسمي ستكون كالتالي:
"ليس بمستطاع الحكومة البريطانية حاليا وضع اسانج على طائرة، وارساله إلى السويد، وفي نفس الوقت، فإن اسانج حظي بدعم دولي كبير لم يكن يحلم به منذ ستة اشهر مضت، كما أن فنزويلا والارجنتين وبوليفيا، قدمت دعمها للاكوادور، ووزير خارجية الاكوادور دعا إلى رد فعل اقليمي ضد "بريطانيا الاستعمارية" وسوف يحظى به".
وبالفعل تحقق ما توقعه بويز خلال هذا الاسبوع.
لدى سؤال أحد الصحافيين لوليام هيغ ما إذا كانت هذه الأزمة مع الاكوادور ستستمر لشهور او لسنوات؟
رد الوزير البريطاني قائلا: "بإمكانها ذلك. لكنها قبل كل شيء تعتبر صعوبة للاكوادور وللسيد اسانج، إلا أن هذا يعد موقفا غريبا تعانيه سفارة. ذلك ان الحصانة الدبلوماسية وجدت للسماح للدبلوماسيين وللسفارة لممارسة وظائفهم الدبلوماسية، ولكنه غير مسموح لها بحماية مجرمين مزعومين أو لإحباط العمليات القانونية في البلاد".
بريطانيا تدرك أنه ليس من السهل عليها الخروج من هذه الأزمة بدون جروح نازفة، إن لم تكن مهينة للدبلوماسية البريطانية، التي لم يعرف عنها التسرع في الماضي ما لم ترض السويد بتوقيع اتفاق مع الاكوادور لا يسمح لها بترحيل جوليان أسانج إلى طرف ثالث هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن جوليان اسانج سوف يواصل عمله اليومي وتواصله مع أصدقائه وأنصاره والعالم الخارجي من غرفته الصغيرة في سفارة الاكوادور، من دون دفع ايجار اسبوعي أو شهري أو دفع فواتير الكهرباء والغاز، وسيواصل دافع الضرائب البريطاني تحمل دفع المصاريف المالية اليومية الباهظة، الناجمة عن فشل وزارة خارجيته في التعامل مع القضية برؤى واقعية، لا تتسم بالفجاجة وبدبلوماسية هادئة، تستند إلى تبادل الآراء والحوار على طاولة المفاوضات.