[caption id="attachment_55237393" align="aligncenter" width="620"] محمد مهدي الجواهري[/caption]
وعندما أكتب عن الجواهري لا يهمني كيف كانت حياته الخاصة الشخصية، إنما آخذ طبائعه مِن قصائده، فهي المؤثر في المجتمع، أما بقية الأشياء فهي له وبحدود شخصه لا أكثر. أراها مِن السَّذاجة أن تطرب الأذن لعرى قوافي الجواهري ويمنعها أنه قال كذا وتصرف كذا، وهل كان أبو الطيب المتنبي (اغتيل 354 هـ) مَلكاً في شؤونه الخاصة؟! وها هو مازال يطرب الأجيال تلو الأجيال، وغدت أبياته أمثالاً سارت بها الرُّكبان، والجواهري متنبي عصره.
أخبرني مِن ظل لزمن قريباً منه، على الرَّغم مِن فارق العمر بينهما، فالجواهري بين أن يكون مِن ولادات 1899 و1902 والباحث محمد حسين الأعرجي مِن ولادات 1949 ولم يطل به العمر وطال بالجواهري، فقد توفى (2010) قال الأعرجي: سأل أحدهم الجواهري: ماذا حضرت لألفية المتنبي، فسكت أبو فرات وأشاح بوجهه عنه، ثم قال: بينهم المتنبي ويبحثون عن المتنبي! مثل هذه لا تحسب زلة على الجواهري، ولا يدعي الكبرياء، فهناك ممَن تأخذهم الخُيلاء وتجدها ليست غريبة، ولا فيها ما يقلل مِن الشَّأن، وخُيلاء الجواهري صادقة عندما قال في شعره على مدى القرن تقريباً: أبا الشِّعر قُلْ ما يُعجب الابن والأبا/ وهل لك إلا أن تقولَ فتُعجبا"!
لم تعجب العديد مِن أصحاب المواقف السياسية والأيديولوجية مدائح محمد مهدي الجواهري، فهم يأخذونه شاعراً ملتزماً لقضايا الجماهير أو الأَوطان، فكالوا له اللَّعنات لأنه مدح نوري السَّعيد (قُتل 1958)، والوصي عبد الإله (قُتل 1958)، ثم ما قاله في الملك الشَّاب فيصل الثَّاني (قُتل 1958) في قصيدة «التَّتويج» (1953):
ته يا ربيع بزهوك العطر النَّدي
وبضوئك الزَّاهي ربيع المولدِ
لقد دفعوا الجواهري لکثرة ثلبهم له بسبب القصيدة الأخيرة، إلى اعتبارها في مذكراته بـ «الهاوية»، وتحدث عنها مِن دون إشارة إلى أبياتها، وحسب ظني، أنها مرفوعة مِن دواوينه المطبوعة التي اطلعت عليها، مع أنها مِن مفاخر قصائده في البناء وفي اللغة، والملك الشَّاب يستحق هذا الثَّناء، فلا هو مِن القتلة ولا هو مِن الفاسدين بالمال العام، ولا ممَن باع الوطن، كان شريفاً في ملكه ونفسه. بل أراه ويراه غيري كان مظلة للعراقيين كافة مِن هجير ما أتى عليهم في ما بعد. تجدني أحب الجواهري في ما قال للملك الجمیل، وربَّما لم أكن أولد بعد، فنحن مِن الأقوام التي لا تحتفي بالميلاد كاحتفائها وتسجيلها للوفيات، وأحبه في ما قاله مِن مديح للزعيم عبد الكريم قاسم الطَّيب والنَّزيه، فلم يسرق مالاً ولم يبذر فلساً (قُتل 1963)، قال الجواهري فيه:
أعد مجدَ بغدادَ ومجدك أغلبُ
وجدد لنا عهداً وعهدك أطيب
مثلما أحببت الجواهري وهو يحتفي بميلاد الملك فيصل الثَّاني، أحببته أيضاً عندما رثى مؤسس الحزب الشِّيوعي العِراقي يوسف سلمان يوسف (أُعدم 1949)، لأن الجواهري تعامل معه كحالم بغد أفضل للعراق، على طريقته إن أخطأت أو أصابت، وكان الشِّعار الذي خطه لحزبه: «وطن حرٌ وشعب سعيد»، فعلينا التعامل مع قوافي الجواهري حبكة ونغمة، أما الموقف السِّياسي فأقولها صراحة مال الجواهري والمواقف السِّياسية والأيديولوجية، فلم يكن شيوعياً ولا قومياً ولا أي شيء بل كان عراقياً وكفى! قال:
سلامٌ على مثقل بالحديد
ويشمخ كالقائد الظَّافرِ
كأن القيود على معصميه
مفاتيح مستقبل زاهرِ
[caption id="attachment_55237394" align="alignleft" width="300"] الجواهري شاعر العراق والعرب[/caption]
بهذا كنت أرد على الذين يريدون الجواهري للحظة وزمن وموقف، لا لشعره وموهبته الفذة. أنا أطرب لكلِّ ما قاله الجواهري، لثوريين أو رجعيين، مثلما ما زال يُطربنا أبو الطَّيب المتنبي في كلِّ ما قاله بحضرة صاحب حلب سيف الدَّولة الحمداني (ت 357 هـ). أقول: بل ما بين الجواهري ومعروف عبد الغني الرَّصافي (ت 1945) ما نقدمه سلاحاً في حربنا ضد الطائفية، فالرصافي المتهم بالطائفية يُقدم الجواهري النَّجفي على نفسه، وهذه سابقة قد لم تحصل بين الشُّعراء، عندما قال له، بعد أن نشر الجواهري قصيدة في الرَّصافي محاولاً لفت أنظار الدَّولة آنذاك لهذا الشَّاعر والمثقف، يوم كان على خصومة معها: "أقول لربِّ الشعر مهدي الجواهري/إلى كم تناغي بالقوافي السَّواحــرِ". وقال له أيضاً: "بك لا بي أصبـح الشعر زاهرا/ وقد كنت قبل اليوم مثلك شاعرا"(الرَّصافي، الأعمال الكاملة).
ولنرى كيف رثى الجواهري الرَّصافي، بعد أربعة عشر سنةً مرت على وفاته، أي (1959)، وكان قد رثاه أكثر مِن مرة: "لغز الحياة وحَيرة الألباب/ أن يستحيل الفكر محض ترابِ/ أن يصبح القلبُ الذكيُ مفازةً/ جرداء حتى مِن خفوق سرابِ/ ليت السَّماءَ الأرضَ ليت مدارها/ للعبقري به مكان شهاب/ يوما له ويُقال ذاك شعاعه/ لامحض أخبار ومحض كتابِ".
ومنها البيت المشهور: "ذئب ترصدني وفوق نيوبه/ دمُ أخوتي وأقاربي وصحابي"(الديوان). هذه القصيدة التي قال لي أكثر مِن شاهد عيان: عندما بدأ الجواهري ينشدها وقف الناقد المعروف علي جواد الطَّاهر (ت 1996) وطلب مِن الحضور الوقوف وترديد القصيدة مع الشَّاعر، فقام الجميع مردداً بما فيهم رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، وكان حاضراً (رسالة من الأديب عبد الحميد الرُّشودي، وسمعتها مِن الصديق حامد أيوب وكان حاضراً أيضاً).
أقول: مهما كان الحال ليس لي ولا لغيري التَّفريق بين الجواهري وقصائده، مهما اختلفنا معه فيها لموقف أو شعور ما، وإذا كان لي مواقف مِن شعراء آخرين، بحدود شخصياتهم لا قصائدهم، فليس لشعرهم إنما لأخلاقهم الشَّخصية في إيذاء الآخرين، والانحطاط الاجتماعي، والجواهري لم يؤذ أحداً. قد يعترض على عنوان كلمتي هذه: الجواهري الناحت من الصخر والغارف من البحر، فهي خاصة بسيدي الشِّعر جرير (ت 133 هـ)، والفرزدق (ت 110هـ)، ولا اتفق مَن فسر نحت الفرزدق مِن الصخر على أنه ناظم، وغرف جرير من البحر على أنه شاعر، ما هكذا تأول الأوصاف إنما الصَّخر والبحر شاسعان غزيران.
أما الجواهري فليس في العصر ما يضاهيه، ربَّما في وصفي هذا للجواهري تعصب لقوافيه، وأنا لا أنفي ذلك، فلم أتمالك نفسي يوم حضرت أمسيته العام 1983 فخلعت قميصي وأخذت ألوح به اعجاباً، لذا المعذرة لقول فيه: نحت من صخر وغرف مِن بحر، ولا أراه تعصبا مؤذياً مثلما هو التعصب لعرق أو مذهب.
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.