يبدأ الفيلم، الذي تقع أحداثه بين ليلة وضحاها، والذي يبحث فيه المخرج سيلان في تاريخ تركيا المظلم، بحفلة يتناول فيها ثلاثة رجال الشراب في ورشة ميكانيكية على جانب الطريق. بعد ذلك ينتقل الفيلم فجأة إلى مشاجرة بين رجال أتراك على طريقة مسلسل (إس سي آي) الأميركي. وتستمر القصة مع أربعة رجال شرطة ومحقق وطبيب شرعي واثنين من رجال الدرك، إذ يقضون ليلتهم في البحث عن مكان جثة أحد الرجال الثلاثة. وهنا نتأكد أن حفلة الشراب انتهت بارتكاب جريمة قتل، ولكن لماذا؟ كما يلاحظ أحد رجال الشرطة، دائما ما تدور الجرائم غير المبررة حول المرأة.
تاريخ مزعج
بعد ليلة طويلة، نقابل أخيرا جولناز، زوجة القتيل المحجبة. ويشير اسمها إلى أصلها الكردي، لتتخذ القصة التي كانت قد تشير إلى الغيرة أو حتى ثأر عائلي، بعدا جديدا سياسيا. وفي الوقت الذي تذهب الشخصيات لتناول الإفطار أو حتى الاستحمام، وقبل إعادة تجمعهم مرة أخرى من أجل حضور تشريح جثة القتيل، ندرك أننا خضنا معهم تلك الليلة في استكشاف تاريخ تركيا المزعج القريب، دون أن يذكر المخرج ذلك.
يحمل العنوان الذي اختاره سيلان إشارة جريئة إلى ثلاثية المخرج الإيطالي سيرغيو ليون والتي تبدأ بـ«حدث ذات مرة في الغرب» عام 1968 وتنتهي بعد ذلك بـ16 عاما بفيلم «حدث ذات مرة في أميركا» عام 1984. لم يكن ليون أميركيا، على الرغم من أنه اتخذ من أميركا موضوعا لقصص أفلامه الثلاثة التي تدور حول رعاة البقر والثوار ورجال العصابات. وتكتشف ثلاثيته الطريقة التي تتحول بها الخرافة إلى تاريخ.
[caption id="attachment_55235087" align="alignleft" width="174" caption="نوري بيلغ سيلان"][/caption]
بالنسبة لليون، أقوى نوع من القصص تلك التي تتعلق بالمرثية، حيث يرثي رجلا متوفى أو تاريخا ضائعا. وهكذا يشترك سيلان مع ليون في حب المناظر الطبيعية الرائعة والماضي المنصرم، ولكنه يمارس لعبته على المشاهد بأسلوب مميز. تقع أحداث فيلم سيلان في ليلة وضحاها، وأقصى مكان تنتقل الأحداث إليه لا تتجاوز المسافة بينه وبين مكان البداية 37 كيلومترا. وهي الحقيقة التي يكررها أحد رجلي الدرك حيث ستتسلم قوته المهمة من رجال الشرطة، إذا تم العثور على القتيل خارج حدود المدينة.
يصور المخرج عبور الأناضول القديمة، ولكن مع بزوغ الفجر وظهور المنظر الطبيعي، تصدمنا حقيقة أن الأناضول القديمة أصبحت ميدان معركة. هذه المنطقة في جنوب تركيا بالقرب من مدينة ديار بكر، هي الموقع الذي حاربت فيه قوات الدرك الانفصاليين الأكراد على مدار ثلاثة عقود. وقد خمدت هذه الحرب غير المعلنة، ولكن يمكن لمس آثارها في كل مكان، إذ يرافق رجلي الدرك رجال الشرطة من أجل حمايتهم، ويوجد في السيارات خزانات بنزين إضافية من أجل ضمان عدم نفاد الوقود في منطقة عدائية.
جدير بالانتباه أن رجل الشرطة الوحيد غير التركي، والذي ينتمي إلى الأقلية العربية، هو الشخص الوحيد في هذه المجموعة الذي يعرف الطرق فعليا، على الرغم من أنهم خرجوا إلى مسافة تبعد دقائق فقط عن المدينة. وتظهر بلدة صغيرة وكأنها قلعة محصنة بالفعل، حيث التحق جميع أبناء المختار الذي يحكمها بالعمل في الشرطة، بينما تزوجت بناته من رجال شرطة.
حالة احتضار
وعلى الرغم من ولائها الراسخ للدولة التركية، فإن البلدة تعاني من حالة احتضار. لقد هاجر أبناؤها وأصبح الحلم الأخير الذي يراود مختار البلدة، في مشهد يعبر عن كوميديا سوداء، هو بناء مشرحة. وبعد أن غادرها المزارعون، أصبحت الحقول المترعة بالمياه مقفرة تقريبا. وهكذا تتشابه معرفة سيلان بالأناضول مع معرفة ليون بأميركا. بالنسبة لسيلان، تقع مقبرة الرجل القتيل بعيدا للغاية عن المدينة، لدرجة منعته من التفكير في زيارتها في الماضي، ولكنه قرر زيارتها على طريقته وتحمل أعبائها بدهاء.
وفقا للأسطورة السياسية التركية، تعد منطقة الأناضول قلب الوطن التركي. وكان أتاتورك قد نقل العاصمة من إسطنبول الأوروبية إلى أنقرة الآسيوية، تلك المدينة التي كانت تشتهر في السابق فقط بفضل نوع من الصوف مسمى باسمها. ولكن في الواقع عانى سكان الأناضول الأصليون من النسيان أو الإهمال من قبل حكام تركيا المتتابعين والذين كانوا يهللون لليبرالية، ولكنهم في الواقع أداروا البلاد من خلال القانون العسكري والمحاكم الأمنية.
وجاء حزب العدالة والتنمية ممثلا في رئيس الوزراء أردوغان ليعتبره كثيرون انطلاقة نحو بداية جديدة. وبعد ثمانين عاما من سيادة النزعة القومية التركية، أصبح من الممكن الآن للطبقة الوسطى الحضرية الجديدة في الأناضول أن ترفع المصالح الطبقية والدينية فوق القومية البالية التي لا تساعد أحدا. بل وبدا أيضا من الممكن أن تتصالح الأقليات الكردية والعربية مع الدولة الإسلامية الحديثة المحافظة باعتدال.
وأصبحت هذه الدولة نموذجا سياسيا يلقى قبولا خارج حدود تركيا، ويحرص أردوغان على تصدير ما يطلق عليه في بعض الأحيان سياسة «الدولة العثمانية الجديدة».
ولكن بدأ العديد من الأكراد في الشعور بخيبة الأمل، نظرا لبطء حزب العدالة والتنمية الحاكم في عملية التغيير نحو انفتاح تركيا. وكما يوضح فيلم سيلان الرائع، ما زالت الدولة التركية القديمة المتثاقلة غارقة في منطقة الحرب القديمة، التي تقع خارج مدنها مباشرة. وذلك هو المدفون في المقبرة، يد الماضي المنتهي التي تجذب الجميع إلى الوراء.