[caption id="attachment_55234686" align="aligncenter" width="620" caption="ليبيا "المحررة".. "ثوار" زوارة يتبادلون القصف مع "ثوار" رقدالين و الجميل"][/caption]
لا أحد يعلم على وجه الدقة، عدد الضحايا الذين سقطوا خلال المواجهات بين الليبيين، والتي انتهت بزوال نظام حكم العقيد الراحل القذافي. بيد أن التكهنات تقول إن العدد يصل إلى ثلاثين ألفا. وهو رقم كبير بالنسبة لعدد السكان. ومهما يكن الرقم، فالليبيون استطاعوا التخلص، بمساعدة حلف شمال الأطلسي، من نظام مستبد ظالم، كانوا يتمنون زواله من منتصف سبعينات القرن الماضي، وازداد هذا التمني حدة، بعد شروع القذافي في تطبيق أفكار كتابه الأخضر في عام 1977، بالقوة على الشعب الليبي. بيد أن ذلك لم يكن تمنيا فقط، بل كانت هناك عشرات المحاولات والانقلابات الجادة والمخطط لها لقلب ذاك النظام.
ومن هذه المحاولات كانت معركة باب العزيزية عام 1984، الذي على أثرها جن جنون النظام، وأرغى وأزبد، وأقام المشانق وأعدم المشاركين في هذه الانتفاضة، وبث أحداث الشنق على الهواء مباشرة. ثم كانت هناك محاولة اكتوبر (تشرين الأول) عام 1993، التي اعتبرت من أخطر المحاولات التي تعرض لها النظام، وكان قادتها ضباطا كبارا في الجيش الليبي، منهم العقيد مفتاح قروم والمقدم محمد الهمالي والرواد: عبد السلام الواعر، ورمضان العيهوري وخليل الجدك وضو الصالحين وغيرهم. إلا أن أحد الضباط الذي انضم في ما بعد لهذه الحركة أخبر الاستخبارات العسكرية، فقبض على هؤلاء الضباط جميعا ونفذ فيهم حكم الإعدام عام 1997، لكن الواعر وضابطين آخرين تمكنوا من الفرار، قبل أقل من ساعة من إقفال الحدود. وعلى أثر هذه الحركة، بدأ القذافي في تفكيك الجيش، واستبدل الكتائب الشعبية به، وسماه في ما بعد «الشعب المسلح».
لكن وبعد هذه التضحيات والعذابات، تمكنت انتفاضة فبراير (شباط) من العام الماضي، وبمساعدة دولية من تحقيق هذا الحلم. فهل انتهى كل شيء بزوال هذا النظام الغاشم، وردت إلى ليبيا روحها؟! الجواب أن الروح قد ردت إليها فعلا، لكن أكسجين الحياة لم يسر في عروقها كلها بعد. فالمنتفضون لم يتمكنوا حتى الآن من أن ينقلوا البلاد إلى حالة الاستقرار والسكينة والأمن، بل أعادوا فكرة الحواجز الأمنية التي كان النظام السابق يرعب بها الناس بين الفينة والأخرى. وأعادوا فكرة «الشرعية الثورية».. التي كانت عصا غليظة من عصي القذافي المتعددة. فهل شرع المنتفضون في تبني أفكار القذافي من جديد، أم أنهم شعروا ببذخ السلطة وكراسيها الوتيرة فتشبثوا بها، وتركوا البلاد في حيص بيص؟! أم ماذا يا ترى يحدث في هذا البلد؟
الوقائع تقول إن الأولاد بدأوا يأكلون انتفاضتهم، ويقضون عليها. فهل بلع المنتفضون ثورتهم حقا؟!
دائما القاعدة تشذ في هذه المنطقة الممتدة من الأطلسي غربا، وحتى الخليج العربي شرقا. فالأمر المعروف أو المتعارف عليه، هو أن الثورة هي التي تأكل أولادها على غرار الهرّة أو السنور. ولكن تشاء الظروف أن يقلب بعض العرب هذا المفهوم عمليا - فيصير هكذا: الأولاد يأكلون ثورتهم.
فكيف حدث هذا، ومتى أكل الأبناء ثورتهم في ليبيا مثلا؟
كان معظم الناس في ليبيا يتوقون لليوم الذين يتخلصون فيه من النظام الاستبدادي الفردي، الذي خطف ليبيا من دائرة التقدم والرقي، ورمى بها في أتون التخلف والدمار. لكن الليبيين استطاعوا انتشال ليبيا من تلك الهوة، بالقضاء على ذلك النظام. إلا أن هذا البلد ما زال على شفا تلك الهوة التي أخرج منها، والتي ان سقط في أعماقها ثانية، فلن تقوم له قائمة بعدها.. البلد ينقاد إلى الدائرة نفسها التي جُرّ أو سِيق إليها، وظل فيها أربعين سنة من التيه الكامل.
كان أعضاء ما كان يسمى «مجلس قيادة الثورة» في ليبيا يحكمون البلد باسم «الشرعية الثورية»، إلى أن انفرد العقيد الراحل بهذا الأمر وحده. فغدا هو الوحيد صاحب «الشرعية الثورية». وأوهم القذافي الليبيين بأنه ليس حاكما أو رئيسا، ولكنه ظل يمارس سلطات مطلقة لا يمارسها إلا الأباطرة.
[caption id="attachment_55234685" align="alignleft" width="300" caption="بنغازي والانفصال: المؤتمر الوطني لا يمثلني!!"][/caption]
ليبيا اليوم تريد أن تشرع دستورا جديدا وقوانين جديدة، لا مكان فيها للمركزية أو الاستبداد أو لأشخاص اعتباريين، أو مفضلين، فأول الأسباب التي من أجلها حدثت الانتفاضة هو الغبن.
هذا الكلام يأتي بعد مطالبة المنتفضين الثوريين بإعادة إحياء هلوسة «الشرعية الثورية» التي خُدر بها الليبيون طويلا في السابق. هل يريد الثائرون أن يقول لهم الناس:
القادة قدموا.. افسحوا لهم في المجالس والطرقات والسلطات.. اهتفوا وصفقوا لهم.. هم الذين حرروكم من الظلم والضيم.. ارفعوا صورهم.. افرشوا البساط الأحمر لهم..
أما يعلم هؤلاء الثائرون أنهم بهذا السلوك الذين يطالبون بفرضه، إنما يفعلون الشيء نفسه الذي كان أس النظام السابق يفعله؟
اليوم في هذا البلد المتداعي هناك أنظمة متعددة، وعربدات وولاءات متعددة.. ولاءات ليس للوطن، ولكنها لقوى خارجية. ميليشيات تسيطر على المصرف المركزي وأخرى على مطار معيتيقة، وثالثة على طريق المطار، بل على المطار نفسه. وهناك ميليشيات تسيطر على شوارع كاملة في العاصمة طرابلس. وثمة أخرى تسجن وتضرب وتفتك وتصادر.
هل يريد هؤلاء أن تقسم البلد إلى مقاطعات وأقاليم؟ هل يودون أن تفتك القبائل ببعضها بعضا؟
مظاهر الظلم والاستبداد ينبغي أن تنتهي سريعا. وينبغي على كل الجهات أن تعرف حدودها، وتنزع الميليشيات أسلحتها على الفور، لأن الإحساس بالجبروت والسلطة بدأ يعتمل ويحرك بعض النفوس المريضة، ويغريها بأوهام السلطة والفرص المتاحة. وإذا لم تحسم هذه الأمور سريعا، فإن البلاد مقبلة على تناطح قبلي قد يكون مدمرا هذه المرة.
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.