محمود جبريل.. تكنوقراطي في بلد بلا مؤسسات

محمود جبريل.. تكنوقراطي في بلد بلا مؤسسات

[caption id="attachment_55226907" align="aligncenter" width="620" caption="محمود جبريل"]محمود جبريل[/caption]

هناك بعض الأسئلة المطروحة الآن بعد أن انزاح كثير من الخطر عن كاهل شعب عانى من بؤس الحياة وشقائها، في ظل نظام تسلطي استبدادي مثل: هل يا ترى ستنجح تكنوقراطية الرجل القصيرة في لملمة هذا الشعت القائم الآن داخل المجلس الانتقالي الليبي وخارجه؟ وهل سيكون بمقدوره تشكيل الحكومة الانتقالية في هذا المجتمع الذي ترسم معالمه وهواه روح القبيلة، وتستفزه جغرافية تقسيمه المناطقي؟! يبدو أن الأمر ليس هينا أو بسيطا، ليس فقط في ما يخص الحكومة وتشكيلها، فهي مؤقتة على كل حال، ولكن الأمر الأكثر صعوبة هو في إعادة إعمار هذا البلد، الذي يفتقد أصلا للبنى التحتية، وحتى ما كان منها قائما دمرته الحرب.
فمن أين ستبدأ هذه الحكومة، وما هي أولوياتها، وهل هناك حساسيات داخلية قد تخلقها سياسات هذه الحكومة؟! بمعنى كيف ستعالج الحكومة المؤقتة التركيز على مدن بعينها دون سواها بحكم أنها تضررت من الحرب؟ فهناك مناطق ومدن يقول أهلها إنهم لم يعرفوا معنى الرفاهية طيلة العهد المستبد المنهار.

انتقاد لاذع


وتعرض جبريل إلى انتقاد لاذع نتيجة احتفاظه بمنصب وزير الخارجية إلى جانب رئاسة الوزراء. فالناقدون له يقولون إن أعضاء المجلس أكفاء بما فيه الكفاية، ولا داعي للاحتفاظ بمنصبين.
وهذا ما أكده هو شخصيا في مقال له نشرته (نيويورك تايمز) عن زملائه اعضاء المجلس حيث قال: لقد جاء جميع أعضاء المجلس، وهم 31 عضوا، منهم محامون وحقوقيون وضباط جيش سابقون ورجال أعمال، من مختلف أنحاء ليبيا. وتعلم الكثيرون، مثلي، داخل الولايات المتحدة. وفي مسيرتنا من أجل الديمقراطية، يقوي من عزمنا إيماننا بالسلام والعدالة والمساواة، فقد علمتنا أيام العقيد القذافي المظلمة أن المجتمع الديمقراطي الحر القائم على نظام عدالة شفاف ونزيه هو الطريق الوحيد للمضي قدما. وسنعمل من أجل ضمان انتقال سلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع ومن خلال مؤسسات قانونية. وسيكون أساس دولتنا دستورا يكتبه الشعب الليبي ويقره عبر استفتاء عام.
ولكن جبريل جدير بمواجهة التحدي، فعلى سبيل المثال يبدو أن دراسته كانت تعده سلفا من أجل العمل في السياسة الانتقالية، حيث تخرج عام 1975 من جامعة القاهرة بدرجة البكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية، واستكمل دراسته في جامعة بيتسبرغ فحصل على الماجستير والدكتوراه في العلوم السياسية، وركزت خلفيته الأكاديمية في الأساس على التخطيط الاستراتيجي وصناعة القرار، وهي الخبرة التي ستفيده بالتأكيد في طريقه نحو إقامة مؤسسات، لأول مرة منذ وصول القذافي إلى الحكم، وقد كانت فلسفة «الكتاب الأخضر» الذي ألفه القائد السابق جعلت منها مؤسسات جوفاء.

[caption id="attachment_55226908" align="alignleft" width="288" caption="من يحكم ليبيا ما بعد القذافي؟"]من يحكم ليبيا ما بعد القذافي؟[/caption]

جدير بالاهتمام أن خبرة جبريل في التخطيط الاستراتيجي لم تتقيد بالبرج العاجي الذي يتسم به السلك الأكاديمي، فبين عامي 1987 و1988، قاد جبريل فريقا مهمته صياغة دليل التدريب العربي الموحد وأدار عدة مؤتمرات تدريبية في هذا المجال، كما صُقلت خبرته في مجال الإدارة عندما تولى مسؤولية البرامج التدريبية للإدارة العليا في عدد من الدول في الشرق الأوسط، منها: البحرين، ومصر، والأردن، والكويت، وليبيا، والمغرب، والسعودية، وتونس، والإمارات، وتركيا.
ووفقا لما قاله جبريل، فقد أُكره في النهاية على الانضمام إلى حكومة القذافي حيث أصبح مديرا للمجلس الوطني للتطوير الاقتصادي منذ عام 2007 وحتى انشقاقه عن القذافي في عام 2011، وتوضح روايته التي يدعمها عدد من الوثائق التي كشف عنها موقع «ويكيليكس»، أنه في عام 2007، أرسل سيف الإسلام، الذي كان من المفترض أن يكون وريث القذافي في الحكم وربما كان واحدا من المؤيدين القلائل في الحكومة لفكرة الإصلاحات السياسية والاقتصادية، طائرة خاصة لتقل جبريل من القاهرة التي كان يقيم بها في ذلك الوقت إلى ليبيا، ولدى وصوله عرض سيف الإسلام على جبريل منصب وزير التخطيط القومي، وطلب منه أن يدعم جهوده من أجل إعادة هيكلة الاقتصاد الليبي، ووفقا لحوار أجرته معه الـ«تلغراف»، فعلى الرغم من أن جبريل طلب مهلة عام لدراسة العرض، فإنه في اليوم التالي أعلن التلفزيون أنه تولى المنصب الوزاري.

النظرية العالمية الثالثة


في عام 2009، تم تعيين جبريل رئيسا للمجلس الوطني للتطوير الاقتصادي، وشارك في عضوية ثلاث من خمس لجان تنفيذية: الموزانة، والاقتصاد، وتوزيع الثروات. كما عين عضوا في لجنة صياغة الدستور الجديد الذي كان ينوي سيف الإسلام تقديمه قبل الإطاحة بوالده.
ولكن جراء تقييد يده ووضع كثير من إشارات الاستفهام على مخططاته واصلاحاته، تسرب إليه التذمر والاحباط من عدم تنفيذ توصياته. إن كل ما كان يخطط له الرجل كان يصطدم بما يسمى النظرية العالمية الثالثة. لقد ضاق الرجل ذرعا بهذه العراقيل، ورأى أن كل محاولته وخطته كان العقيد نفسه يقف ضدها، وهو ما دعاه إلى الاستقالة في أكثر من مناسبة. إلا أن النظام لم يقبل هذه الاستقالة. ولما حانت له الفرصة تمكن في ما بعد من مغادرة البلاد

ولكن حتى في زمن ثورة الشباب هذه، انهالت الانتقادات عليه، من جانب بعض التيارات الإسلامية المشاركة في هذه الثورة. وكان في مقدمة هذه الانتقادات ما صرح به علنا الشيخ علي الصلابي الذي اتهم كثيرا من أعضاء المجلس بالعلمانية وبمحاولة إقصاء الإسلاميين منه.
كما اتهم اتهامات لا معنى لها بأنه يملك أسهما في شركة عقارية معروفة في الولايات المتحدة تدعى أوميغن.
ومنذ تعيين جبريل في المجلس الوطني الانتقالي، توجهت جهوده نحو ثلاث جبهات، الأولى السعي إلى توحيد الليبيين، والثانية في الحصول على اعتراف من المجتمع الدولي بالمجلس الانتقالي بصفته الحاكم الشرعي للبلاد، والثالثة مهمة إحياء الاقتصاد الليبي.

احترام آليات العدالة


وبالتركيز على توحيد ليبيا، يُهيئ جبريل الساحة للبلاد من أجل إقامة سلام دائم، وإدراكا منه بأن إراقة الدماء التي حدثت مؤخرا في ليبيا قد يكون لها تأثير طويل المدى على كيفية تعامل الليبيين في الشرق والغرب بعضهم مع بعض، دعا جبريل المقاتلين عدة مرات بأن يحترموا آليات العدالة، وأن يتجنبوا علميات القتل الانتقامية. وأوردت صحيفة "تريبولي بوست" أن جبريل هدد بالاستقالة في حالة "اندلاع حرب داخلية في الحركة التي أطاحت بالنظام الديكتاتوري السابق". وحذر كذلك أثناء أول مؤتمر صحافي له من طرابلس من أن "هناك من يحاول البدء في لعبة سياسية قبل الوصول إلى إجماع مشترك بشأن القواعد"، مضيفا أن أولوية الإدارة الجديدة هي إنهاء الحرب مع قوات القذافي.

"بمجرد أن تنتهي معركتنا، يمكن أن تبدأ اللعبة السياسية، التحدي الأكبر ما زال أمامنا. هناك معركتان، الأولى ضد القذافي ونظامه، والتي ستنتهي بالقبض على القذافي أو التخلص منه، ولكن المعركة الأصعب ستكون مع أنفسنا، كيف يمكننا أن نحقق المصالحة، وأن نحقق الأمن والسلام وأن نتفق على الدستور؟ يجب ألا نهاجم بعضنا الآخر أو أن يدفع أحدنا الآخر بعيدا".

[caption id="attachment_55226914" align="alignright" width="258" caption="في انتظار الحسم.. أين هم؟"]في انتظار الحسم.. أين هم؟[/caption]

وعلى الرغم من أن جبريل تعهد بالتنحي بمجرد تشكيل حكومة جديدة، فإنه أكد في أكثر من مناسبة على قيادته لجهود تهدئة "المناوشات بين القيادة السياسية في الحكومة الانتقالية، التي كان مقرها في السابق شرق البلاد، والميليشيات المختلفة في غرب البلاد التي سيطرت على طرابلس وأجبرت العقيد القذافي على الاختباء"، وذلك وفقا لما أوردته "فاينانشال تايمز" في أحدث تحليل نشرته عن رئاسة وزراء جبريل.
على الجبهة الدبلوماسية، نجح جبريل في الحصول على الاعتراف بالمجلس الانتقالي من حلفاء مهمين مثل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة والجامعة العربية وغيرها الكثير.

ضبط النفس


ولا يمكن المبالغة في أهمية الحصول على اعتراف دولي بالمجلس الوطني الانتقالي، حيث إنه سمح لـ"الناتو" بدعم الثوار عسكريا في بداية الحرب، وبذلك سمح الاعتراف بأن يحصل المجلس على أموال تم تجميدها في السابق، تسمح تلك الأموال للمجلس بأن يسدد رواتب العاملين في القطاع العام، مع البدء في مشاريع إعادة الإعمار، ومن بينها تعزيز قطاع النفط.
كما حقق جبريل تقدما كبيرا أيضا في طمأنة المجتمع الدولي على قدرة ليبيا على إدارة مشاريعها الاستثمارية التي تقدر قيمتها بـ170 مليار دولار.

وأوضح لـ«فاينانشال تايمز» أن اللجنة التنفيذية للمجلس الانتقالي تلتزم بالاحتفاظ بالفريق ذاته الذي يتولى الإشراف على الأرصدة المالية الليبية على الأقل لمدة شهر أو اثنين، وصرح قائلا: «ليس من الحكمة تعيين شخص جديد، ونحن نتفق حاليا على أن القيادة السابقة يجب أن تبقى فيما يتعلق بالاستثمارات».

بمعنى آخر، يتميز أسلوب جبريل في الإدارة بالعملية، ويشجع على ضبط النفس في السياسة الداخلية في البلاد، معترفا بأن الفترة الانتقالية ستكون طريقا طويلا بالنسبة لليبيا، وفي الوقت ذاته يعترف بأنه من أجل النجاح في إدارة المرحلة الانتقالية، سيحتاج إلى الاحتفاظ بأعضاء الحكومة السابقين من أجل دعم استمرار السياسات التي كانت مفيدة في السابق، على الرغم من أنها في الأغلب محدودة بقطاع النفط وصندوق استثمار البلاد.

في حوار أجرته معه مؤخرا صحيفة «الأهرام»، أوضح جبريل خططه في إيجاز، حيث قال: " ستكون الأولوية لتحرير الأراضي التي ما زالت في يد القوات الموالية للقذافي والحفاظ على أمن واستقرار ليبيا". وإذا استطاع جبريل تنفيذ سياساته البراغماتية، مع الاحتفاظ بقيم الثورة، فمن الممكن أن تستطيع ليبيا تجنب مرحلة طويلة من عدم الاستقرار السياسي.

عبد الجليل الساعدي
font change