بمنطق التاريخ، كان لا بد ان يمتد "تسونامي" التغيير غير عابئ بحدود او بوابات. ليبيا كانت تنتظر الاشارة وقد جاءت شرقا وغربا وكان لزاما ان يكون الفصل الأخير لها وبها، وقد كان. بين من خرج على الصف، رجل كان قبل اسابيع قليلة احد أعمدة نظام، مات من مات وهرم من هرم، وهو يسرق الابتسامة ويعدّ الأنفاس ويحكم بالشبهة ويتصيّد الأمل.
مصطفى عبد الجليل، كان أول الكبار الذين خرجوا من جماهيرية معمّر الى جماهيرية الشعب. في 17 فبراير 2011 اندلعت الشرارة وما كان لها ان تشتعل، نارا ودمارا، في بنغازي شرقا الا بمدد يأتي غربا من طرابلس حيث هيمنة الأب والأبناء والرفقاء، القذافي وبنيه وصحبه.
لم تمر الا ثلاثة أيام على أول احتجاجات تشهدها عاصمة الشرق الليبي بنغازي حتى قدم مصطفى عبدالجليل استقالته من منصبه كوزير للعدل احتجاجاً على الأوضاع الدامية واستعمال العنف المفرط ضد المتظاهرين، بحسب ما نقلت عنه صحيفة "قورينا" الليبية. كانت الاستقالة، ومن بعدها الانشقاق عن النظام والانضمام الى صفوف المعارضة أول ضربة قوية لقذافي "من أنتم" الذي اختار المواجهة، زنقة زنقة حتى آخر ليبي.
المستشار مصطفى محمد عبد الجليل من مواليد العام 1952 في مدينة البيضاء بالجبل الأخضر التي تعتبر ثاني كبرى مدن الشرق الليبي بعد بنغازي. عمل مساعدا لأمين النيابة العامة في مدينته العام 1975، ثلاثة أشهر فقط بعد اتمام دراسته الجامعية في الشريعة والقانون، ثم قاضيا في العام 1978، ثم مستشارا في العام 1996. وفي العام 2002 عين رئيسا لمحكمة استئناف ثم رئيسا لمحكمة البيضاء في العام 2006 قبل أن يدخل للعمل السياسي من بابه الواسع باختياره أمينا عاما اللجنة الشعبية العامة للعدل (وزيرا للعدل) في العام 2007.
الخصم والحكم
بعض الذين عرفوا القاضي عبد الجليل عن قرب أو سمعوا عنه استغربوا في حينه قبوله بمنصب في حجم وزارة العدل في بلد أكثر ما يفتقده هو العدل، بلد حوّله القذافي الى معتقل كبير، هو فيه الخصم والحكم والقاضي والجلاد.
موقعه على رأس أمانة العدل كان سيضطره لا محالة الى الاصطدام بملف ما أصبح يعرف بمجزرة سجن "بوسليم" التي تعتبر إحدى أكبر المجازر الجماعية التي ارتكبها نظام العقيد القذافي وراح ضحيتها أكثر من ألف معتقل من ليبيين وعرب معظمهم من سجناء الرأي المنتمين إلى جماعات إسلامية. وقعت المجزرة عندما داهمت قوات خاصة يوم 29 يونيو/ حزيران 1996 سجن أبو سليم الواقع في ضواحي العاصمة طرابلس، وأطلقت النار على السجناء بدعوى تمردهم داخل السجن ثم قامت السلطات بدفن الجثث في باحة السجن وفي مقابر جماعية متفرقة في ضواحي طرابلس.
في نوفمبر 2009 نشر موقع المؤتمر الوطني للمعارضة الليبية رسالة تحت عنوان "اتق الله في دماء ابنائنا يا سيادة الوزير" من فتحي عبدالحميد، وهو أحد الذين فقدوا أبناءهم في أبو سليم، اتهم فيها المستشار مصطفى عبد الجليل بأنه ما جاء الى منصبه الا بتعليمات من سيف الاسلام القذافي الذي يسعى الى اعطاء صورة وهمية بأن ليبيا تقوم باصلاحات وبينها معالجة القضايا الحساسة التي أساءت الى النظام في الداخل والخارج.
وتقول الرسالة إنه "بعد تدويل قضية البلغاريات وقصتهن المعروفة (المتهمات بحقن أطفال ليبيين بفيروس الايدز) اقتضت الضرورة أن يستلم وزارة العدل شخص من شرق ليبيا لان أساس القضية حصلت ببنغازي شرق ليبيا وذلك لتدارك الأمر وحله دون أن يثار في ذلك نقمة الشعب في الشرق... وجرت الأمور كما تشتهي السفن وقام الأخ مصطفى عبد الجليل بغسل القضية وذلك بالإفراج عن البلغاريات مقابل حصول المتضررون على تعويضات، انه حقا الابن البار للثورة، فقد جنبها ويلات تداعي هذه القضية داخليا وخارجيا، تكفل أيضا بتسوية قضيه سجن بوسليم، وغيرها من القضايا التي كانت تقضّ مضجع الدولة".
وتضيف الرسالة: "لقد نجح سيف الاسلام في العثور على شخص مثل مصطفى عبدالجليل ليحركه مثل "البلاي ستيشن" مستغلا خبرته في التمويه و التضليل لتغطية جرائم والده تحت راية المصالحة الوطنية فكان يزور عائلات ضحايا مجزرة بوسليم ويبعث لهم برقيات الكذب والتضليل متظاهرا انه يتضامن معهم وانه ضد المتسببين في المجزرة .. يفاوضهم في قبول تعويض تافه قدره وهو مبلغ 120 ألف...كان يشترط ان لايطالب أحد منهم باي اجراء اخر مثل الكشف على الجناة اوتسليم الجثامين وعندما جادله البعض بأنه لماذا لايكون التعويض مثل تعويضات ضحايا الايدز او ركاب لوكربي لوى أنفه وقال اللي عاجبه باهي واللي موش عاجبة يشرب من البحر".
وفي فبراير 2010 وفي مقال بعنوان "تحية للمستشار مصطفى عبد الجليل... ولكن!" نشر على الموقع الرسمي للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا الذي تأسس في العام 1981 ويعتبر أقدم وأعرق تنظيم معارض لحكم العقيد معمر القذافي، تساءل المعارض الليبي فرج بو العشّة: "هل يستطيع شخص نزيه أن يُحافظ على نزاهته في حكومة يُحرّكها القذافي كأنه يُحرّك خيوط مسرح عرائس. وهل تم اختياره بناء على سمعته القضائية الشريفة فقط؟! ولكن هل يستقيم عمل الشريف تحت سلطة طاغية، يبغض أشد البغض قيم الشرف والاستقامة والأمانة والعدل..؟!
ويضيف: "والشاهد أن "أمانة العدل" ليست سوى منشفة بيد القذافي لمسح آثار جرائمه. وقد أوتي بالسيد مصطفى عبد الجليل للتغطية على تلك الجرائم، خصوصا مذبحة "بوسليم"، وتمييع مطلب الحقيقة والعدالة الذي يرفعه أهالي الضحايا ومنظمات حقوقية خارجية. وبالتالي لا يستقيم له أن يكون أميناً نزيهاً للعدل، بينما شرفاء ليبيا يُهلكون في سجون القذافي".
هذه الانتقادات التي وجهت له في الداخل والخارج، وتأكده، بعد زوال السحر، أنه كان مجرد وسيلة للنظام لتلميع صورته وبخاصة شعوره أنه مازال على رغم كل شيء يحظى بتقدير عدد كبير من الليبيين، دفعه أخيرا الى اعلاء صوته فانتقد في 2009، علانية، القذافي و"تغوّل" جهاز أمنه الداخلي، احتجاجا على عدم تنفيذ أحكام القضاء واستمرار الأجهزة الأمنية في اعتقال أكثر من 300 سجين سياسي يقبعون في المعتقلات على رغم أن محاكم ليبية قضت ببراءتهم، وهو ما يحسب له وأعاد ثقة الليبيين فيه وأهّله لتحمّل القادم من المسؤوليات الجسام.
سنتان حاول فيهما عبد الجليل ترميم ما تهدّم واستطاع احيانا أن يعيد بعض الحقوق لأصحابها، وإن يرى محللون أن كل ما تحقق كان مجرد لعبة سياسية لتلميع صورة سيف الاسلام القذافي ونظام يريد العودة إلى الساحة الدولية بعد سنوات من الحصار والعزلة. وجاءت ثورة 17 فبراير عام 2011 ضد العقيد معمر القذافي لينجو المستشار عبد الجليل بنفسه من تبعية لنظام استغل، كما يقول ملاحظون، قلة خبرته السياسية لتوريطه في "لعبة علاقات عامة" الشعب الليبي كان الخاسر الأكبر فيها.
رجل المرحلة
على الرغم من الأخطاء، يبقى القاضي مصطفى عبد الجليل، كما يقول بعض العارفين به، ذا تاريخ مشرف في محاربة الفساد وملاحقة المسؤولين عنه، ممن كان بالامكان محاسبتهم، أولئك الذين لا "ظهر لهم" او أولئك الذين غضب عليهم النظام او أراد التخلص منهم.
مع أول رصاصة أطلقت في بنغازي، هرع ابن الشرق الليبي لنصرة أهله وانضم للمعارضة التي سرعان ما تسلحت بعصبية القبيلة وصواريخ حلف شمال الأطلسي لتبدأ حرب بين أبناء البلد الواحد أتت على الأخضر واليابس. بعد أقل من شهر على اشتعال الثورة ومع اتساع رقعة الاحتجاجات المناوئة للقذافي وارتفاع عدد المسؤولين الذين انشقوا عن النظام تأسس في 27 فبراير 2011 المجلس الوطني الانتقالي ليكون صوت الثورة وقاطرتها واختير في الخامس من مارس/ آذار مصطفى عبد الجليل رئيسا له.
منذ ذلك التاريخ، مات كثيرون وتشرد كثيرون. سمعنا عن كتائب القذافي وعن مرتزقة أجانب وشاهدنا طائرات تقصف وجثثا تتناثر وتعرفنا على معمر قذافي جديد، مضطرب تائه لا يجد الكلمات. رأينا علم ليبيا الملكية يرفرف في الشرق والعلم الأخضر ينازع الموت في الغرب. كان لا بد للثوار أن يتحدوا خلف رجل يحترمه الجميع، أو على الأقل الغالبية فكان المستشار عبدالجليل هو ذلك الرجل.
يقول متابعون للشأن الليبي إن عبد الجليل قد يكون فعلا رجل المرحلة حيث يلقى احتراما في الداخل والخارج، لكن الخوف أن القضية تجاوزت شخص معمر القذافي وأن يتحول الاقتتال في ليبيا الى حرب بين "شراقة" و "غرابة". فالغرب الليبي الذي استأثرت قبائله بالثروة، وقرّبها القذافي ودعمها، مرتاب في نيات "الثوار" ويخاف أن يفقد سطوته وحظوته وهو الذي تسكنه أكبر القبائل وأكثرها عددا. أما الشرق الليبي، الذي يسعى الى استرداد البعض من خيراته المنهوبة وانهاء أكثر من أربعين عاما من التهميش والاهمال، فيصرّ على اقتسام الثروة والسلطة وأن تكون له كلمة في حاضر ومستقبل ليبيا.
كانت ليبيا، التي نتابع ما يجري فيها الآن بكثير من الألم، وقبل توحيدها في كيان واحد في عهد الملك ادريس تتكون من ثلاثة أقاليم، شبه مستقلة، هي برقة في الشرق وطرابلس في الغرب وفزان في الجنوب. التاريخ يحفظ الخطاب الشهير الذي ألقاه ذات 16 ديسمبر 1972، الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة بتونس العاصمة في حضور معمر القذافي الذي "لم يفهم شيئا" كعادته.
قال بورقيبة حينها: "تنقص القذافي التجارب والمعلومات كما ينقصه تكوين وطن.. ليبيا محتاجة الى توحيد صفوف رجالها.. الى تكوين رابطة قوية بين طرابلس التي تفصلها صحراء عن برقة وصحراء عن فزان.. صحارى شاسعة يعيش فيها الليبيون ليس في القرون الوسطى بل في عهد سيدنا آدم".
أما مدينة البيضاء التي يتحدر منها المستشار عبد الجليل، فقصتها مع طرابلس أكبر من ينساها أبناء الجبل الأخضر. البيضاء كانت ذات يوم، وقبل انقلاب القذافي العاصمة الموعودة لليبيا الملكية تضم المباني الحكومية والإدارية مثل مجلس الوزراء ووزارة العدل، وكانت تتهيأ لإعلانها عاصمة رسمية بمقتضي الدستور ففقدت كل شيء ذات الأول من سبتمبر العام 1969.
والسؤال.. هل يكون القاضي مصطفى عبد الجليل "رجل الشرق" أم "رجل ليبيا" ما بعد معمر القذافي.
بقلم عزالدين سنيقرة