الاستقرار السياسي يحدد الخيارات والقرارات

الاستقرار السياسي يحدد الخيارات والقرارات

[caption id="attachment_727" align="aligncenter" width="620" caption="الى متى يستمر الدعم الحكومي للسلع في ايران!"]الى متى يستمر الدعم الحكومي للسلع في ايران![/caption]من أكبر تحديات الإصلاح الاقتصادي التي تواجه أي دولة نامية إلغاء أو تخفيض دعم الأسعار. في إيران، يستفيد قطاع عريض من الشعب، لا سيما الفقراء ومحدودي الدخل، من أسعار معقولة للاحتياجات الأساسية التي لن تكون في متناولهم من دون الدعم الحكومي. ولكن هذا الدعم غير فعال ويستهلك قدرا كبيرا من ميزانية الحكومة. لقد وصلت تكلفة دعم السلع مثل السكر والألبان والكهرباء والوقود إلى 50 مليار دولار في بعض الأعوام. بالإضافة إلى ذلك، أحيانا ما تؤدي الأسعار المدعمة إلى الإسراف في الاستهلاك وازدياد الطلب بمرور الوقت.

أجبرت الحساسية تجاه الرعاية الاجتماعية للأسر منخفضة الدخل والخوف من حدوث اضطراب اجتماعي الحكومات المتعاقبة في الجمهورية الإسلامية على استمرار هذا الدعم على الرغم من العبء المالي الكبير الذي يمثله. ولكن في الأعوام الأخيرة، أصبح من الواضح أنه إذا لم يتم تعديل الأسعار، لن يكون الدعم محتملا. علاوة على ذلك، أدرك صناع السياسات أخيرا أن الطلب المحلي على الوقود المدعم يزداد بسرعة كبيرة وفي غضون فترة قصيرة قد يتبقى لدى إيران كميات قليلة للغاية من النفط الخام لتصديره بعد تلبية الطلب الداخلي. أسفرت هذه الحقائق المفزعة، بالإضافة إلى اعتماد إيران على البنزين المستورد في ما يمثل نحو ثلث استهلاكها المحلي من الطاقة والعقوبات الاقتصادية الدولية المشددة، عن إجماع داخل النظام الإسلامي الحاكم على إصلاح برنامج دعم الأسعار.

ولكن حتى بعد إقرار البرلمان لحزمة الإصلاحات بداية عام 2010، ظلت الحكومة مترددة، وتأجل تنفيذ الخطة لأشهر عدة. وأخيرا مساء يوم 18 ديسمبر عام 2010، ظهر الرئيس محمود أحمدي نجاد على شاشة التلفزيون الحكومي معلنا تعديل أسعار الخبز والعديد من السلع الأساسية الأخرى، والذي سرى تنفيذه صباح اليوم التالي. وفي الصباح التالي، ارتفعت أسعار البنزين من 0.10 دولار للتر إلى 0.40 دولار للتر حتى 0.60 ثم 0.70 دولار لكل لتر إضافي (حيث يحق لأصحاب السيارات الخاصة شراء 60 لترا من البنزين في الشهر بأسعار مدعمة). وكذلك تم تطبيق زيادة الأسعار على وقود الديزل والغاز الطبيعي، الذي يستخدم كوقود لعديد من المركبات في إيران.

كانت صدمة الأسعار الفورية كبيرة، وفي ترقب لرد الفعل الشعبي أعلنت الحكومة حالة التأهب القصوى لقوات الشرطة ومكافحة الشغب. وضاعفت أيضا من وجود قوات الشرطة في الشوارع الكبرى والمراكز التجارية في طهران والمدن الكبرى. وفي حين كان الشعب مستاء من ارتفاع الأسعار ويمكن سماع الشكاوى في الأحاديث الخاصة من الصعوبات الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة، فلم تخرج مظاهرات شعبية تشبه مظاهرات الخبز التي وقعت في مصر والأردن أو أخيرا بوليفيا، ردا على سياسات مشابهة.

وبعد شهرين تقريبا من تنفيذ هذه الإصلاحات، ظلت الجماهير هادئة وأصبحت الحكومة أقل قلقا من إمكانية زعزعة الإصلاحات للاستقرار. ويرجع رد الفعل السلمي السلبي الذي أبداه الشعب إلى حد ما إلى الوجود المكثف للشرطة والبيئة الأكثر قمعية التي ظهرت بعد احتجاجات عام 2009 بعد الانتخابات. ولكن لعبت عوامل أخرى عديدة دورا مهما في رد الفعل السلبي للإيرانيين تجاه ارتفاع الأسعار.

أولا، في الوقت الذي ألغت فيه الحكومة دعم الأسعار، قدمت دعما نقديا شهريا لجميع المواطنين بصورة منظمة. وقبل تطبيق ضبط الأسعار بأشهر عدة، أنشأت المصارف المملوكة للدولة حسابات دعم خاصة لكل أسرة. وفي أثناء المناقشات الأولى للدعم النقدي، أعلنت الحكومة أن الأسر ذات الدخول المنخفضة ستحصل على دعم نقدي أكبر. ولكن بعد النظر في اعتبارات ومخاوف سياسية من صعوبات في تنفيذ الدعم المعتمد على الدخل، قررت الحكومة تقديم مبالغ متساوية من الدعم النقدي لجميع الأسر. وفي أكتوبر (تشرين الأول) عام 2010، أودعت الحكومة 80 دولارا للفرد (بما يعادل دعم شهرين حيث يحصل الفرد على 40 دولارا كل شهر) في هذه الحسابات.

وعلى الرغم من أن هذه المبالغ تعد ضئيلة بصورة مطلقة، فإنها تصل إلى 200 دولار في الشهر للعائلة المكونة من خمسة أفراد. أما بالنسبة للأسر ذات الدخل المنخفض، من الممكن أن يكون هذا الدعم النقدي إضافة كبيرة لدخلها. في البداية تمكنت الأسر من التأكد من إيداع الأموال في حساباتها المصرفية، ولكن لم يكن من المسموح لها سحبها قبل يوم 18 ديسمبر، عندما أعلنت زيادة الأسعار. وبالتالي، تزامنت الأخبار السيئة بارتفاع الأسعار مع إمكانية سحب هذه المنح، وربما تكون استراتيجية التوقيت قد قللت من حجم الغضب الأولي. علاوة على ذلك، تعهدت الحكومة بزيادة الدعم النقدي الشهري للفرد في الشهور المقبلة.

أضيف إلى ارتفاع الأسعار في 18 ديسمبر أيضا تحذير شديد من الحكومة بعدم السماح للمنتجين والتجار برفع الأسعار. وتم تكليف آلاف عدة من المفتشين بمراقبة أسعار مجموعة كبيرة من السلع والخدمات. وفي حين جاءت هذه الرقابة على الأسعار إلى حد ما في صالح المستهلكين فإنها وضعت ضغوطا كبيرة على المنتجين المحليين، الذين أصبح عليهم تحمل ارتفاع تكاليف الطاقة والمنشآت من دون تمرير هذه التكاليف إلى المستهلك. من الناحية الاقتصادية، ستسفر هذه الرقابة على الأسعار عن نتائج عكسية، على الرغم من فائدتها السياسية.

تدرك الحكومة حقيقة أن هذه السياسة أدت إلى حالات الإفلاس وأنها قد تزيد من معدل البطالة، لا سيما بعد أن جاءت بعد سياسة شعوبية بإغراق الأسواق بالسلع الاستهلاكية المستوردة لإرضاء المستهلكين في عامي 2009 و2010. وقدمت الحكومة من أجل معالجة تلك المشكلات دعما إضافيا للمنتجين والمصدرين في بعض الصناعات، ومن المرجح أن ترفع الرقابة على الأسعار تدريجيا.

ثانيا، بعيدا عن ارتفاع أسعار الوقود والغاز الطبيعي والخبز في ليلة وضحاها، تأخر تطبيق ارتفاع أسعار العديد من السلع الأخرى مثل الكهرباء والألبان والمياه لشهرين أو ثلاثة. وبذلك لم تتعرض الأسر لفواتير المياه والكهرباء المرتفعة للغاية في ذات الوقت. ولو كانت تلك الأسعار رفعت في الوقت ذاته مع الوقود، لازدادت خطورة إمكانية حدوث اضطرابات شعبية.

ومن المدهش أن إلغاء الدعم لم يؤد إلى تقييد التدخل الحكومي في الأنشطة الاقتصادية. بل تزايد تدخل الحكومة بدورها التنظيمي بحجة منع التربح والمضاربة أثناء فترة ضبط الأسعار. كذلك لم تتخل الحكومة عن سلطاتها في تحديد أسعار منتجات رئيسة لصالح قوى السوق. وتظل العديد من السلع الضرورية مثل الوقود والغاز الطبيعي والمرافق تحت رقابة حكومية، فعلى الرغم من انخفاض دعم الأسعار، فإن الأسعار ما زالت تحدد بواسطة الحكومة وتخضع للتدخل السياسي والبيروقراطي.

وحتى الآن تبدو الأسعار الجديدة محتملة وهناك بعض الإشارات إلى أنها أدت بالفعل إلى تخفيض استهلاك الوقود ومنتجات طاقة أخرى. ويظل ما حققته الحكومة حتى الآن أقل من النموذجي، ولكن يجب الاعتراف بتحقيقها نجاحا جزئيا. ولعل هناك درسا أو اثنين يمكن الاستفادة منهما في دول أخرى مصدرة للنفط ترقب كيفية تنفيذ إيران لمثل تلك الإصلاحات المهمة في دعم الأسعار. ما زال الاقتصاد الإيراني يواجه تحديات هائلة، منها البطالة بالإضافة إلى الآثار السلبية للعقوبات الاقتصادية. وعلى الرغم من قبول الإيرانيين لضبط الأسعار من دون مقاومة كبيرة، فإنهم غير راضين عن الأوضاع الاقتصادية.

نادر حبيبي - أستاذ في اقتصاد الشرق الأوسط في مركز كراون لدراسات الشرق الأوسط في جامعة برانديز.
font change