يدير إسماعيل سراج الدين واحدة من أهم المؤسسات الثقافية في العالم العربي: مكتبة الإسكندرية. ولا تقوم عالميته على رؤى فلسفية مجردة لمنظّر يعيش في برج عاجي، ولكن على المشاركة الفعالة في الحياة الثقافية التي تستهدف تعزيز الجدل بروح من التسامح والفحص، واحترام الاختلاف. ولا يمنحه كونه ليبراليا سوى عدد قليل من المعجبين في مصر والعالم العربي بشكل عام وهو ما يساء فهمه عادة وينظر إليه باعتباره تهديدا للإسلام والثقافة العربية.
ولكن على النقيض من ذلك، فإن عمل سراج الدين في المكتبة - وفي المناصب السابقة في البنك الدولي وغيره من المؤسسات العالمية - يكشف عن رؤية عالمية مؤسسة على احترام للثقافة العربية والرغبة في إثرائها وزيادة الفرصة أمام العرب لكي يفيدوا منها ويساهموا في الثقافة العالمية.
يبدو سراج الدين رجلا تنويريا أو ربما شخصا من إسبانيا في القرن الثالث عشر عندما مكن التسامح والعقل من تدفق الثقافة الإسلامية بالإضافة إلى الحوار المتواصل بين الأديان الذي عزز من دراسة الفلسفة والعلوم. وبالفعل يتحدث سراج الدين كثيرا حول العلماء المسلمين في ذلك العصر، مقارنا بين انفتاحهم واستعدادهم لإقامة حوار وبين «الخطاب التحريضي وإدانة كل شيء جديد ومختلف والذي نشهده في كل مكان في العالم العربي والإسلامي اليوم».
وهو علماني متحمس في ما يتعلق بدور الدولة المدنية، كما أنه يدافع عن العالمية المتسامحة التي ليس لها سوى عدد قليل من الأتباع في العالم العربي سواء على المستوى المؤسسي أو على مستوى الثقافة العامة. ففي مصر، للإخوان المسلمين عدد كبيرا من الأتباع، ولكن سراج الدين يرفض قيمهم ورسائلهم ويؤكد على الحاجة لدعم حقوق المرأة وحرية التعبير واحترام حقوق الإنسان التي تشتمل ليس فقط على الحقوق المدنية والسياسية ولكن أيضا الحقوق الاجتماعية والاقتصادية بالإضافة، أو بخاصة الحق في الحياة الكريمة التي تخلو من الفقر.
وهو يقول على موقعه الإلكتروني بثقة كاملة إن «العالم بيتي، والإنسانية أسرتي، وعدم العنف هو مذهبي، وهدفي هو السلام والعدل والمساواة والكرامة للجميع. التواصل، والعقلانية والتسامح والحوار والتعلم والفهم هي وسائلي».
ولا تنعكس عالمية سراج الدين على معتقداته الأخلاقية والفلسفية فقط ولكن على النطاق الواسع للمواقف المهنية التي اتخذها ونطاق عمله وسفره والمحاضرات التي ألقاها.
ففي الفترة من 1993 إلى 2000 عمل رئيسا لـ«المجموعة الاستشارية للبحوث الزراعية الدولية». وعلى الرغم من أنها ليست منظمة شهيرة، فإن لها أهمية قصوى بخاصة بالنسبة للدولة النامية حيث إنها تعمل على تعزيز الزراعة المستدامة وزيادة الأمن الغذائي في دول تعاني من انخفاض المحاصيل الزراعية والتصحر وغيرها من التحديات.
ولعمل المنظمة تأثيرات على العديد من القضايا بدءا من الحقوق الأساسية للاحتياجات الإنسانية لدعم الأنظمة الغذائية الكافية والمغذية التي بدونها لا يمكن الاستمرار في تنمية الصحة والتعليم والتنمية الاجتماعية.
عمل سراج الدين في البنك الدولي من 1972 وحتى 2000، بعدما التحق ببرنامج البنك للشباب المحترفين على اثر حصوله على الدكتوراه من جامعة هارفارد. وقد عمل على نطاق من القضايا التي تتعلق بزيادة قدرة الفتيات على الالتحاق بالتعليم والتنمية المجتمعية ومساعدة الشباب الفقراء، بالإضافة إلى قضايا هجرة العمال ومحو الأمية.
لقد حصل على تعليمه الأساسي كمعماري ومخطط مدني ثم عمل بمشروعات التنمية المدنية بالبنك الدولي في غرب أفريقيا. وفي التسعينيات بدأ سلسلة من المؤتمرات حول الجوع وبرامج المشروعات متناهية الصغر قائلا إن الاستدامة البيئية والتنمية الاجتماعية تحتاج إلى اهتمام أكبر، بالإضافة إلى دمجها في البرامج التنموية التي تقدم في العادة أجندات تقتصر على التنمية الاقتصادية بتكلفة مؤثرة على المصالح الإنسانية.
وقد حصل على جائزة «مؤسسة غرامين الأميركية» في 1999 نظرا لالتزامه الدائم بمكافحة الفقر، وفي عام 2003 منحته الحكومة الفرنسية لقب «ضابط الفنون والرسائل» وفي 2008 حصل على لقب «وسام جوقة الشرف» من فرنسا. وقد ألف وحرر أكثر من 60 كتابا و200 مقال، بما فيها «ابتكار مستقبلنا: مقالات حول الحرية والديمقراطية والإصلاح في العالم العربي».
وعلى الرغم من أن سراج الدين لم يستخدم عبارة «صراع الحضارات» فإنه لا يخجل من اعتقاده بأن التطرف الديني يجب القضاء عليه وأن الأصولية والتعصب يتناقضان مع القيم الإنسانية الليبرالية التي يؤمن بها. كما أنه يتحدى الأصولية الدينية قائلا: «نحن، من نؤمن بالديمقراطية والحرية سوف ننتصر.. فالدولانيين والإسلاميين يقفون ضد مسيرة التاريخ الحتمية».
وإذا ما كان سراج الدين هو رجل الرؤى العظيمة فهو جدير بها لأنه استطاع عبر تاريخه تحويل رؤاه الأخلاقية إلى أفعال متماسكة لها تأثير إيجابي قوي على الناس في جميع أنحاء العالم وخلال السنوات العشر الأخيرة في مصر كان يدير مكتبة الإسكندرية بطريقة تسمح للعامة بالوصول إليها. فقد كان حريصا على اتخاذ مقاربة غير نخبوية في ما يتعلق بعمل المكتبة مؤكدا أنه بينما تؤسس المكتبة لبناء مخزون ثقافي راق من خلال مجموعة شاملة ومتنوعة من الكتب والمخطوطات، فأنها تقوم بدور حيوي في المجتمع، حيث تصل إلى الناس من الأعمار والخلفيات كافة. ولذلك فهي تحتوي على مركز للقبة السماوية، ومعارض للفنون التشكيلية ومركز لتعليم الأطفال بالإضافة إلى برامج المحاضرات والمؤتمرات المستمرة.
ويتمسك سراج الدين بقيمه ورؤيته حتى رغم إدراكه أن تلك الرؤى يمكن أن تثير معركة شرسة في مصر والعالم العربي بما في ذلك التشكك المستمر بل وحتى العداء. ولكن سراج الدين لا يكل ولا تفتر حماسته لتأييد الليبرالية العلمانية وأهدافه التعليمية والثقافية والاجتماعية. وفي «ابتكار مستقبلنا» يقول: «حقوق الإنسان، المساواة بين الجنسين، حرية التعبير، الديمقراطية السياسية، حماية البيئة، كلها قيم تشترك في أنها تدفع المسار العالمي الجديد. واليوم في مصر والعالم العربي، وغيرها من المناطق الأخرى في العالم المتطور، نمر بحالة تحول من الوعي بتلك المفاهيم إلى تأييد تطبيقها في مجتمعاتنا. ولذلك التحول أهمية خاصة، فبعد تبني تطبيق تلك المفاهيم، سوف نتبنى المهمة الشاقة لتغيير مجتمعاتنا. ولا يمكن عمل شيء أقل من التغيير».
ويعتقد سراج الدين بوضوح أن عليه أن يلعب دورا في تلك العملية ويعبر عن أهدافه تلك من خلال كتاباته، ولقاءاته بالجماهير وفوق كل ذلك كأحد القيادات التي أسهمت في ذلك التحول. وفي «ابتكار مستقبلنا» يكتب سراج الدين، «الإصلاحيون والبراغماتيون.. إنهم فاعلون». وبقدر حديثه حول مسار حياته وعمله الحالي، يتحدث حول شخصية الزعماء والنشطاء الاجتماعيين. ويخفف سراج الدين من إحساسه بالإلحاح ووضوح معتقداته بالصبر والرفض الصارم للتغير الاجتماعي الذي يدفع إليه التطرف الذي يهدد السلام، ويقيد المعارضة ويميل نحو اليوتوبيا التي لا تخشى الارتباط بالفاشية لتحقيق أهدافها.
وكتب سراج الدين: «لا نريد ثورة سياسية بما يرتبط بها من عنف. فقد شهدنا بالفعل العديد من الحريات التي تمت التضحية بها على مذبح الوهج الثوري، وقد شهدنا مرات عدة كيف تضل الوعود بالتحول الثوري السريع وتقود إلى الدولانية والشمولية. فليس هناك بديل عن الصبر والتحول المنهجي لهياكل المجتمع والاقتصاد ومنهجة التغيرات حتى تنشأ كبنية فاعلة ومتماسكة. لقد تحققت ديمقراطية ويستمنستر ويقف العمل الدستوري الصبور للآباء المؤسسين لأميركا على نقيض من بداية الثورة الفرنسية - بكل اللحظات الملهمة والإبداع».
[caption id="attachment_631" align="aligncenter" width="620" caption="مكتبة الاسكندرية (© حقوق النشر محفوظة لـ"المجلة")"][/caption]
التنمية الاجتماعية المستدامة والدقيقة والمنفتحة والجدال المستمر كانت من معتقدات سراج الدين وأهداف حياته. إنه إضافة فريدة واستثنائية لمصر والعالم العربي، سفير خبير بالماضي ويشارك في الحاضر ويحمل ويغرس بذور مستقبل أكثر عدالة ومساواة وعقلانية وإنسانية.
صرح سراج الدين بتأييده للمظاهرات الجماهيرية ضد الحكومة المصرية في بداية العام الحالي. وفي 30 يناير (كانون الثاني) 2011، أعرب عن تضامنه مع الشباب المصري قائلا: «لقد شهد العالم فعلا شعبيا غير مسبوق في شوارع مصر بقيادة الشباب المصري ومطالبهم العادلة بالمزيد من الحرية والديمقراطية وانخفاض أسعار المواد الضرورية والمزيد من فرص العمل». وفي 12 فبراير (شباط) 2011، أعرب عن فرحته بالاحتفال بالإنجازات التي حققها الشباب المصري مع التأكيد على الطبيعة غير العنيفة لمقاومتهم. «إن القوة الأخلاقية للعنف لم تستخدم أبدا لقضايا الحرية والعدالة ولوضع أسس لمستقبل أفضل على ذلك النحو. وبالقوة الأخلاقية لتضامنهم، ونبل قضيتهم، تجاوزوا كل التطلعات وانتصروا. إن الثورة المصرية، ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 أصبحت الآن تنتمي لكتب التاريخ. إنه فصل عظيم في القصة الممتدة للصراع من أجل الكرامة الإنسانية وقيم الإنسانية المشتركة».
ولكنه حذر أيضا من أن عملية الانتقال إلى الديمقراطية تتطلب أكثر من المعتقدات القوية ويجب العمل عليها في ظل احترام القانون والمؤسسات السياسية.. «يحتفل الناس جميعا اليوم بتنحي الرئيس مبارك وبداية عصر جديد. ولكن الطريق أمامنا سيكون صعبا للغاية. فيجب أن نحرص على أن تتحول لحظات البهجة والتضامن التي خلفتها تلك الحركة الثورية إلى مؤسسات وقوانين تصبح الضامن الحقيقي للديمقراطية الحقيقية. وبعد المظاهرات، والمعارك، والاحتفالات في الشوارع، يجب أن نقوم بالعمل المطلوب لتصميم مؤسسات جديدة واختيار زعماء جدد وخلق قوانين جديدة، لنضع الحدود الحكيمة التي تجعل الناس أحرارا».
في الوقت الذي تمر فيه مصر بفترة من التحولات السياسية والاجتماعية، يصنع المصريون حسنا إذا ما أفادوا من خبرة إسماعيل سراج الدين. فهو أحد القيادات المحتملة خلال تحول البلاد صوب المزيد من الحرية وحقوق الإنسان. إن دعوته المخلصة لوضع حماية قانونية ومؤسسية تضمن الديمقراطية الليبرالية الأصيلة، والحقوق والحريات التي تحميها، تعد دعوة استشرافية كما أن لها أهمية قصوى في تلك اللحظة المهمة في التاريخ المصري.
نوام شيمل
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.