لا توريث بعد اليوم في الجمهوريات العربية

لا توريث بعد اليوم في الجمهوريات العربية




في العام 2000 تولى بشار رئاسة سوريا خلفاً لأبيه حافظ الأسد بعد تمهيد دستوري و قانوني لتمرير الرئاسة له. دعى عبد الرحمن الراشد ، رئيس تحرير "المجلة" في حينها، المفكر و السياسي المصري سعد الدين ابراهيم لكتابة مقال الغلاف عن السيناريوهات المحتملة لتوريث السلطة في جمهوريات عربية رئيسة.

تم نشر المقالة في يوليو 2000. يشرح الدكتور سعد الدين ابراهيم في المقالة مفهوم ما سماه "الجملوكية" وما يعنيه ذلك الإصطلاح لخمس دول تتضمن مصر. في فجر اليوم التالي لنشر العدد الذي يحتوي على المقالة في مصر، أبلغ سعد الدين ابراهيم أنه تمت محاصرته في بيته بواسطة مائتي رجل أمن وتم القبض عليه و اقتياده إلى مكان مجهول ليبدأ رحلة عشر سنوات الملاحقات و المطاردات الأمنية. كما تم حظر نشر و توزيع المجلة في مصر منذ ذلك الوقت.

نعيد نشر المقالة مرة أخرى بمناسبة ما استجد في مصر من ثورة أطاحت بالرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك الذي كان يعدّ الساحة السياسية في مصر لتوريث الحكم لابنه جمال.
اقتراح بانشاء ملكيات دستورية في الجمهوريات العربية
على الأمة أن تضيف مصطلح
"جملوكية" الى قاموسها السياسي
على سبيل المداعبة

- كلمة "جملوكية" هو مصطلح جديد نسهم به في تنمية قاموس السياسة العربية المعاصرة، فرغم ثراء اللغة العربية و تنوعها، إلا أنها لم تصك إلى تاريخه مثل هذا المصطلح الذي يصف حالة فريدة تسهم بها الثقافة السياسية العربية في إغناء علم الاجتماع السياسي ، و الحالة الفريدة هي وراثة الحكم، ابنا عن أب، في أنظمة حكم جمهورية. لذلك فرغم البداية الجمهورية لبعض بلداننا العربية، إلا أنها تنتهي في واقع الحال إلى أنظمة حكم "ملكية في الواقع". رغم أنها تظل "جمهورية في الظاهر"، لذلك نقترح هذا المصطلح الجديد "جملوكية" و الذي هو نتاج كلمتيّ "جمهورية" و "ملكية". صحيح أن في المصطلح الجديد من "الملكية" ما هو أكثر من "الجمهورية" ، و لكن ذلك تحسبا لقرب اختفاء حرفي "الجيم" و "الواو" مع "الحفيد" القادم. فتكون العودة كاملة إلى الكلمة الأصلية و هي "ملكية".

على سبيل المجادلة

- طبعا الذي أوحى بالمداعبة "الجملوكية" هو ما شهدته سورية و الوطن العربي، و العالم في الثلث الثاني من شهر يونيو (حزيران) من رحيل الرئيس السوري حافظ الاسد، الذي حكم سورية قرابة ثلاثين عاما، ثم الجهر باسم نجله الأكبر الدكتور بشار الاسد مرشحا لخلافة أبيه.

و عرف الناس بسرعة ما كانوا يجهلونه عن بشار الاسد، و عن سرعة و كفاءة الأجهزة السورية، و لذلك تعامل الناس في سورية و المشرق مع الخلافة "البشارية" كأمر مسلم به منذ لحظة اعلان وفاة الرئيس حافظ الاسد.

كان حافظ الاسد في الثمانينات و بعد أن استقرت له السلطة تماما في كل من سورية و لبنان، قد أعد شقيقه رفعت الأسد لخلافته، و لكن مع نهاية الثمانينات و بداية التسعينات، و مع استمرار استقرار السلطة فكر في أن يخلفه ابنه باسل.

و لكن كما نعلم جميعا فقد قتل باسل في حادث سيارة مروع، و هو في الطريق إلى المطار عام 1994، و لكن بعد فترة الحداد، أرسل للابن الثاني بشار الذي كان يكمل دراساته العليا في طب العيون في بريطانيا لكي يعود على عجل، استعدادا للترتيب و التهيؤ لوراثة الرئاسة. و لأنه لم يكن مشغولا بأمور السياسة أو الرئاسة مثلما كان أخوه الراحل، فإن أمر الاعداد أخذ وقتا و جهدا كبيرين، فقد كان على بشار أن يخلع معطف الطبيب الأبيض، و يلبس الزي العسكري الكاكي، و سرعان ما رقي في غضون سنوات قليلة إلى عقيد، ثم لواء، و بعد أيام من وفاة والده رقي إلى رتبة فريق. و لم يقصر مجلس الشعب السوري "البرلمان" و لا الحزب الحاكم "البعث" في القيام بدورهما على عجل، فقام الأول بتعديل الدستور لكي يخفض سن الترشيح للرئاسة من اربعين إلى أربعة و ثلاثين عاما ،هو عمر الابن بشار، و قام الثاني في مؤتمره الحزبي بعد دفن الوالد بأربعة أيام ، بإعادة تشكيل أمانة الحزب و مكتبه السياسي، و انتخاب بشار زعيما للقيادة القطرية للبعث السوري. و بذلك استكمل كل المؤهلات الشكلية للترشيح للرئاسة.

و لم يبق إلا اعتماد ترشيح مجلس الشعب للدكتور الفريق بشار الاسد للرئاسة،ثم يتبعه الشعب السوري نفسه في استفتاء لاعتماد الترشيح و الذي يتوقع أغلب المراقبين ،حتى المتشائمين منهم، أن لا تقل نتيجته عن 95 في المائة. لقد تعامل كثير من الزعماء العرب و الاجانب مع بشار الأسد في العامين السابقين لرحيل حافظ الاسد، كما لو أنه هو الخليفة المنتظر، و تعامل جميعهم معه أثناء جنازة والده الراحل، كما لو ان بشار هو الرئيس بالفعل، و تصرف بشار نفسه أيضا تصرفا رئاسيا وقورا أثناء الجنازة و فترة الحداد.

و نحن لا نعرف يقينا كيف يفكر أو يشعر الشعب السوري نحو هذه الوراثة، التي حولت نظام بلاده من جمهورية كان يتصارع على رئاستها السياسيون العسكريون ما بين 1946 و 1970 إلى جمهورية وراثية في عائلة واحدة مع حلول عام 2000، و الذي نعرفه يقينا هو أن أحد الفضائيات العربية المستقلة استفتت مشاهديها على السؤال التالي:

هل توافقون أو تعارضون توريث رئاسة الجمهورية، ابنا عن أب، كما هو مقترح في سورية؟

و كانت اجابة من استجابوا هي:

- 21في المائة موافقون و 79 في المائة معارضون.

طبعا هذه عينة غير ممثلة تماما، و لكنها أقرب شئ نعرفه لمعرفة المزاج الشعبي في هذه اللحظة التاريخية.

و لابد من التنويه إلى أن الذين أجابوا على الاستفتاء الفضائي كانوا من بلدان عربية مختلفة، أي لم يكونوا فقط سوريين. و طبعا سنعرف نتيجة استفتاء السوريين في منتصف يوليو (تموز) الحالي، و التي كما قلنا يتوقع المراقبون أن تكون حوالي 95 في المائة.

و لكن عندما تم مزيد من استجواب الاقلية (21 في المائة) التي وافقت على الوراثة في استفتاء محطة أوربيت الفضائية، قال معظمهم أ، حافظ الاسد وفر لسوريا استقرارا لم تشهده في تاريخها الحديث، و قال البعض أن الاسد قد وفر لسوريا ماكنة اقليمية لم تتوافر لها أبدا من قبل، و قال البعض الثالث أن الأسد كان يمثل آخر قلاع الصمود العربية في مواجهة الصلف الاسرائيلي. أما الأغلبية التي رفضت مبدأ الوراثة في الأنظمة الجمهورية العربية، فقد كان رفضها "مبدئيا" و كان لسان حالها هو أنه مهما كانت صفات الأب و حسناته و هو رئيس للدولة، فليس هناك ضمان في أن الابن ستكون له الصفات و الحسنات نفسها، هذا فضلا عن أن العديد ممن رفضوا مبدأ التوريث ذكروا العديد من سلبيات نظام الرئيس السوري الراحل، و من سيئات حزب البعث الحاكم.

منذ عام تقريبا نشرت مقالتين في صحيفتي "الأهرام" القاهرية و "الحياة" اللندنية، أحدهما بعنوان: "دعوة إلى ملكيات دستورية في الجمهورية العربية"، و الأخرى بعنوان "و مع رحيل الحسن و الحسين: نحو ملكيات دستورية في الوطن العربي".

و كنت في المقال الأول اتنبأ بما يمكن أن يحدث في بعض الجمهوريات العربية ، مثل سورية و العراق و ليبيا و اليمن و مصر. حيث طال الأجل برؤساء الجمهورية فيها. و حينما يطول أجل أي رئيس في الحكم ينسى أو يتناسى كيف جاء إلى الحكم في المقام الأول. و يتصور أنه كان هدية الله و القدر إلى شعبه و وطنه، و يساعجه الحواريون و المنافقون من حوله في تحويل هذا التصور إلى يقين، إلى واجب مقدس في قلبه و عقله، في كيفية ضمان الاستمرار و الاستقرار و الازدهار لشعبه المفدي، و سرعان ما يقرأ الحواريون و المنافقون انفسهم ما يدور في قلب و عقل الرئيس، أو يوحي لهم بهذه القراءة، فيبدأون بالتبشير لنجله بالرئاسة و حجتهم الأولى و الحاسمة التي لا راد لها، هي من في هذا الكون كله يمكن أن يخلف الرئيس الملهم، و القائد الفذ، و الزعيم المحنك غير نجله، الذي هو من صلبه، و من لحمه و دمه، و يحمل كل صفاته العبقرية؟

و رغم أنني كتبت المقال قبل عام من رحيل الرئيس حافظ الأسد، إلا أن 99.9 في المائة مما تنبأت به قد حدث، بجوهره و مظهره، شكلا و مضمونا. و لا يمكن أ، أدعي أنني دائما ذلك العالم الاجتماعي-السياسي التي تصدق كل، أو حتى معظم تنبؤاته. و لكن يبدو أن مع رؤسائنا العرب، يمكن التنبؤ، لقد أصبحنا نعرفهم مثلما أصبحوا هم يعرفوننا،و من ضمن ما يعرفونه أن أغلبيتنا الصامتة ضدهم، تتحول إلى "أقلية تافهة" لحظة الاستفتاء العلني، و العكس صحيح، فحتى إذا كانت أقلية صغيرة جدا هي التي توافق على أن يخلف الابن أباه في رئاسة الجمهورية ، في استفتاءات الفضائيات العربية، إلا أن هذه الأقلية المؤمنة قادرة بإذن الله في غضون أيام قليلة من افتقاد القائد الراحل على اقناع الأغلبية المعارضة، لا فقط بتغيير رأيها و الموافقة على مبدأ توريث الشعب للابن بعد أبيه، بل و الابتهاج و الترحيب بهذا الانتقال السريع و السلس للملكية، و بذلك أيضا فإننا كعرب نثبت للعالمين أنه شتان ما بين استفتاءات المحافظة على تقاليدها و وقارها، أو شتان ما بين استفتاءات الفضائيات "الأرض" و هي إحدى بدع "العولمة" و استفتاءات الأرض العربية التي هي تعبير عن أصالة واقعنا و تراثنا. حتى و إن اعتقد بعض المغرضين أنه تراث "استبداد الشرقي". فالاستبداد لا يهم مادام "شرقيا" أصيلا و ليس "غربيا" دخيلا!

و لكنني في مقالتي التنبؤية في العام الماضي، قلت أنه مادام الرؤساء العرب قد صمموا على توريث أبنائهم، فلندخل معهم نحن الشعوب في صفقة أو "عقد اجتماعي" جديد، نسلم لهم فيه بتوريث الأبناء، و تحويل الجمهوريات إلى ملكيات، مقابل أن تكون ملكيات دستورية، أي حكومات و برلمانات منتخبة اتخابات حرة، كما هو الحال مثلا في هولندا و اليابان و الدانمارك و السويد و حتى ماليزيا و المغرب و الأردن، و الواقع أن المقال الثاني "مع رحيل الحسن و الحسين" نوهت بهذه النقطة في مقارنة بين الملكيات العربية و الجمهوريات العربية. ففي المغرب و الأردن استطاع مليكاهما الحسن و الحسين في السنوات العشر السابقة لرحيلهما أن يحولا بلديهما تدريجيا إلى ملكيات دستورية، و جاء الوريثان. محمد السادس في المغرب، و عبد الله الثاني في الأردن. ليكرسا هذا التحول إلى ملكية دستورية ديمقراطية. و كانت رسالة موجهة في العام الماضي إلى الأسد و صدام و القذافي و مبارك و على عبد الله صالح في أن يفكروا في الاقتراح بجدية. و لكن يبدو أن القدر باغت الرئيس الأسد قبل أن ينظر في اقتراحي بجدية. فأرجو أن يفعل ذلك نجله الدكتور الفريق الرفيق بشار الأسد، كما أرجو طبعا أن يسارع الرؤساء الأربعة الذين مازالوا على قيد الحياة في طرح اقتراحي للحوار العام. فإذا ووفق عليه من أغلبية أرضية "وليس فضائية" فإنهم يضمنون لأولادهم و أحفادهم الملك و الخلود ماداموا لن يحكموا، و نضمن نحن أبناء هذه الأمة أن نحكم أنفسنا ديمقراطيا ، بعد أن فعلت ذلك كل شعوب العالم الأخرى تقريبا- بما فيها شعوب أفريقيا الزنجية جنوب الصحراء. دعونا ننتقل من "جملوكيات" هزلية إلى ملكيات دستورية ديمقراطية جادة.

أقول قولي هذا و استغفر الله لي و للرؤساء العرب أجمعين.

دكتور سعد الدين ابراهيم

أستاذ الاجتماع السياسي
font change