لبنان بين مطرقة إيران وسندان الولايات المتحدة

لبنان بين مطرقة إيران وسندان الولايات المتحدة

[escenic_image id="55143778"]

يتعرض الأمن السياسي والعسكري في لبنان للخطر؛ حيث يهددهما معا الجدل المحيط بمحاكمة قتلة الحريري التي قد تؤدي إلى إدانة أعضاء من حزب الله، ووقعت أحداث عنف على حدود البلاد مع إسرائيل في الشهر الماضي، عندما فتحت القوات المسلحة اللبنانية النيران على أفراد من قوات الدفاع الإسرائيلية؛ حيث ظنوا أنهم عبروا إلى الحدود اللبنانية وهم يقلمون أحد أشجار الزيتون. وتثير القضيتان من جديد مسألة كيف يدافع لبنان عن حدوده، وكيف تنسجم طموحات حزب الله العسكرية مع استراتيجية وطنية حقيقية. إن إمكانية وقوع صراع آخر واردة، ولكن من الصعب التنبؤ بمتى يكون ذلك وما هو السبب تحديدا. ولكن تتفق أطراف داخلية وإقليمية على أن هناك إجراءات ملحة يجب اتخاذها لمنع حدوث تصاعد غير مرغوب فيه يمكنه أن يسفر عن احتلال جديد للبنان، أو حرب إقليمية تدخل فيها إسرائيل ولبنان وسورية.

وتواجه حكومة الائتلاف الهشة برئاسة رئيس الوزراء سعد الحريري مشكلة خطيرة، يمكنها أن تسهم بصورة كبيرة في زعزعة استقرار البلاد وإضعاف مركزها في المنطقة. والمشكلة بالتحديد هي التقارير غير المؤكدة التي نشرتها وسائل إعلام ألمانية وإسرائيلية حول إدانة ممكنة من المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لبعض من أعضاء حزب الله في اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري في تفجير سيارة عام 2005. وفي الوقت ذاته، اتهم سعد الحريري وأعضاء من تحالفه، دمشق بدعم قتلة الحريري. وبعد مقتله بفترة وجيزة، أُجبرت القوات السورية على الانسحاب من لبنان في ربيع عام 2005. واعتبر ذلك نهاية للنفوذ السياسي السوري الذي استمر 29 عاما في لبنان، وفُتح الباب أمام الدعم الغربي والسعودي، وُمنح سعد الحريري فرصة للدفع من أجل إجراء تحقيق دولي في مقتل والده.

ستكون هناك مضامين كبرى تتعلق بمستقبل لبنان إذا ثبت تورط حزب الله في اغتيال الحريري، لا سيما في ظل العلاقات المضطربة، وفي بعض الأحيان العنيفة، بين الحزب والحكومة اللبنانية. ويشكل النجاح المتزايد لحزب الله كصاحب دور سياسي في لبنان تهديدا خطيرا لسلطة الحكومة اللبنانية. لقد أضعفت حرب لبنان عام 2006 قوة الدفع التي كانت حكومة الحريري تتمتع بها أثناء ما يسمى بثورة الأرز في لبنان، مما سمح بصعود قوة حزب الله كطرف غير حكومي. وساهمت قدرة حزب الله على النجاة من الهجوم الإسرائيلي في إحكام سيطرته على جنوب لبنان، مما يمنع حكومة الحريري من اتخاذ أي إجراء جاد يتعلق بأسلحة حزب الله، وهو مطلب قديم للولايات المتحدة وإسرائيل في مقابل التفاوض على سلام شامل وتطبيع العلاقات مع كل من لبنان وسورية.

لقد وصلت الأزمة السياسية المتزايدة بين ائتلاف الحريري والمقاومة إلى ذروتها أثناء الاشتباكات الدموية التي اندلعت عام 2008 في بيروت عندما تم العثور على شبكة اتصالات وكاميرات مراقبة غير قانونية تابعة لحزب الله في مطار بيروت الدولي. وقد انتهت الأزمة السياسية التي استمرت على مدار 18 شهرا في نهاية عام 2008، ولكن بعد خمسة أشهر عصيبة من المفاوضات من أجل الائتلاف تلك المفاوضات التي بدأت في الدوحة في شهر مايو (أيار) واشترك فيها دبلوماسيون من سورية وإيران والسعودية. وأشار اتفاق المشاركة في السلطة الذي يسمى اتفاق الدوحة، إلى بداية عودة العلاقات بين سورية ولبنان بعد انقطاعها منذ اغتيال الحريري.

وكان الدرس القاسي الذي تعلمه الحريري بعد زيارته الرسمية إلى دمشق في ديسمبر (كانون الأول) عام 2009 أنه من أجل تقوية مركزه والبقاء في مثل تلك البيئة السياسية غير المستقرة، يحتاج إلى أن يكون على علاقة جيدة مع سورية. ويتضمن ذلك، بالإضافة إلى أشياء أخرى، بذل الجهود من أجل حل الخلافات حول مجموعة كبيرة من القضايا التي تتراوح من تعيينات مجلس الوزراء إلى وجود الجناح العسكري لحزب الله من الأساس. ومن المؤكد أن النبرة الدبلوماسية الجديدة التي تظهر عليها العلاقات الأميركية - السورية بعد تولي أوباما الرئاسة، والتقارير السابقة التي نشرتها المجلة الألمانية «دير شبيغل» تعلن فيها عن تقدم مهم في تحقيقات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان يتعلق بإدانة ممكنة لأعضاء في حزب الله، قد مهدت الطريق أمام التقارب بين بيروت ودمشق.

وأدى القلق المحيط بتحقيقات المحكمة الدولية إلى عقد قمة ثلاثية بين الرئيس اللبناني ميشال سليمان، وملك السعودية الملك عبد الله، والرئيس السوري بشار الأسد. وكانت القمة التي عقدت في لبنان في 31 يوليو (تموز) الماضي، إشارة واضحة من أجل دعم الحكومة الحالية، ومنع تصاعد متوقع في الصراع السياسي بين أعضاء الائتلاف، بسبب تدخل محتمل من حزب الله. وانتهى الاجتماع القصير بعد نحو أربع ساعات وانتهى ببيان عادي يؤكد على الحاجة إلى تعزيز «الوفاق الوطني والاستقرار الداخلي والحاجة إلى تجنب العنف». وتم اعتبار ذلك البيان محاولة لتهدئة التوتر الناجم عن تحقيق المحكمة الدولية.

ويتبع فريق التحقيق في حادث اغتيال رفيق الحريري عددا من الأدلة التي تشير إلى تورط حزب الله. وعلى الرغم من أن حزب الله يتعاون مع التحقيقات حتى الآن، فإن بعض المخاوف من إمكانية إدانة بعض من أعضائه ومحاكمتهم في النهاية أدت إلى رفض قيادة حزب الله تقديم المزيد من التعاون، نظرا لما سماه حسن نصر الله في تصريح علني بـ«المشروع الإسرائيلي» الذي يهدف إلى زعزعة استقرار الدولة وتقسيمها. ومن جانب آخر، أشار مدعي عام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مؤخرا إلى أنه لم تتم كتابة مسودة إدانه حتى الآن، مضيفا أنه سيرسل تقرير الإدانة عندما يكون راضيا تماما عن قوة الدليل. ويشير هذا التصريح الأخير إلى نيته نفي كثير من الشائعات التي تتناقلها وسائل الإعلام بأن تقرير التحقيق سيتم الإعلان عنه في بداية خريف العام الحالي.

أما عن قمة عام 2010، فيجب اعتبارها تطبيعا للعلاقات الدبلوماسية بين لبنان وسورية، أو كما قال عنها ستيفن هايدمان من المعهد الأميركي للسلام في مقال نشر مؤخرا: «ما نشاهده الآن.. ليس تسارعا نحو كارثة، ولكنه المراحل الأخيرة من تسوية تم التوسط فيها بهدف الحفاظ على النظام السياسي الحالي». من الواضح أن الحكومة اللبنانية تسعى من خلال تلك القمة إلى إعادة تكوين علاقاتها السابقة مع سورية، ويظهر قرار سعد الحريري الحالي بسحب اتهاماته ضد دمشق عزمه على إقامة علاقة جديدة قوية بين البلدين.

ويسود اعتقاد على مستوى عام أن الملك عبد الله توصل إلى اتفاق مع بشار الأسد من أجل سد الفجوة بين سورية والولايات المتحدة ومصر. وفي الوقت ذاته، يلتزم الملك بالعثور على وسيلة لتأجيل الكشف عن تقرير الإدانة في المحكمة الدولية. وسيكون السيناريو المفضل لسورية هو إلغاء المحكمة، حيث إنه ما زالت هناك احتمالية في تورط بعض من رجالها في الاغتيال، على الرغم من أنه غير مرجح على الإطلاق أن تحدث مثل تلك المناورة في الخفاء، في حين من الممكن أن تمارس الإدانة المحتملة لأعضاء في حزب الله ضغوطا كبيرة على حزب الله لصالح الولايات المتحدة وحلفائها.

وهكذا، سيمنع تأجيل الكشف عن الإدانة، لا سيما في ضوء ادعاءات حزب الله بأن إسرائيل تقف خلف اغتيال الحريري، لبنان من السقوط على الأقل على المدى القصير. وعلى الرغم من أن المعلومات التي قدمها حسن نصر الله غير مقنعة، سيعطي هذا التأجيل مزيدا من الوقت لسورية وحزب الله للإعداد لما من المرجح أن يكون صراعا قانونيا شرسا وطويلا لكليهما. وبذلك أيضا تتم حماية المصالح الاقتصادية والسياسية السعودية في لبنان وسيصبح للمملكة نفوذ كاف للضغط على النظام السوري من أجل القبول بدور الوساطة في المباحثات مع قيادة حزب الله فيما يتعلق بجناحه العسكري. وربما يكون ذلك هو الثمن الذي سيكون على سورية تسديده لإعادة ترسيخ نفوذها في لبنان، وإعادة انطلاق مفاوضات السلام الإسرائيلية بعد أن تركتها سورية عندما شنت إسرائيل عملية الرصاص المصبوب على قطاع غزة في ديسمبر (كانون الأول) عام 2008.

ولا تزال هناك حاجة إلى مزيد من الوقت من أجل عقد اتفاق يتعلق بإدانة أعضاء في حزب الله؛ وقد فتحت القمة الباب أمام مفاوضات جديدة بين الحكومة والمعارضة. ووفقا لجريدة «السفير» اللبنانية، تستمر المفاوضات بين رئيس الوزراء الحريري وقيادة حزب الله من أجل الوصول إلى اتفاق حول التصرف الذي يجب انتهاجه إذا تمت إدانة أعضاء من حزب الله. أيا كانت نتائج المحكمة، لن يتم المساس بقيادة حزب الله من أجل الحفاظ على الهدوء والاستقرار الداخلي. ويعي الزعيمان جيدا أنه إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق سياسي قوي، ستندلع أحداث عنف. ومن الممكن أن يحدث العنف ليس فقط بين الخصوم السياسيين، ولكن بين الطوائف المختلفة، كما حدث من قبل في وسط مدينة بيروت عندما اندلعت الاشتباكات في الشوارع بين مؤيدي حزب الله الشيعي ومجموعة سنية محافظة في المناطق السكنية المختلطة في برج أبو حيدر.

الأمن القومي

 تأثر الوضع الأمني المضطرب بالوضع السياسي المهزوز. وقد مر لبنان بكثير من التدخلات والحروب مع جيرانه لدرجة تكفي لأن يستوعب أن التاريخ يعيد ذاته. لقد أبرز الأداء السيئ الذي ظهر على القوات المسلحة اللبنانية في حرب عام 2006 ضد إسرائيل وجود حزب الله كقوة وحيدة قادرة على الدفاع عن البلاد. لا تستطيع القوات المسلحة اللبنانية القيام بمهامها دون دعم وتمويل الولايات المتحدة؛ وسينتهي - على الأرجح - الدعم الغربي الذي يتمتع به مجلس وزراء الحريري، إذا كانت القوات المسلحة اللبنانية ستواجه قوات الدفاع الإسرائيلية مرة أخرى. وأحدث مثال على ذلك هو قرار الكونغرس بمنع 100 مليون دولار أميركي عن الجيش اللبناني بعد يومين فقط من وقوع حادث إطلاق النيران على الحدود. والسؤال المألوف الذي يواجه الدولة ذات الـ4.2 مليون نسمة هو: كيف ستحمي حدودها الجنوبية من دون خسارة الدعم الغربي، الذي يتعلق بوضوح بعلاقتها بإسرائيل؟

لقد تم تناول المطلب الملح المتجدد بوجود استراتيجية دفاع شاملة، في اجتماع عقد في قصر بيت الدين الرئاسي في 19 أغسطس (آب) الماضي، بين الرئيس اللبناني ميشال سليمان وأعضاء الحكومة وأعضاء من المعارضة، حيث ناقشوا استراتيجية الدفاع غير الفعالة في لبنان ودور حزب الله فيها. وقدم سمير جعجع، زعيم الحزب المسيحي اليميني، حزب القوات اللبنانية، مسودة لما سماه استراتيجية الدفاع الوطني - وهي خطة يتم فيها إدخال جزء من قدرات حزب الله العسكرية في الجيش اللبناني. ووفقا لهذه الخطة، ينضم نحو 4000 من قوات العمليات الخاصة في حزب الله إلى الجيش اللبناني المنتشر في جنوب لبنان من أجل تقوية القوات المسلحة اللبنانية.

ووفقا لجعجع: «هذه خطة مؤقتة وستقدم للبنان أفضل فرصة ممكنة للدفاع عن حدودها في الوقت الحالي، مع الوضع في الاعتبار القدرات الخاصة في الجيش ووضع حزب الله وجميع العناصر التي تحيط بالموقف الراهن. وفي الوقت ذاته، ستستمر المفاوضات الجارية حول منضدة الحوار للوصول إلى حل حاسم بشأن سلاح حزب الله».

عارض حزب الله وأعضاء آخرون في المعارضة الخطة بسبب ما سماه عضو مجلس النواب عن حزب الله محمد رعد خطة جعجع لتقويض مقاومة حزب الله، بدلا من وضع أساس لاستراتيجة وطنية لبنانية، حيث قال: «المقصود من الاقتراح هو تقييد قوات حزب الله وفي النهاية مصادرة ترسانة أسلحته الضخمة».

ولا تثير تلك التصريحات الدهشة، إذا وضعنا في الاعتبار أن الخطة قدمها واحد من أكثر الخصوم إظهارا لمعارضته للمقاومة، كما أنها تضمنت شرطا مسبقا بأن يقبل حزب الله بنفوذ القوات المسلحة اللبنانية على الدفاع الوطني. الأمر الأكثر أهمية هو أنه سيكون مطلوبا من حزب الله أن «يضع جميع مجموعاته وأسلحته تحت تصرف الجيش، حتى وإن كان لا يُطلع الجيش على موقعه أو وجوده».

وكان الاجتماع مثالا آخر على الهوة التي تفصل بين كتلة الحريري والمعارضة بقيادة حزب الله بشأن دور الأخير في لبنان. وأغلقت المناقشة كلية قضايا ذات أهمية بالغة مثل رد فعل القوات المسلحة اللبنانية على انتهاكات سيادتها والشروط المطلوبة من المقاومة للتخلي عن صراعها المسلح. ومن غير المرجح القيام بأية خطوة في اتجاه نزع سلاح حزب الله طالما استمر الصراع السياسي الداخلي في الحكومة، وطالما لم يتم التوصل إلى تسوية مستمرة مع سورية وإسرائيل.

في الوقت الحالي، تشرق شمس الصيف على لبنان من جديد. ولكن يبدو أن ما نراه هو الهدوء الذي يسبق العاصفة. وتؤجل المبادرة الأميركية - العربية - الإسرائيلية التي أعلنت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أنها ستبدأ قريبا، والعقوبات الأميركية التي أقرها مجلس الأمن بخصوص برنامج إيران النووي، وقوع أي هجوم إسرائيلي محتمل على أي من إيران أو حزب الله. وسينفد صبر إسرائيل سريعا إذا لم يحدث تقدم في عملية السلام ومسألة إيران النووية وقوة حزب الله العسكرية.

 

*دانيال ف. ريفيرا - عالم لغة ومترجم عربي. وهو مرشح حاليا للحصول على الدكتوراه من جامعة مدريد المستقلة.

font change