من السياسة إلى الحرب والعكس

من السياسة إلى الحرب والعكس

[escenic_image id="55131410"]

وتتخذ الحرب اللبنانية صورا عديدة ولها أسباب كثيرة أيضا. وقد ظهرت فيها أطراف خارجية وغيّرت مواقفها. وظهرت أطراف داخلية وغيّرت مواقفها أيضا. وقامت سوريا بغزو لبنان في عدة مناسبات، بصورة جزئية أو كلية، بطريق مباشر أو غير مباشر، وكانت الدوافع مختلفة في كل مرة. وقامت إسرائيل بغزو لبنان جزئيا أو كليا لمرات عديدة، ولأسباب مختلفة في كل مرة، ولكنها كانت دائما ما تخلف ورائها دمارا وهلاكا. وجاء العديد من جيوش العالم إلى لبنان، لأسباب مختلفة كذلك، في بعض الأحيان تحت لواء دولهم، وفي أحيان أخرى في ظل الأمم المتحدة. وتغيرت التحالفات أو انهارت. وأصبح أعداء الأمس أقرب الأصدقاء اليوم، على طريقة رواية "1984" لجورج أورويل. ولكن ما زالت القوات اللبنانية كما هي.

لقد حارب الفلسطينيون داخل لبنان وكانوا فرقة الصراع الرئيسية حتى عام 1982، ثم حصروا قدراتهم القتالية في العداءات الفلسطينية، بعد الغزو الإسرائيلي. وشكل الشيعة اللبنانيين بقيادة الإمام موسى الصدر حركة أمل، وشاركوا بفاعلية في الحرب أثناء السنوات الرئيسية في الصراع (1975- 1990)، ومنحوا سلطاتهم لمنظمة التحرير الفلسطينية في ذلك الوقت. وخاص الدروز الصراع تحت لواء الاشتراكية، بينما ظلوا متمسكين بهويتهم الدرزية.

اشتركت الفصائل الفلسطينية في الاشتباكات الأولى التي وقعت عام 1975، وكان السوريون يدعمونهم بشكل مباشر أو غير مباشر. وكان المسيحيون الأقل استعدادا فيما يتعلق بالجانب العسكري والتسليح، ولكنهم استوعبوا الضربة الأولى ببسالة على الرغم من كل الصعوبات. وكانوا بالفعل مجموعة من الشباب ذوي خلفيات اجتماعية مختلفة، وكانت خبرتهم العسكرية قليلة إن وجدت، ومعهم أسلحة صغيرة بعضها من مخلفات الحرب العالمية الثانية. وكان هؤلاء الشباب ينتمون في الأساس إلى حزب الكتائب بقيادة بيير الجميل، والحزب الوطني الليبرالي الذي أسسه الرئيس كميل شمعون، وجماعات أخرى أصغر حجما، مثل التنظيم، وحراس الأرز، والرابطة المارونية.

ولا يمكن أن ينحصر تاريخ القوات اللبنانية في الثمانينات عندما استبدل رجال ميليشيات القوات اللبنانية بشارات حزبهم شارات حزب القوات اللبنانية الجديد. إن تاريخ حزب القوات اللبنانية يرجع إلى ما قبل ذلك، ولكن تحت مسميات مختلفة. وقد نشأت القوات اللبنانية من أهم حزبين في لبنان. لماذا كان على الأحزاب المسيحية أن تضع تشكيلات شبه عسكرية إلى جانب هياكلها السياسية؟

تعد الحروب الداخلية والصراعات الدينية والنزاعات المستمرة أجزاء خالدة في الشرق الأوسط وبخاصة لبنان، سواء كان ذلك قبل أن تحصل على استقلالها أو بعده مباشرة. إن التوازن السياسي في لبنان غير مستقر وهش ومعرض للهجمات المستمرة. وقد أسس بيير الجميل حزب الكتائب في عام 1936، والذي على الرغم من إصرار روبرت فيسك، لم يكن مطلقا حزبا نازيا، ولكنه استعار فقط من النازيين قمصانهم البنية وإحساسهم بالانضباط. ومع كل الاحترام للدكتور فيسك، إلا أن وصفه للكتائب بهذه الصفة جزء من خطة دعاية عامة الهدف منها هو وصم هؤلاء الناس بالطغيان. في الواقع، توجد تشابهات بين النازيين والحزب السوري القومي الاجتماعي الذي يرأسه حاليا أسعد حردان وأسسه أنطون سعادة في الثلاثينات في شعار الصليب المعقوف ونظرية سعادة في أن العرق السوري "متميز وأفضل طبيعيا" ، أكثر من تشابه حزب الكتائب مع النازية!

لقد كرس الجميل وشمعون جهودهما ووقتهما لتأسيس حزبيهما، وجمعا حولهما مثقفين ووطنيين مخلصين. ولم تكن الجمهورية قد تأسست بعد عندما حارب الاثنان ضد الفرنسيين من أجل الاستقلال، على الرغم من أن غالبية سكان فرنسا من الكاثوليك. وبالتوزاي مع ذلك، كان الزعيمان يبذلان بعض الجهود أيضا في التدريبات العسكرية للشباب المتعاطفين. وقد شاركت تلك القوات غير الحقيقية بفاعلية في الاشتباكات التي وقعت عام 1958 بين المسلمين والمسيحيين وظلت ثابتة حتى نزلت قوات المارينز الأميركية بعد دعوة الرئيس شمعون لإنهاء الحرب الأهلية.

وسادت حالة من الاضطراب في البلاد على الرغم من المظهر الرائع للرخاء والتنمية. وكان الحدث الجلل في عام 1967، عندما هزمت الجيوش العربية على يد إسرائيل، ليدخل إلى البلاد المزيد من الآلاف من الفلسطينيين المسلحين، ليتضح عدم الاستقرار وتشتعل مخاوف المجتمع المسيحي. ونشرت منظمة التحرير الفلسطينية قوات مبالغ فيها في معسكراتها، في تحدٍ واضح للسيادة اللبنانية. وتفاقمت الأزمة في اشتباكات مصغرة بين الميليشيات المسيحية المتنامية والجيش اللبناني من جانب، ومنظمة التحرير الفلسطينية من جانب آخر في 1969. ولكن تسببت الضغوط العربية المكثفة وفقدان الوحدة الداخلية في تقنين التسلح الفلسطيني في لبنان، عن طريق "اتفاق القاهرة"، رسميا لمحاربة العدو الإسرائيلي. ومن الواضح أن اتفاق القاهرة لم يكن كافيا للفلسطينيين، الذين تصرفوا وكأنهم يملكون المكان مما أسفر عن وقوع اشتباكات كبرى بين الجيش اللبناني في عام 1973. ونتج عن المزيد من الضغوط العربية والمزيد من الانقسامات الداخلية اللبنانية تأجيل لحظة الانفجار الكبير لعامين آخرين.

وظلت الأحزاب المسيحية تكثف من كفاحها السياسي، مع التأكيد على تزويد مسلحيها بقدرات عسكرية. وعندما رغب وزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت هنري كيسينجر زيارة لبنان، واجه هناك معادلة رياضية: ثلاثة شعوب تتحارب على دولتين: اللبنانيين والفلسطينيين والإسرائيليين، وأرض دولتي لبنان وإسرائيل. وتم حل مشكلته عندما حاصر الفلسطينيون عمليا مطار بيروت الدولي، مهددين طائرته بعدم الهبوط في تحدٍ كامل للحكومة اللبنانية ورئيسها في ذلك الوقت، سليمان فرنجية، الذي كان يرحب بكيسينجر بالفعل، ولكنه لم يستطع رفع الحصار عن المطار. وما كان يتعبر "خطوة ذكية" في ذلك الوقت، كان بالفعل الخنجر الذي سدد طعنة في قلب لبنان.

لقد تم إعادة توجيه الطائرة إلى ميدان جوي عسكري في بقاع بعيدا عن أيدي الفلسطينيين، وتحت حماية الجيش اللبناني. وكان استنتاج كيسنجر واضحا: الدولة اللبنانية أضعف من الفلسطينيين، وبذلك أًصبح حق لبنان في البقاء معرضاً للخطر. ولم يضف كيسنجر في معادلته حقيقة أن عدداً قليلاً من الرجال، الذين لم يتفقوا مع استنتاجاته، يؤمنون باستقلال لبنان وسلامة أراضيه، وتحدوا الفلسطينيين بعد ذلك. وهؤلاء الرجال هم الذين شكلوا أساس القوات اللبنانية. وعندما بدأت الحرب رسميا في عام 1975، لم تجد الأحزاب المسيحية مظلة حماية لها.

يصح تصنيف حزب القوات اللبنانية كحزب مسيحي في النهاية، حيث أن الغالبية العظمى من أعضائه من المسيحيين. ومن الخطأ تماما توضيح هدفهم وكفاحهم تحت لواء صليبي مسيحي أو الدفاع عن المسيحية.

دائما ما كانت الفكرة المكررة والصراع المستمر لدى الأحزاب المسيحية هي وحدة الأراضي والسيادة اللبنانية. ولا يميز المسيحيون اللبنانيون، وخاصة الموارنة، بين مجتمعهم وبلادهم من الأصل، حيث أن رئيس الدولة دستوريا ماروني. وقد تغير هذا بالتأكيد مع اتفاق الطائف عندما تم تقليص سلطات رئيس الدولة لصالح مجلس الوزراء، بمزيد من المشاركة مع المسلمين.

واستمر الصراع مع قدر هائل من الوحشية والإحباطات، منذ عام 1975 وحتى عام 1990. وشعر النجم اللامع في ذلك الوقت بشير الجميل بضرورة توحيد القوات تحت مظلة واحدة ومسمى واحد: القوات اللبنانية. ولكن لم يمر الأمر بسهولة، وشابه استخدام القوة وإراقة دماء.

وقد زعزع الاغتيال الوحشي للرئيس المنتخب بشير الجميل، وما تلاه من انتخاب شقيقه أمين، استقرار القوات اللبنانية، لتبدأ فترة من التوترات الداخلية، ومخططات السلطات، وأخيرا تولى سمير جعجع زمام الأمور وأحكم قبضته على الحزب حتى اليوم. وقد جاء بعد بشير الجميل فادي أفرام لفترة قصيرة، ليحل محله سريعا فؤاد أبو ناضر، والذي أطاح به تحالف عرضي بين جعجع وإيلي حبيقة. وبدأ التنافس بين الاثنين مباشرة بعد انقلابهما المشترك، وأخيرا انتهى الأمر بحمام من الدم عندما أزاح جعجع إيلي حبيقة من منصبه في معركة خاطفة حاسمة. وتوقف ذلك الاضطراب لفترة، مما سمح لجعجع باتخاذ العُدة اللازمة للمعركة القادمة، والتي من المؤسف جاءت داخلية إلى حد ما. (بعد فشل ترشيحه رئيسا مارونيا، تم تعيين الجنرال عون رئيسا للوزراء مهمته الإعداد للانتخابات الرئاسية المقبلة، على أساس التقليد المتبع بأن رئيس الدولة دائما من الموارنة.)

وكانت معركة عام 1989 داخلية جغرافيا، ولكنها لم تكن حقا بين المسيحيين أنفسهم. كانت المعركة، وهي أقوى فصول الحرب اللبنانية، بين الجيش اللبناني (بناء على تعليمات من الجنرال ميشال بصفته رئيس الوزراء والقائد الأعلى للقوات المسلحة) والقوات اللبنانية. وفي الوقت ذاته، كان عون قد حشد تأييداً شعبياً تحت شعار تحرير لبنان من الاحتلال السوري، من خلال "حرب التحرير" الفاشلة. وبعد محاولته غير الناجحة، التفت في محاولة للحفاظ على سلطته على المناطق المسيحية، وشن حرباً شرسة ضد القوات اللبنانية، مستخدماً الجيش اللبناني، وهو مكون من قوات منظمة جيداً تطيع أوامر القصر الرئاسي بغض النظر عن أي شيء. وانتهت المعركة إلى طريق مسدود. وفي النهاية، أطيح بعون من القصر وتم نفيه إلى فرنسا عندما تدخل الجيش السوري وغزا لبنان. وأيد السوريون الحكومة، ودعوا إلى نزع سلاح الميليشيات القائمة، في إطار خطة لإدخال جميع قادة الحرب في مجلس الوزراء.

وكانت القوات اللبنانية هي الميليشيا الوحيدة في لبنان التي سلمت أسلحتها بعد نهاية الحرب اللبنانية. وتلك حقيقة مهمة للغاية، حيث أن تسليم الأسلحة كان بكامل إرادة القوات بدون إكراه من أي جهة. وكان فون كلاوزفيتس محقا عندما قال: "الحرب امتداد للسياسة بأساليب أخرى." بمعنى أنه عندما كان على القوات اللبنانية القتال، كانت تقاتل ببسالة. وعندما حان وقت السلام، تخلوا في كياسة عن أسلحتهم، وارتدوا ثياب ورابطات عنق السياسيين.

كان قرار جعجع يتماشى مع رغبته في إنهاء الحرب والمساعدة على بناء جمهورية جديدة تقتصر فيها السلطة على حكومة منتخبة. وكان هذا قرارا شجاعا، على الرغم من رد الفعل غير المقنع: فبعد عامين، بعد أن فقد حماية ترسانة أسلحته، تم اعتقاله لمدة 11 عام. وهو حتى الآن قائد الحرب الوحيد في لبنان الذي تعرض للسجن، بينما احتفظ الآخرون بأسلحتهم، وفي النهاية زاد مخزونهم، واستعرضوا قوتهم في سعادة. وتم اعتقال مئات، إن لم يكن آلاف، من أفراد القوات اللبنانية، وتعرضوا للتعذيب والنفي في النهاية. وفي الواقع، تعد القوات اللبنانية أكثر من تعرض للمعاملة الوحشية من الجماعات السياسية منذ الاحتلال العثماني للبنان. وكان العديد من الناس يخشون من الثأر أو الانتقام الذي سيحدث بعد الإفراج عن جعجع بعد ثورة الأرز مباشرة وبعد مغادرة الجيش السوري.

ولكن لم يحدث أي من هذا. بل ساد الانضباط، سمة الكتائب المميزة. بالإضافة إلى ذلك، استمدت رياح التغيير التي هبت على لبنان إلهامها من غاندي بدلا من تشي جيفارا. ومنذ اليوم الأول بعد الإفراج عنه، كرّس جعجع جهداً صادقاً من أجل بناء ما فقده. ولم تكن تلك مهمة سهلة، حيث يتكون أعضاء القوات اللبنانية في الأساس من محاربين قدامي. ولكنها لم تكن مهمة مستحيلة، حيث أن القوات اللبنانية في الأصل حركة سياسية ذات أهداف قومية سياسية. ولكن ساعدت الأحوال ومرور الوقت بصورة أو بأخرى. وعلى الرغم من الاضطهاد، انضم أعضاء جدد إلى صفوف القوات تقدر أعدادهم بالآلاف. وقد أضفت هذه الدماء الجديدة، متمثلة في الشباب الذي لم يذق طعم الحرب يوما، نهجا جديدا على القضايا. ولكن تماثل عزيمة الجيل الشاب عزيمة الجيل القديم. ولم تكن إعادة تكوين الحزب "الجديد" بالأمر السهل في ظل الوضع المتصاعد في لبنان.

ومن الواضح أن لبنان دولة مستغرقة في الحياة السياسية، حيث يوجد بها 3.5 مليون سياسي، أي سكانها جميعا. علاوة على ذلك، يبدو أن قدرها أن تكون ساحة دائمة للصراع في المنطقة. وقد أجلت أزمة وراء أزمة، تتطلب التركيز والانتباه، تشكيل الحزب، ولكن تم وضع النظام وتنفيذه إلى حد ما. وأصبح لحزب القوات اللبنانية مرارا وتكرارا العديد من الأعضاء في البرلمان، ووزراء في ثلاث حكومات منذ عام 2005. وفي إطار التحالفات، أثبت حزب القوات اللبنانية وجودا برلمانيا قويا، وشكل مجموعة فعّالة مرتين داخل الأغلبية البرلمانية. وكذلك يعتبر رئيس الوزراء الحريري جعجع بمثابة الحليف والشريك القوي على الرغم من الضغوط المضادة.

ولكن ما زال هناك طريق طويل حتى يصبح حزب القوات اللبنانية حزباً سياسياً حقيقياً، على الرغم من الندوات والمؤتمرات المقررة لتحديد الأدوار تحت مظلة الديمقراطية. ويعد الوجود السياسي والميداني للقوات اللبنانية أكثر فاعلية وظهورا من مشاركتهم التشريعية والحكومية. وفي الوقت ذاته، تجدر الإشارة إلى أن الأجندة السياسية من الصعب تنفيذها في لبنان. وتقف أمام الحزب تحديات هائلة ومتغيرة باستمرار. وتتدخل عناصر تضم إيران وإسرائيل والقضية الفلسطينية الأبدية وآراء سوريا بشأن لبنان، في الحياة السياسية اللبنانية مما يسبب صعوبات للسياسيين.

بخلاف ذلك، هناك أيضا الجنرال ميشال عون ورجاله. ويشكل أتباع الجنرال عون جزءاً مهماً من المعادلة السياسية في لبنان،  وبخاصة السكان المسيحيين. ويحظى عون بقاعدة شعبية بالإضافة إلى القاعدة السياسية حيث يوجد من بين رجاله أعضاء في البرلمان ووزراء في الحكومات المتكررة. ولا يعد العداء بين جعجع وعون حديثا، بل يعود إلى عام 1989، فصلته هدنة لعدة سنوات. وفي الحقيقة، تحول عون، الذي يبدو مخلصا للقومية ومدافعا عن لبنان ضد الاحتلال السوري، فجأة إلى الجانب الآخر بعد ثورة الأرز وانضم بنشاط إلى صفوف 8 آذار في تحالف إستراتيجي مع حزب الله.

ويتسبب فعله بشكل ما في انقسام بين المجتمع المسيحي. ويصف بعض المحللين ذلك بأنه صحي ويرونه من زاوية التعددية والحرية. ولكن لا يراه آخرون على هذا النحو، ويعتبرون عون قناة يستخدمها حزب الله وحلفائه كوسيلة لشق صفوف المسيحيين وإضعافهم، وعلى وجه التحديد لتهديد القوات اللبنانية. ويبقى الأمر لحكم التاريخ.

font change