التحول التدريجي لحزب العدالة والتنمية صوب الشرق

التحول التدريجي لحزب العدالة والتنمية صوب الشرق

[escenic_image id="5597845"]

مثل افتتاح مسجد كوكاتيب في أنقرة عام 1987 صدمة للنظام السياسي التركي. فعلى السطح، كانت البناية العثمانية الأسمنتية الجديدة ترتفع بقبابها ومآذنها على التل، مواجهة بتحدي الضريح الذي دفن فيه مؤسس تركيا العلمانية كمال أتاتورك. وتحت السطح، كان هناك مركز تجاري يتكون من طابقين. ويمثل ذلك المسجد الذي يعد أحد أكبر المجمعات الدينية في العالم الإسلامي تحديا اقتصاديا مباشرا للوضع التجاري الراهن الذي تهيمن فيه النخبة من أنصار كمال أتاتورك على أغلبية العاصمة.

وحتى ذلك الحين، كانت المراكز التجارية موجودة فقط في الأحياء الجمهورية المقتصرة على الطبقة العليا. والآن جمعت الأغلبية الدينية في تركيا بين المسجد والمركز التجاري وبدأت مؤخرا مواجهة الطبقة السائدة. وفي العقد التالي، في التسعينات، كان رجال الصناعة المحافظون في تركيا يأتون من مناطق نائية متدينة مطلقين على أنفسهم لقب «نمور الأناضول». وتحولت المناطق المنعزلة الراكدة مثل كايسيري وغازي عنتاب إلى مدن مزدهرة.

تستمد السياسة الحازمة الجديدة لحزب العدالة والتنمية الحاكم تجاه الشرق الأوسط ثقتها من تلك البدايات التجارية المتواضعة. وكذلك، عندما يوبخ رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان إسرائيل علنا، فهو يضع عينه على الشارع العربي، بالقدر ذاته الذي يضعه على الأسواق العربية. ويشيع في جميع أنحاء تركيا أن حزب العدالة والتنمية تمكن من رفض قروض صندوق النقد الدولي في العام الماضي نظرا لمليارات الدولارات من الاستثمارات العربية المباشرة في تركيا.

وتأتي لهجة الخطاب القوية لحزب العدالة والتنمية أثناء حادثة الأسطول المتجه إلى غزة في شهر يونيو (حزيران) الماضي جزءا من اتجاه يوصف منذ عام 2007 بالعثمانية الجديدة. كما كان توسع آل عثمان مدفوعا بالربح، كذلك أيضا الطبقة السياسية التجارية التركية الجديدة يدفعها الاتجاه الإسلامي التقليدي والتعطش لأسواق جديدة.

تعج الرحلات المباشرة إلى كابل برجال الأعمال، كما تنبعث اللغة التركية من بارات كابل التي تحيط بها أكياس الرمل، بالإضافة إلى الهيمنة على المناخ الصوفي أيضا. كما تغذي المطاعم التركية ازدهار ليبيا المعتمد على البترول، ووقع أقطاب البناء الأتراك عقودا لتشكيل سماء طرابلس بالصلب والزجاج. كما أبهرت المسلسلات التي تحاكي الطراز البرازيلي وتصور مغامرات رومانسية تتم في أنماط حياة مذهلة، الجماهير السورية والمصرية والإماراتية، نظرا لقدرتها على طرح رؤية بديلة حول ممارسة المسلم لحياته. ومن جهة أخرى، تزايد عدد السائحين العرب الذين يزورون اسطنبول، والذين سافروا إلى هناك ليس سعيا وراء المطبخ والمعمار العثماني ولكن للتجول في المناطق التي شاهدوها في مسلسلاتهم المفضلة. وسياسيا، تمكن أردوغان من أن يتغلب على الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد على الساحة العالمية كزعيم إسلامي يستطيع الحديث بجرأة.

وخلال العامين الماضيين، أقصى أردوغان تركيا، عضو حلف شمال الأطلسي، عن سياستها الخارجية الموالية تقليديا للغرب. خاصة بعد انسحابه الشهير من قمة دافوس عام 2009، بعد كلمة شيمعون بيريس، التي اتهم فيها إسرائيل بالخداع نظرا لاستمرارها في التفاوض مع سورية رغم أنها كانت تخطط لغزو غزة في 2008. وخلال يونيو الماضي، تخلى حتى وزير الخارجية المثقف أحمد داود أوغلو عن هدوئه خلال المؤتمر الأمني المغلق في اسطنبول، وأخبر السفير الإسرائيلي بغضب أن على دولته أن تتوقف عن التصرف بفردية، وذلك وفقا لما ذكره أحد الدبلوماسيين.

يقول دوغان تيليك الكاتب اليساري ومؤلف كتاب «أخجل من الاعتراف بأنني صحافي»: «يقفون في مواجهة إسرائيل من جهة، فيما يحاولون التقرب للعالم العربي والإسلامي من جهة أخرى، كما لو أن تلك الخطوة هي نتاج طبيعي للأخرى». مضيفا: «ليس لإسرائيل أهمية اقتصادية بالنسبة لتركيا، بينما يمثل الشرق الأوسط سوقا كبيرة بالنسبة لها، وبالتالي، ليست تلك المواقف فقط نتاج لخلفية أردوغان الآيديولوجية ولكن هناك أيضا أسبابا تجارية وسياسية».

وكدولة تقع في غرب آسيا، بدأت تركيا في التواصل مع الغرب مباشرة بعد تأسيسها على أنقاض الإمبراطورية العثمانية التي كانت أراضيها تمتد حتى تخوم فيينا. فقد قام مصطفى كمال القائد الميال للغرب، الذي ينحدر من مدينة سالونيك، باستبدال الأبجدية العربية بالأبجدية اللاتينية وبفرض الموسيقى الكلاسيكية على الأغاني الشعبية ومنع الأخويات الصوفية، وحظر ارتداء العمامة وكل الرموز الأخرى التي اعتبرها رمزا للخرافات الشعبية الدينية.

وخلال الحرب الباردة، أصبحت تركيا حائط صد غربي. وحاليا، لديها عاشر أكبر عدد للقوات في أفغانستان. وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الاتحاد الأوروبي، ما زالت تسعى أنقرة للانضمام للنادي الغربي.

ومع ذلك كانت السياسة التركية وما زالت تحمل صبغة عدم ثقة أتاتورك في الغرب. فعلى الرغم من احتفائه بالثقافة الغربية، فإنه لم يستطع أن ينسى تشجيع الحلفاء لليونان على الغزو عام 1919، على أمل أن يساهم ذلك في التعجيل بانهيار الإمبراطورية العثمانية الآيلة للسقوط. كما أنه كان واعيا بأنه عند نهاية الحرب العالمية الأولى، تحركت البحرية البريطانية والفرنسية باتجاه مضيق البوسفور. ونظرا لوعيه بذلك، أنشأ أتاتورك عاصمة جديدة في مأمن من الغزو البحري حيث أقامها في قلب شبه جزيرة الأناضول.

والآن، اكتسبت تركيا الثقة في الذات، ويركز أردوغان السياسة الخارجية لتركيا باتجاه الشرق الأوسط والبلقان، كما أنه يعقد اجتماعات بالغة الأهمية في المدينة العثمانية القديمة اسطنبول. وفي الوقت نفسه، ما زال مستمرا في تحديث البلاد من خلال ريادته لمشروع كبير للإسكان تموله الحكومة بتكلفة منخفضة. كما أصبحت ناطحات السحاب تملأ سماء الأناضول مغيرة أسلوب المعيشة التقليدي في البلاد.

ويقول كرستوس تيازيز، الخبير التركي، الذي أعد دراسة تدور حول حزب العدالة والتنمية التركي: «إنه يشجع الفردية. عندما بدأ الاتجاه إلى الحضر في الخمسينات، التحقت قرى بأكملها بالمدينة كأحياء. وقد قوضت تلك المساكن هذه الظاهرة من خلال تحطيم ثقافة الحياة مع العائلة والأقارب وتشجيع الحياة في وحدات مستقلة».

كما أن المجتمع التركي يتغير أيضا، حيث تم إنهاء صراع الشعب مع مسألة ارتداء الحجاب في الأماكن الحكومية لصالح ميل الحكومة لرفع الحظر. وفي أحد البرامج التلفزيونية الصباحية، تم استبدال أساتذة الجامعة كخبراء بالباحثين الدينيين الذين يعطون آراءهم وفقا للقرآن.

ويقول غراهام فولر، المحلل السابق بالاستخبارات المركزية الأميركية ومؤلف كتابي «جمهورية تركيا الجديدة»، و«العالم من دون الإسلام» الذي يعتقد أن العثمانية ما زالت قائمة: «لقد بدأت تركيا في العودة إلى حالتها السابقة بعد 150 عاما، كما أنها أصبحت تتطلع حتى إلى ما بعد التخوم القديمة للدولة العثمانية. وما زال هناك التاريخ التركي الطوراني - أحد أكثر المجموعات اللغوية انتشارا في العالم - والروابط البعيدة بالثقافات العالمية مثل الإمبراطورية المغولية، والنفوذ التركي في القوقاز ووسط آسيا، والجذور التركية في الصين».

وعندما تخلى فتح الله غولان، الرمز الديني بالنسبة للملايين من الأتراك عن صمته في منفاه بالولايات المتحدة الأميركية، لانتقاد الهجوم على أسطول غزة، فإنه ألقى الضوء على أن ازدياد النفوذ الإسلامي في السياسة التركية يشق الجبهة الإسلامية ويبرز صراعاتها إلى العيان. لقد كان أردوغان قبل ذلك أحد مريدي غولان ولكن، من الواضح أنه نظرا لمخاوفه المتعلقة برغبة واشنطن في التخلص منه، قد ابتعد عن معلمه. كما أعلن مؤخرا: «تعرف الأمة التركية جيدا من الذي تعمل المنظمة الإرهابية نيابة عنه».

ويقول فولر: «لم تعد الشمس تشرق وتغرب على الهوى الغربي. حيث إن رؤية داود أوغلو للسياسة الخارجية هي السائدة، ومن المرجح أن تستمر بشكل أو بآخر بعد خروج حزب العدالة والتنمية من السلطة».

في أحد المراكز التجارية الفاخرة بأنقرة، كان تيزيس يتجول، مشاهدا الناس وهي تمر: «إنها إحدى علامات الزمن، أن تقوم المحجبات بالشراء، فيما تكتفي العلمانيات غير المحجبات بمشاهدة المحلات».

 

*إياسون أثاناسياديس: صحافي يعيش في اسطنبول ويغطي أخبار تركيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وعاش منذ 1999 في القاهرة ودمشق والدوحة وصنعاء وطهران.

font change