المصالحة الفلسطينية مؤجلة جدًا

المصالحة الفلسطينية مؤجلة جدًا

[escenic_image id="5535053"]

 لكن الانقسام الراهن بين فتح وحماس هو الأكثر عمقًا وخطورة بين الانقسامات الكثيرة التي عرفتها الساحة الفلسطينية، ولا ترجع خطورة هذا الانقسام إلى أنه جاء مصحوبًا بسفك للدم الفلسطيني على يد أشقاء في الوطن، فقد سال الدم الفلسطيني قبل ذلك في الصراعات بين الفلسطينيين، لكن عمق هذا الانقسام وخطورته وصعوبة إيجاد حل له ترجع إلى عوامل أربعة، إقليمية Territorial، ومؤسسية وسياسة، وإقليمية Regional.

فاستيلاء حماس على قطاع غزة أدى إلى تقسيم الوطن الفلسطيني بين الفلسطينيين أنفسهم، لأول مرة، فأقام كل طرف من الأطراف المتناحرة لنفسه سلطة يزعم شرعيتها على جزء من الوطن الفلسطيني.. لقد انقسم الوطن الفلسطيني طويلًا قبل ذلك، فقد توزع لعقدين من الزمان بين إسرائيل والأردن ومصر، لكن هذا الانقسام لم يؤد سوى إلى صعود الهوية الوطنية الفلسطينية وخلق أسباب التوحيد السياسي والنفسي للشعب الفلسطيني، أما هذه المرة فقد ساهم تقسيم الوطن الفلسطيني بين الفلسطينيين أنفسهم في تعزيز قوة الأطراف المنقسمة بعضها إزاء بعض، والأهم من هذا هو أن الغنيمة المتاحة في يد كل طرف، أي الأراضي الفلسطينية، لها قيمة مادية ومعنوية هائلة لا تسهل إظهار المرونة في أي مباحثات للمصالحة.. فالمصالحة الفلسطينية في هذه المرة لا يمكن لها أن تتم إلا بتنازل أحد الطرفين عن أرض يسيطر عليها، وهو قرار شديد الصعوبة بالنسبة لأي قائد أو مسئول، فينما يمكن التنازل عن هذا الموقف أو ذاك، كما قد يكون من الممكن إظهار بعض اللين في المواقف السياسية على سبيل المناورة أو اختبار نوايا الطرف الآخر، فإن مثل هذا النوع من التنازلات والمساومات هو من النوع الذي يمكن التراجع عنه بلا تكلفة تذكر، الأمر الذي لا ينطبق على السيطرة على الأرض، فما إن يقدم أي طرف تنازلًا بهذا الخصوص إلا وكان من الصعب عليه التراجع عنه بعد ذلك، فلا مجال للمناورة عندما يتعلق الأمر بالسيطرة على الأرض.

الانقسام السياسي والأيديولوجي الفلسطيني المعزز بتقسيم الأرض الفلسطينية بين سلطتين ساهم في تدعيم البعد المؤسسي للانقسام الفلسطيني الراهن بين فتح وحماس، ففي خبرات الانقسام الفلسطيني السابقة كان الصراع يدور تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، أو كان يدور تحت مظلة هذا الفصيل أو ذاك، مثلما دار الصراع بين قيادة فتح الرسمية وفئات منشقة عنها، أما الصراع بين فتح وحماس، على العكس من ذلك، فإنه لا يدور ضمن أي إطار مؤسسي مشترك.

صحيح أن الطرفين من الناحية الدستورية يتنازعان تحت لافتة وشرعية السلطة الوطنية الفلسطينية، إلا أن الانفصال الإقليمي بين نطاق سلطة كل منهما يجعل لهذا التنازع قيمة رمزية أكثر منها قيمة فعلية.

ومنذ سيطرت حماس على قطاع غزة أخذ قسما الوطن الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة يتطوران في اتجاهات متعارضة في مجالات عدة. فهناك مؤسسات سياسية مستقلة تمامًا عن بعضها البعض في الضفة والقطاع، وكذلك الحال بالنسبة للمؤسسات الأمنية التي يعمل كل منها وفقًا لقواعد وهياكل تنظيمية ولتحقيق أهداف مختلفة تمامًا. وفي المجال التشريعي يتطور الضفة والقطاع في اتجاهين مختلفين، فبينما يتم فرض قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية على السكان في قطاع غزة، فإن النظام التشريعي في الضفة الغربية يتطور وفقًا لمبادئ الوطنية الإقليمية والوسطية الإسلامية المعتدلة السائدة في أغلب دول المنطقة، أما بالنسبة لهياكل الاقتصاد وسياسات التنمية الاقتصادية، فبينما تشهد الضفة الغربية سياسات إدارة وتنمية تسعى لإقامة اقتصاد طبيعي يعتمد على القطاع الخاص والانفتاح على العالم وتحكمه قواعد قانونية واضحة وشفافة، فإن اقتصاد غزة أقرب لاقتصاد الكفاف الذي لا يسعى لأكثر من الإبقاء على حياة السكان، في ظل ظروف الحصار والعزلة عن العالم والروح العسكرية ونظم الطوارئ الاستثنائية المفروضة على غزة بفعل الحصار الخارجي من ناحية، وطبيعة أيديولوجيا حماس الدينية المتشددة من ناحية أخرى.

وعلى المستوى السياسي فإن التناقض الأيديولوجي بين الوطنية الإقليمية شبه العلمانية لحركة فتح والسلطة الوطنية الفلسطينية من ناحية، والأصولية الإسلامية المتشددة لحركة حماس وحكومة غزة من ناحية أخرى تجعل من الصعب تحقيق المصالحة بين الفريقين والسلطتين، ولا يمكن اعتبار المجتمع الفلسطيني بدعًا في هذا المجال، ففي أغلب المجتمعات العربية والإسلامية مازال الخصام والتناقض بين هذين الجناحين اللذين يحتلان المساحة الأكبر من المجالس السياسية في المنطقة هو سيد الموقف، ومازالت عملية البحث  عن حلول وسط وقواعد للتعايش بينهما دائرة بلا استقرار على صيغة نهائية تحل التوتر بين الإسلام والدولة وبين الديني والمدني في المجتمعات العربية والإسلامية.

أهم ما يميز الخبرة الفلسطينية في هذا المجال هو أن الاستقطاب بين هذين الجناحين حدث في مرحلة مبكرة قبل الحصول على الاستقلال وقبل استكمال بناء الدولة الوطنية، على عكس خبرة أغلب بلاد المنطقة التي تأخر فيها الانقسام لما بعد الاستقلال وبناء الدولة الوطنية وتعزيزها، فالصراع بين التيار الوطني والإسلامي في بلاد المنطقة المختلفة يدور حول تكييف الدولة الوطنية شبه العلمانية لمقتضيات صعود تيار الإسلام السياسي، وهو صراع، على قدر شراسته وصعوبته، يدور على خلفية مؤسسية ودستورية محددة هي خلفية الدولة الوطنية المستقلة، ذات السيادة وذات القاعدة الإقليمية المحددة، أما في الحالة الفلسطينية فإن الصراع الدائر بين التيارين هو صراع تأسيسي بين رؤيتين مستقبليتين للوطن والإقليم الذي يجب أن يقوم عليه والدولة وفلسفة بنائها وعلاقاتها بالمحيط الإقليمي والدولي خاصة بإسرائيل، وحتى الآن فإن أيًا من الطرفين لم يستطع البرهنة بما لا يقبل مجالًا للشك على أن رؤيته واختياراته تمثل الاختيار الفعال القادر على الوصول بالشعب الفلسطيني إلى أهدافه الوطنية. فلا المفاوضات التي يعتمدها المعتدلون ولا المقاومة والكفاح المسلح الذي يعتمده المتشددون أثبتا فعاليتهما المؤكدة، الأمر الذي يبقي الانقسام الفلسطيني على أرضية صراعات الرؤى والأيديولوجيات والمراهنة على المستقبل، وليس على أرضية الخلاف على السياسات الأكثر فعالية لتحقيق الأهداف الوطنية للفلسطينيين.

الانقسام الفلسطيني، إذن، تعززه عوامل موضوعية موجودة في البيئة الفلسطينية، وتعززه بالإضافة إلى ذلك عوامل أخرى موجودة في البيئة الإقليمية الأوسع نطاقًا. فالانقسام بين الفلسطينيين هو جزء عضوي من الانقسام الراهن في الشرق الأوسط بين معتدلين ومتشددين. فكل من طرفي الانقسام الفلسطيني يتمتع بتأييد ودعم واحدة من الكتلتين الإقليميتين الكبيرتين، والأرجح أن تجسير الفجوة بين الفلسطينيين المنقسمين لن يتم قبل أن يتم تجسيرها على المستوى الإقليمي أولًا، الأمر الذي لا يتوقع حدوثه في المستقبل القريب.

font change