غياب القيادة الفعالة وراء فشل جولة الدوحة

غياب القيادة الفعالة وراء فشل جولة الدوحة

[escenic_image id="5530510"]

يتضمن النموذج التقليدي للمفاوضات التجارية متعددة الأطراف تحرير التجارة من خلال تخفيضات التعريفة الجمركية وإزالة العوائق غير الجمركية. وينطوي هذا النموذج على توقعات بمشاركة نشطة من قبل 40 دولة؛ تمثل 90% من التجارة الدولية، ومن بين النتائج الأخرى أن انصرف اهتمام العديد من أعضاء اتفاقية الجات في فترة الستينيات والسبعينيات عن هذه المفاوضات، وقد أدى ذلك إلى تشويه النتائج مع تضاؤل التقدم المحرز في الجوانب التي تمثل أهمية كبيرة بالنسبة لمصالح الدول النامية، والتي اتخذ فيها اللاعبون الرئيسيون موقفًا دفاعيًا من خلال الزراعة والمنسوجات.
  
وقد بدأت جولة الدوحة بنموذج مماثل وباختلافين رئيسيين؛ أولهما أنه عقب التقدم الذي تم إحرازه في التعامل مع النوعيات الأخرى من العوائق، تم التأكيد بشكل مكثف على الحاجة للتعامل مع التشوهات التجارية؛ خصوصًا تأثيرات التصدير والدعم الحكومي للقطاع الزراعي في الولايات المتحدة وأوروبا، وثانيهما تزايد عدد المشاركين النشطين ليصبح 120 أو أكثر.

وعلى مدار أكثر من ثمانية أعوام – من نوفمبر/تشرين ثانٍ 2001 إلى مارس/آذار 2010، تمر مفاوضات جولة الدوحة بلحظات قصيرة من التقدم بين فترات طويلة من الفشل؛ حيث لا يتم الوفاء بالمواعيد النهائية المتفق عليها، ويحدث انهيار للمناقشات دون تحقيق أي نتائج، ورغم التركيز الشديد على قطاعي الزراعة والتخفيضات الجمركية التي تيسر إجراءات دخول السوق غير الزراعي، فإن الجولة أخفقت في تحقيق النتائج المتفق عليها؛ وأخفقت أيضًا في تحقيق التقدم المطلوب في جوانب أخرى مثل الخدمات والتنظيمات والقواعد والملكية الفكرية الذي كان من الممكن أن يحقق اتفاقًا أكثر توازنًا.   وعلى الأقل هناك شك فيما إذا كانت جولة الدوحة ستحقق نجاحًا أم لا. إذن ما أسباب ذلك؟


أكثر الأسباب وضوحًا تتمثل في أن المفاوضات حاولت لوقت طويل جدًا التوصل إلى صيغة اتفاق مقبولة للدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية والبالغ عددها 150 دولة دون تحقيق نجاح كبير. وحتى قبل بدء الجولة في الدوحة بدولة قطر في نهاية عام 2001، كان قد حدث انهيار فعلي للمحادثات في سياتل عام 1999، كما حدث انهيار ثانٍ في كانكون بالمكسيك في عام 2003، خلال سريان المفاوضات. وفي عام 2005، عُقد مؤتمر وزاري لم يحقق تقدمًا فعليًا؛ ثم توالت انتكاسات الجولة في عامي 2007 و2008، كما أنه لم يتحقق أي نجاح مطلقًا في جولة عام 2009؛ والذي يمثل العام الأول لإدارة أوباما.  

ومن بين الأسباب الرئيسية التي تقف وراء إخفاق جولة الدوحة أن نموذج التفاوض المصمم في نهاية التسعينيات لم يعد يناسب احتياجات الأعضاء. وقد بُذلت الجهود في مؤتمر الدوحة لإعادة صياغة النموذج بطريقة تعزز التنمية، لكن هذا أيضًا لم يكن مرضيًا بالشكل الكافي. فقد أثار توقعات مبالغًا فيها أنه سيتم التعامل مع مشكلات الفقر والتهميش بشكل جاد.. لكن هذه الجهود لم تُكلل بتحقيق شيء على أرض الواقع.

ومن بين العوامل الأخرى وراء فشل الجولة غياب القيادة الفاعلة  سواء على أعلى مستوى سياسي (قمة مجموعة الثماني أو مجموعة العشرين) أو بين المشاركين بشكل رئيسي في التفاوض. وفي أعقاب جولة أورجواي كان من المنتظر أن يتم التحرك بشكل سريع لإيجاد مجموعة تخلف المجموعة الرباعية (وهي تضم الولايات المتحدة والمفوضية الأوروبية واليابان وكندا) التي كانت تتولى القيادة في السابق. ولم يتم تشكيل مجموعة المصدرين الزراعيين سوى في عام 2003، والتي تم تحويلها بعد ذلك إلى مجموعات أصغر (مجموعة الأربعة مع مجموعة الخمسة أو مجموعة الستة أحيانًا)؛ لكنه ثبُت عدم قدرتها على التوصل من خلال التفاوض إلى تسوية تقبلها المجموعات المختلفة من الدول التي لديها مصالح متشعبة. وعلى النقيض من ذلك، يزداد انقسام الأعضاء إلى مجموعات ذات أهداف متضاربة؛ كتأييد ومعارضة التعريفات الجمركية أو تركيز بعضها على الصادرات الزراعية في حين يدافع بعضها الآخر عن الأمن الغذائي.   

والعامل الرئيسي الثالث قد يكون هو تحقيق نتيجة "طموحة ومتوازنة"، تبدو الآن بعيدة عن متناول معظم المشاركين. ويكفي إلقاء نظرة سريعة على تعقيدات المفاوضات في مجال "تخفيض التعريفة الجمركية من أجل الوصول إلى السوق غير الزراعي"، وعلى الجهد المبذول لخفض الدعم المحلي في القطاع الزراعي، لإثبات مدى صحة هذه النقطة. ومن الواضح أن العملية أصبحت متطورة جدًا (وبالغة التعقيد)، ومن ثم فهي في حاجة إلى التبسيط، بحيث يمكن التحكم فيها و إداراتها بشكل جيد.

ومن ثم هل مازال بالإمكان العثور على حل؟ لقد كتب الكثير من المراقبين في العالم الأكاديمي ووسائل الإعلام عن فشل الجولة، بعد سنوات طويلة من وجودها في غرفة العناية المركزة، لينتهي بها المطاف في نهاية الأمر إلى حرق جثتها المتعفنة في محرقة الجثث. ولكنني متفائل نوعًا، حيث مازال بالإمكان إنقاذ الجولة، إذا ما أدركت الدول الرئيسية أن الأهداف الأصلية الطموحة  للتحرير، التي تم وضعها في عام 2001، لم يعد بالإمكان تحقيقها. فالدول الرئيسية لا تفعل شيئًا في الوقت الحالي سوى ضرب رءوسها في الصخر، و ليست هناك إرادة سياسية كافية لبذل الجهد للتغلب على العقبات الموجودة. وقد شرعت منظمة التجارة العالمية في القيام بعملية تقييم لمعرفة ما يمكن تحقيقه في عام 2010، ولكن في رأيي، فإن تقليل الطموحات، ومحاولة تنفيذ الأهداف على مرحلتين، مرحلة أولى الآن، ومرحلة ثانية في وقت لاحق، تبدو هي أفضل بديل ممكن.


وهناك حاجة إلى وضع أهداف أكثر واقعية وثباتًا بالنسبة لخفض التعريفة الجمركية وتيسير إجراءات دخول السوق إضافة إلى الالتزام بتجميد معدلات الإنفاق الحالية المتعلقة بالدعم الحكومي للزراعة والتقليل التدريجي من هذه المعدلات. وسوف تؤدي الأساليب الأقل صرامة في خفض التعريفات إلى تقليل الاستثناءات والاتفاقات الخاصة للأخذ في الحسبان سمات معينة تتسم بها كل دولة على حدة. ربما يكون سقف الطموح هذا أقل مما هو مخطط له؛ لكن من الممكن بلوغه ويمكن أن يكون أفضل من الفشل التام. بيد أنه لا تزال أفكار كهذه تسبب حالة من عدم الارتياح في واشنطن وبروكسيل بالرغم من أنها قد تستحوذ على اهتمام دلهي وبكين.

font change