محاولات القاعدة إضفاء الشرعية على قتل المسلمين الأبرياء

محاولات القاعدة إضفاء الشرعية على قتل المسلمين الأبرياء

[escenic_image id="5526405"]

في الثاني عشر من ديسمبر/كانون أول الماضي، ظهر المتحدث الرسمي لتنظيم القاعدة، آدم جادان، وهو يلقي بيانًا باللغة الإنجليزية في مقطع فيديو قامت القاعدة بعرضه على عدة مواقع جهادية على الإنترنت. وفى مقطع الفيديو الذي يحمل عنوان "المجاهدون لا يستهدفون المسلمين"، يدعي جادان أن وكالة الاستخبارات المركزية، وشركة "بلاك ووتر"، المتخصصة في تقديم الخدمات العسكرية، ووكالة الاستخبارات الباكستانية المشتركة، وجهاز المخابرات الهندي المعروف بـ"جناح البحث والتحليل"هي الجهات التي قامت بارتكاب التفجيرات الانتحارية التي وقعت في أفغانستان وباكستان في ذلك الوقت، ثم قامت بتحميل تنظيم القاعدة مسئولية ما ارتكبوه هم من أفعال .. ويؤكد جادان أن هذه التفجيرات التي أدت إلى قتل المدنيين المسلمين في الأسواق المزدحمة والمساجد والمحال التجارية والمدارس تم تنفيذها بغرض تشويه صورة تنظيم القاعدة.

كما زعم جادان أن تنظيم القاعدة كان دومًا يدين الهجمات التي تستهدف المسلمين الأبرياء، مشيرًا إلى أن الشريعة الإسلامية لا تتساهل في هذا الصدد. ومن ثم فقد قدم جادان، بالنيابة عن تنظيم القاعدة، أخلص تعازيه لأسر الرجال والنساء والأطفال المسلمين الذين قتلوا في هذه الأعمال الإجرامية قائلًا: "نسأل اللـه أن يرحم الذين قتلوا وأن يتقبلهم كشهداء... كما ندعو بالرحمة أيضًا للضحايا المسلمين في العمليات العسكرية التي يقوم بها المجاهدون ضد الصليبيين وحلفائهم". ويطلب جادان بعد ذلك من أنصاره في المنطقة ألا يتوقفوا عن تقديم المساعدة "المعنوية والمادية والمالية".

ومن الواضح أن الغرض من وراء بيان جادان هو التنصل وتقديم تعزية خاصة مقصورة على ضحايا الحرب الأبرياء من المسلمين فقط. ومن المثير للاهتمام، أننا عندما نقوم باستعراض سريع لطريقة تنظيم القاعدة في التعامل مع ما يعتبرونه أهدافًا مشروعة في الحرب، تتضح ظاهرتان في غاية الأهمية؛ أولاهما أن التنظيم كان يتبنى مفهومًا أكثر شمولية لمن يعدهم من ضحايا الحرب "الأبرياء"، وأنه توسع تدريجيًا في تفسيره للأحكام الشرعية الإسلامية المتعلقة بسلوك المقاتلين المسلمين أثناء الحرب، حتى أن التنظيم قد ارتكز في بعض الأحيان لأحكام فقيهة مستنبطة لم تكن موجودة من قبل في الشريعة الإسلامية. وثانيًا، فقد أثارت هذه التفسيرات المتساهلة والأحكام المستنبطة، وما صاحبها من ممارسات، موجة من الانتقادات الحادة بين علماء وفقهاء المسلمين، مما باعد بين القاعدة وغيرها من التنظيمات الأصولية والفصائل المنتمية للإسلام الراديكالي.

تحديد الخسائر الجانبية

يروي الصحفي بيتر بيرجن قصة رفض بن لادن المضي قدمًا في تنفيذ خطة مبدئية لاغتيال الملك الأفغاني محمد ظاهر شاه في عام 1991. وقد أرجع بيرجن رفض بن لادن إلى خوفه من تعريض حفيد الملك للخطر. وعندما اعترض باولو ألميدا سانتوس، وهو برتغالي اعتنق الإسلام وكان مكلفًا بتنفيذ عملية الاغتيال، وزعم أنه من الممكن اعتبار الطفل من ضمن الخسائر الجانبية، رد عليه بن لادن قائلًا: "إن هذا لا يجوز بأي حال من الأحوال! .. فنحن مسلمون، والمسلمون لا يقتلون الأطفال!". وقد ذكر ألميدا سانتوس فيما بعد أن بن لادن"يفضل أن يخاطر بعودة الملك واندلاع حرب أهلية، عن أن يأمر بقتل أحد الأطفال." وفي موقف مشابه، أجاب بن لادن عندما سئل عن قتل المدنيين الأمريكيين بقوله: "إن الحكومة الأمريكية شيء، والشعب الأمريكي شيء آخر. فغالبية الأمريكيين لا يبالون بالمرة، لدرجة أنهم لا يذهبون حتى للإدلاء بأصواتهم". ويوضح لنا هذا كيف كان بن لادن صارمًا فيما يتعلق بالحفاظ على أرواح الأبرياء من غير المقاتلين.

ولكن حدث تغيير كبير في موقف القاعدة من مسألة الحفاظ على أرواح الأبرياء مع خروج "بيان الجبهة الإسلامية العالمية" عام 1998. فهذه الوثيقة لم تكتف بمجرد السماح للمجاهدين بقتل الأبرياء، بل كانت بمثابة دعوة لحض المسلمين على قتل الأمريكيين وحلفائهم، سواء أكانوا مدنيين أم عسكريين. وقد كان هذا "البيان"، بما احتوى عليه من حض على الجهاد الدفاعي، متأثرًا بكتابات ابن تيمية، والتي قدمت نماذج سابقة لحركات المقاومة الإسلامية. كما أن هذا الجهاد يعتمد على خطاب حماسي يحذر من "الطبيعة الشريرة والخبيثة للعدو"، مما سمح لتنظيم القاعدة بنقل سلطة العلماء الدينية إلى المقاتلين، بحيث أصبح من حقهم من الآن فصاعدًا أن يقرروا بأنفسهم ما هو التفسير الصحيح للشريعة الإسلامية.

وقد أظهرت هجمات 11 سبتمبر/أيلول، ورغبة القاعدة في الحصول على أسلحة الدمار الشامل، بوضوح، المفهوم الجديد  الذي تتبناه القاعدة فيما يتعلق بالأهداف التي تعتبرها أهدافًا عسكرية مشروعة. وقد بررت القاعدة مفهومها الجديد بالإشارة إلى الذنب الذي يحمله جميع المواطنين الذين يعيشون في ظل نظام ديمقراطي. وزعمت القاعدة أن "1,200,000 مسلم قد قتلوا في العقد الماضي" على أيدي الأمريكيين، وأن هذا من شأنه أن يضفي الشرعية على قتل "4,000,000 أمريكي"، من بينهم "2,000,000 طفل". ومثل هذا المنطق القائم على الانتقام و الأخذ بالثأر لا يضع في اعتباره المسلمين الأبرياء الذين قُتلوا خطأً على يد الأمريكيين.

وقد أثار موقف القاعدة الجديد وتبنيها لتكتيكات عشوائية في القتال انتقادات حادة من جانب علماء الإسلام، من بينهم شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي والمفكر الإخواني المعروف، الدكتور يوسف القرضاوي. حيث أكد القرضاوي في عام 2002، والمعروف بتأييده لحركات المقاومة الإسلامية في الشيشان وغيرها من الأماكن، على فكرة عدم وجود سلطة إسلامية شرعية في الوقت الراهن لديها الحق في إعلان الجهاد، وعلى ضرورة تطبيق المبادئ الأخلاقية الكريمة التي تنص عليها الشريعة الإسلامية في الحرب، حتى لو كانت هذه الحرب حربًا دفاعية طارئة.

وفيما يتعلق بقتل المسلمين الأبرياء، كانت القاعدة تعتمد، حتى وقت قريب، على خطاب أخلاقي يحتوي على الكثير من القيود. فكما يوضح الباحث كوينتن وكترووسز، لم تتهم القاعدة قطاعات كبيرة من السكان المسلمين بتهمة الارتداد عن الدين، مما كان سيجعلهم عرضة للاستهداف من قبل التنظيم، لأنها كانت تعتبر الحكومات العربية هي المسئولة عما يعيشون فيه من ضلال. وبالتالي، فقد كان المسئولون الحكوميون المرتدون والكفار هما الأهداف المشروعة الوحيدة لتنظيم القاعدة. وكان المبرر الوحيد لقتل أحد المسلمين، هو أن يكون هذا القتل قد تم عن طريق الخطأ، ومن ثم كان ينبغي تعويض عائلات هؤلاء الضحايا ودفع 'الدية' لهم.

ومع ذلك، فإن التفجيرات التي حدثت في عام 2003 في الرياض والدار البيضاء وتساقط عدد متزايد من الضحايا من المسلمين الأبرياء من جراء هجمات القاعدة في العراق وأفغانستان وباكستان تبدو متناقضة مع هذا الخطاب الأخلاقي.

وفي عام 2008، أضاف أحد مساعدي بن لادن، وهو أيمن الظواهري، فكرة أخرى استقاها من العصور الوسطى لتبرير قتل المسلمين الأبرياء وهى أن "الضرورات تبيح المحظورات، كما تنص على ذلك قاعدة " التترس ". التي تبيح لجيوش المسلمين قتل وجرح المسلمين، في حالة استخدام الجيوش غير المسلمة لهم كدروع بشرية. وقد اعتمد الظواهري في تفسيره هذا على الكتابات الدينية المتشددة لأحد مفكري القاعدة البارزين وهو" الليبي "، الذي قام أخيرًا بإعادة تفسير قاعدة التترس قائلًا:"هناك أشكال جديدة من الدروع البشرية التي لم يورد فقهاء الإسلام ذكرها لأنهم لم يكونوا يعرفون سوى الأسلحة التي كانت موجودة في عصرهم".

وقد قوبل موقف القاعدة من موضوع "التترس" بردود فعل عنيفة من جانب الفقهاء المسلمين. الذين أكدوا أن قاعدة التترس لا تصلح كحجة كافية لتبرير العمليات التي يقوم بها تنظيم القاعدة. كما بين أيضًا، الدكتور فضل - وهو أحد المنشقين عن تنظيم القاعدة - أن تفسير قاعدة التترس بهذا الشكل يمكن أن يصبح آلية فعالة من شأنها تصعيد قتل المسلمين، وذلك بسبب الخلافات الطائفية والقومية. ومن ناحية أخرى، أظهر الباحثان، جيف بارشمان وعبد اللـه وروس، كيف أن هذا التفسير الثوري الذي قدمه الليبي يغفل النصوص الصريحة، التي تنص على وجوب دفع "الدية"، كتعويض مادي عن الأضرار التي لحقت بالبشر والممتلكات.

ومن الواضح أن الغرض من وراء هذا التوسع في مفهوم "قتل الأبرياء" هو زيادة عدد الأهداف المشروعة، ولم يكن إحداث مثل هذه التغييرات الكبيرة ممكنًا دون خلق جو من الطوارئ وحالات الضرورة. ولكن مع ذلك جاءت ردود فعل الجماعات الإسلامية الأصولية المتطرفة رافضة لمثل هذه الممارسات اللاأخلاقية في الحرب.


الارتقاء إلى مستوى التوقعات

قبل بضعة أيام من صدور مقطع الفيديو الخاص بجادان، أعلن جناح تنظيم القاعدة في العراق مسئوليته عن ثلاث هجمات كبرى، نتج عنها إصابة عدد كبير من الضحايا المسلمين. فعلى سبيل المثال وقعت عدة انفجارات في بغداد في الثامن من ديسمبر/كانون أول، حيث انفجرت مجموعة من الشاحنات المفخخة أمام أحد المباني الحكومية، وفى أحد الأحياء وفى منطقة تجارية، مما أسفر عن مقتل 127 شخصًا وإصابة 448 آخرين. وتعد هذه الأمثلة المتكررة أكبر دليل على عدم صحة ادعاء القاعدة بأنها تقاتل بشرف، فهي تخالف المبررات الأخلاقية للتنظيم نفسه. فالمسألة ليست مسألة قتل خطأ، أو قتل ناتج عن تطبيق قاعدة التترس، بقدر ما هي، في أفضل الأحول، عدم اكتراث ووحشية وفشل في تنسيق المصالح والإجراءات بين الأفرع المختلفة لتنظيم القاعدة، وفي أسوأ الأحوال، يزعمون أن هذه تعد حربًا إرهابية ضد الأنظمة والشعوب "المرتدة".

ومن المرجح أن يكون مقطع الفيديو الخاص بجادان قد جاء ردًا على التقرير الذي أصدره حديثًا مركز مكافحة الإرهاب في وست بوينت، حيث خلص التقرير إلى أن 85 ٪ من ضحايا العمليات العسكرية التي نفذها تنظيم القاعدة في الفترة من 2004 إلى 2008 من جنسيات أخرى بخلاف الدول الغربية، وأن 98 ٪ من الضحايا، في الفترة بين عامي 2006 و2008، كانوا من سكان دول ذات أغلبية مسلمة. كما أن مقطع الفيديو قد ظهر بعد أقل من شهر من إعلان الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية، والحليف السابق لأسامة بن لادن والتي تتمتع بعلاقات شخصية مع كبار القيادات في تنظيم القاعدة، رفضها لأيديولوجية القاعدة والموقف الذي تتخذه من الأبرياء من غير المقاتلين. وقد اعتبرت وكالة "سي إن إن" الإخبارية ما حدث "نصرًا كبيرًا وفتحًا من أكبر الفتوحات ضد الإرهاب الإسلامي منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول".

وشريط الفيديو الذي ظهر فيه جادان متحدثًا باللغة الإنجليزية بمثابة محاولة يائسة لإقناع المسلمين في العالم الغربي بالعدول عن الاعتقاد بأن إخوانهم في الإسلام يتم قتلهم بأعداد ضخمة ومن ثم يحظى بدعمهم المعنوي والمالي. وربما يكون هذا الشريط بمثابة إعلان مخادع بأن القاعدة تسعى الآن من أجل تحقيق المزيد من الحماية لأرواح المسلمين الأبرياء.

وموقف القاعدة فيما يتعلق بحماية الأبرياء خصوصًا المسلمين منهم واتهامها المستمر للعديد من الأنظمة والحركات بالردة كانا بمثابة عاملين رئيسيين لعزل التنظيم بشكل مستمر.

 وهذان العاملان مصدرهما نفس المشكلة وهي السلطة الدينية التي شرعها تنظيم القاعدة لنفسه، والتي أعلنوا عنها في بيان عام 1996. وتواجه القاعدة أزمة تتعلق بشرعيتها إضافة إلى ضعف موقفها المالي في الوقت الحالي.. كما أنها تواجه حالة طوارئ حقيقية قد تدفعها إلى العودة إلى مبدأ "عدم قتل الأبرياء"، وإن كان ذلك أمرًا يصعب على التنظيم أن يحققه.

فرانسيسكو كوربوز - باحث متخصص في أخلاقيات العلاقات الدولية.

font change