البراجماتية في المسار السياسي لحزب العدالة والتنمية التركي

البراجماتية في المسار السياسي لحزب العدالة والتنمية التركي

[escenic_image id="5526375"]

ثمة قضية تثيرها الصفوة العلمانية من الأتراك الذين تلقوا تعليمًا غربيًا ويتحدثون الإنجليزية بشكل جيد، وهذه القضية تتلخص في سؤال يطرحونه على العالم : هل ستصبح تركيا إسلامية؟ وهم بالطبع يقصدون هنا التعارض المستمر بين حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان والمؤسسة التقليدية التركية في مجالات القضاء والبيروقراطية والجيش. وقد بلغت المواجهة مبلغًا جديدًا في فبراير/ شباط عندما أُلقي القبض على جنرالات كبار ضمن تحقيقات حساسة تم إجراؤها ضد شبكة إرهابية يشتبه في أنها تتلقى دعمًا حكوميًا.

بيد أن وصف السيناريو الحالي لتركيا بأنه يجمع بين شقين متناقضين يمثلهما الإسلاميون والعلمانيون وصف مضلل. والحقيقة أن حكومة رجب طيب أردوغان تواجه متاعب جمة لأنها تبنت بعض العادات الجمهورية الكلاسيكية في حكم تركيا. فكيف حدث هذا بعد أن أمضى حزب العدالة والتنمية ثمانية أعوام في الحكم إلى الآن؟ 

 

بناءً على خلفيتنا عن الحركات الإسلامية منذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928، نستطيع أن نقول إن حزب العدالة والتنمية ليس حزبًا إسلاميًا. ومن خلال سياساته وجمهور ناخبيه، يمكننا أن نحكم على الحزب بأنه عبارة عن بوتقة تجمع بين محافظين مخلصين وقوميين أتراك وإصلاحيين ليبراليين ورجال أعمال متدينين. وحتى يحافظ على تماسك هذه الطوائف المختلفة معًا، فإن خط الحزب السياسي ذو طبيعة براجماتية في الأساس؛ ويمكن أن ننظر إلى هذا المسار بأنه يأخذ خطًا متعرجًا كما يمكن اعتباره بمثابة تفسير لأسباب بطء الإصلاحات في بعض الأحيان.

وقد أظهرت الانتخابات التي أجريت في مارس/ آذار من عام 2009، أن حزب العدالة والتنمية يمثل في الأساس حزب الطبقات الوسطى الأناضولية الصاعدة التي تشكل الصفوة القوية المعنية بالتجارة والأعمال، وقد احتفى الحزب بأكبر نجاحاته في منطقة وسط الأناضول، لكنه مُني بهزيمة في مدن البحر المتوسط والشرق الكردستاني. كما أن هناك حزبًا إسلاميًا آخر يشهد نموًا في تركيا وهو حزب السعادة الذي حظي بنسبة 5% من أصوات الناخبين، خصوصًا بين الأتراك الفقراء. 

 

والفترة التي قضاها أردوغان في منصبه يمكن أن نقسمها إلى قسمين متمايزين. فأولًا، خلال سنوات الإصلاح التي بدأت من عام 2003، إلى عام 2005، قام أردوغان بإجراء إصلاحات في تركيا، حيث قام بتحديث القانون الجنائي وتعديل الحقوق المدنية والخفض التدريجي لدور الجيش في السياسة.. لكن الفترة الثانية لأردوغان كانت مشحونة بصراع مستمر من أجل السلطة. فمنذ عام 2006، شهدت تركيا نزاعًا مريرًا حول منصب الرئاسة، واكتُشفت مخططات سرية للأركان العامة من أجل إحداث انقلاب وذلك في أبريل/ نيسان 2007، ورُفعت دعاوى قضائية ضد حزب العدالة والتنمية في عام 2008.

 لكن هناك مفارقة عجيبة في صراع أردوغان مع الصفوة الكلاسيكيين تتمثل في أنه تولى بعض المناصب التقليدية في الحكومة المركزية التركية منها على سبيل المثال مسألة التعامل مع حزب العمال الكردستاني وفي مجال العلاقات الإعلامية وأخيرًا في سياساته الخاصة بالأقلية اليونانية وأرمينيا.

ولعل خطابه الانفعالي والقاطع يعطينا فكرة بأنه حاكم تركي تقليدي يمقت النقد. ويلتقي أردوغان بشكل منتظم مع رئيس الأركان العامة. ومقترحاته الرامية إلى تخفيف حدة المشكلة الكردية تمت الموافقة عليها من قبل ممثلي الجيش في مجلس الأمن الوطني. وقد دافع أردوغان في بعض الأحيان عن الأركان العامة ضد هجمات عنيفة من جانب حزب الشعب الجمهوري المعارض. ويمكننا أن نقول إن طيب أردوغان هو المركز الذي تدور في فلكه الحكومة التركية.    

بل إنه يمكننا القول إنه بمجرد أن يتولى أحد الساسة في تركيا منصب رئيس الوزراء أو منصب رئيس الجمهورية، تدور الدولة بأكملها في فلكه، فالحكومة التركية حكومة شديدة المركزية.. وكان أردوغان فيما مضى يستاء هو ورفاقه السياسيون من هذه المركزية الشديدة في النظام، أما الآن وبعد أن وصلوا إلى السلطة، فقد تعلموا كيف يحبونها. وقد قام الرئيس عبد اللـه جول بتعيين رئيس لوكالة المجلس الأعلى للتعليم، وهي وكالة قوية تشرف على الجامعات التي لها دور حاسم في تشكيل عقول ومهارات الكوادر الاقتصادية والمسئولين الحكوميين المستقبليين.

وبالمثل تم تعيين مدير شبكة "تي آر تي" التليفزيونية المملوكة للدولة عن طريق الرئيس عام 2007، بل إن جول سوف يقوم بتعيين ثلاثة قضاة جدد في المحكمة الدستورية قبل نهاية هذا العام. وفي التحقيق مع العسكريين والمدنيين الذين تآمروا من أجل القيام بانقلاب، تصرف المحققون الموالون للحكومة من وقت لآخر بنفس الطريقة التي كان يتصرف بها القضاة الأتراك في عهد كمال أتاتورك، حيث انتهكوا الحقوق القضائية لمن يجري التحقيق معهم. وتتغير تركيا الآن، بعد ثماني سنوات مع نفس الحكومة ومع رئيس من نفس الحزب، بشكل تدريجي من القمة إلى القاع كما هو الحال بالنسبة لأي دولة تتسم بهذه الدرجة الشديدة من المركزية.

وكان الدستور التركي قد صيغ تحت وصاية الجيش في أوائل الثمانينيات، وقد تحدث رجب طيب أردوغان أكثر من مرة عن الحاجة إلى التغيير الدستوري، لكنه لم يحقق سوى القليل في هذا الاتجاه حتى الآن، وبالتالي لا تزال آفة الأوتوقراطية مترسخة في الكثير من اللوائح وفي كيان الكثير من المؤسسات القيادية العليا، والمثال الصارخ على ذلك هو قانون إغلاق الأحزاب السياسية الذي هدد وجود حزب العدالة والتنمية عام 2008 واستخدم لإغلاق حزب المجتمع الديمقراطي الموالي للأكراد عام 2009.

وتعد هذه التدخلات مناسبة للطريقة التي يتم بها حكم تركيا ككل، فمن الملحوظ أنه في دولة تتسم بهذا التنوع لم يتم إعطاء سوى القليل جدًا من الصلاحيات للأقاليم على المستوى المحلي، والمشكلة هي أن الأحياء والمدن ليست لديها مصادر للدخل تمكنها من الاضطلاع بمسئولياتها، ومما زاد من ضعف السلطات المحلية تقسيم السلطة بين العمد المنتخبين بشكل ديمقراطي والمحافظين الذين يتم تعيينهم بشكل بيروقراطي، ولا تتمتع المناطق الكردية الأكثر فقرًا في الشرق ولا المناطق الغنية العلمانية في الغرب بميزة وجود حكم محلي يتسم بالاكتفاء الذاتي ولا بوجود نواب أقوياء في العاصمة يسعون من أجل مصالح تلك المناطق. وليس هناك فصل في السلطات سواء على مستوى قمة الدولة أو على مستوى الأقاليم، وحقيقة أن الأقاليم والمدن محرومة من المشاركة، وأنها ليس لديها أموال ولا نفوذ تمثل العقبة الأكبر أمام مستقبل الديمقراطية في تركيا.

إن صعود صفوة الأناضول الجديدة إلى السلطة يعد تطورًا لم يعد النظام السياسي التركي قادرًا على التواكب معه، وقوة حزب العدالة والتنمية وموقفه ينبعان من مؤسسات قامت ببنائها الصفوة الكمالية (نسبة إلى كمال أتاتورك) لضمان السيادة لنفسها، وتظهر المعارك التي نتجت عن ذلك أن الجمهورية لا تستطيع تحقيق توازن مناسب بين جماعات المصالح التي تتنافس من أجل السلطة، فقد شهدت تركيا أربعة انقلابات خلال أربعين عامًا، لكن التأييد الشعبي للانقلابات اختفى، ويبدو أن الاحتمال الأرجح هو الإعاقة المستمرة للإصلاحات والزعزعة المستمرة للاستقرار وذلك نتيجة للمواجهات التي لا تنتهي.

إن تركيا تحتاج الآن إلى إصلاح دستوري كبير يهدف إلى اللامركزية ونشر الديمقراطية في البلاد، لقد تأخر كثيرًا التقسيم الجيد للسلطة على المستوى المركزي وفي الأقاليم، ويجب أن يدفع حزب العدالة والتنمية والبرلمان التركي والاتحاد الأوروبي خلال محادثات عضوية تركيا في الاتحاد، بقوة من أجل هذه الإصلاحات.

 

مايكل ثومان – رئيس جريدة داي زايت في الشرق الأوسط

font change