مستقبل العراق لن يحدده العراقيون وإنما إرادة واشنطن وأطماع طهران

مستقبل العراق لن يحدده العراقيون وإنما إرادة واشنطن وأطماع طهران


ولم تكن إيران لتكون لاعبًا رئيسيًا وندًا للولايات المتحدة في العراق وتطالب علنا بملء الفراغ فيما لو انسحبت القوات الأمريكية لولا سياستها البرجماتية الناجحة في استثمار وتوظيف المأزق الأمريكي في العراق لصالحها، واعتماد إستراتيجية المناورة بأدواتها وأذرعها داخل العملية السياسية وخارجها.


تسعى إيران من وراء نفوذها المتعاظم في العراق إلى تحقيق نوعين من الأهداف، القصيرة والبعيدة المدى، فهي من جهة وعلى المستوى الخارجي تحاول تحسين شروطها للتفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بشأن ملفها النووي في ظل إجراءات وضغوطات العزلة الدولية والخنق الاقتصادي والتحضيرات العسكرية الأمريكية في المنطقة، وتحاول في نفس الوقت المساومة مقابل ضمان انسحاب أمريكي هادئ من العراق مقابل أن تحظى بالاعتراف والإقرار بها كلاعب إقليمي يمتد نفوذه من العراق حتى البحرين


 . في هذا السياق تكتسب الانتخابات الحالية في العراق أهمية استثنائية لدى إيران كونها تتزامن مع وضع داخلي متفجر يتفاقم يوميًا مع ازدياد التصدع على المستويين الشعبي والسياسي.. والأخطر من ذلك على مستوى هوية النظام وشرعيته وخلفيته الدينية، لذا فهو بحاجة ماسة لتصدير أزماته إلى الخارج وتمثل المعركة مع الغرب والولايات المتحدة مخرجًا مهمًا لتوحيد صفوف الحاكمين في إيران وإضعاف المعارضة.


أما على مستوى الأهداف البعيدة والإستراتيجية فإن إيران تقدر جيدًا الفرصة التاريخية التي سنحت لها من خلال إزالة العراق كقوة عربية وإقليمية متوازنة في المنطقة كانت على الدوام تشكل مانعًا وسدًا أمام الاندفاعات الإقليمية نحو العمق العربي .


إن الهدف الاستراتيجي الذي تسعى إيران إليه لإحكام سيطرتها على العراق في ظل غياب عربي تام هو أن تجعل منه مجالها الحيوي والاقتصادي والجيوبولتيكي وقاعدة مشروعها القومي المغلف بالمظلومية والدعوات الطائفية أولا ثم الانطلاق منه لقضم المنطقة تدريجيًا لاحقًا. تشير تضاريس الخارطة السياسية للانتخابات الحالية في العراق إلى تبلور معسكرين أو كتلتين رئيسية سيتشكل على ضوء تنافسها ملامح الحكومة الخامسة، والحقيقة إن ك من هذين المعسكرين يخوض المعركة الانتخابية بالنيابة عن كل من الولايات المتحدة وإيران، فبعد تفكك الائتلاف الطائفي، الذي رعته إيران وفاز في انتخابات 2005 وانسحاب معظم أطرافه نتيجة الفشل الذريع على كل المسارات الخدمية والأمنية والتعليم والصحة وتفاقم معدلات الفساد والبطالة، تبدو إيران عازمة في هذه الانتخابات على رص صفوف أدواتها وزعانفها وأذرعها السياسية والدينية وتوحيدهم بقائمة واحدة من خلال إحياء الائتلاف الطائفي بقيادة المجلس الأعلى وإجبار الجميع على العودة إلى بيت الطاعة الإيراني وفي مقدمتهم التيار الصدري وحزب الفضيلة، ولا يمثل انشقاق المالكي عن هذا الائتلاف إلا تنافسًا على مستوى رئاسة الوزراء وليس على مستوى الولاء والهوية والأهداف الإيرانية، وإذا لم يكن قد انضم إلى الائتلاف الطائفي قبل الانتخابات فإنه سيلتحق حتما بعد الانتخابات.


الكتلة المنافسة الثانية التي تواجه النفوذ الإيراني تحظى من جهتها بالدعم الأمريكي وبعض الدول العربية، وهي تتألف من دعامتين؛ الأولى يقودها تحالف إياد علاوي – المطلك، والثانية يقودها تحالف جواد البولاني وزير الداخلية الحالي المدعوم من تنظيم الصحوات بزعامة أبو ريشة من جهة أخرى، وتشكل احتمالات فوز هذا المعسكر فرصة لإبعاد الشبح الإيراني المباشر عن العراق وتقليص نفوذها تدريجيًا وتقليم أظافر ميليشياتها بما يسمح بعودة الكفاءات العراقية وإجراء مصالحة وطنية حقيقية، إضافة إلى الرغبة الأمريكية في ترتيب منضدة الرمل الإقليمية وتأتي الساحة العراقية في مقدمتها استعداد لكل الاحتمالات التي قد تؤول إليه الأمور في الملف الإيراني، ومحاولتها ترك نظام سياسي في العراق غير موالٍ لإيران وقادر على ضمان مصالحها وملء الفراغ بعد انسحاب قواتها القتالية في أغسطس/ آب 2010 .


الرسائل المتبادلة ومستقبل العراق تكمن خطورة هذه الدورة من الانتخابات العراقية في إنها ستضع هوية العراق ومستقبله على المحك وأمام خيارات صعبة، وهي تأتي في مرحلة وظروف إقليمية غاية في الدقة والحساسية يرتبط فيها الحراك الداخلي مباشرة بالمصالح والصراعات الإقليمية والدولية، ففي الوقت الذي تعد فيه الولايات المتحدة نفسها للانسحاب من العراق مع الحفاظ على الحد الأدنى من ماء الوجه والمصالح، فإن إيران تصر على أن تكون الحقبة القادمة في العراق إيرانية بامتياز، بعد أن تمكنت فعليا من مد نفوذها في جميع مفاصل الحكم السياسية والأمنية.


ومن المتوقع أن يكون العراق ساحة لتصفية الحسابات وسيسعى كل طرف إلى حشد كل ما لديه من إمكانات وقدرات وأدوات ليزجها في المعركة الانتخابية في محاولة لتدشين مرحلة ما بعد الانتخابات وهو بوضع أفضل للمساومة والتفاوض والحصول على المكاسب، فالتفجيرات ذات البعد الطائفي والاستخدام الأقصى للرموز الدينية والضرب تحت الحزام وفوقه تأتي لإعادة الشحن والاحتقان الطائفي إلى الشارع عشية الانتخابات، لاسيما بعد سقوط أقنعة المظلومية والاضطهاد والفتنة التي تجاوزها المواطن العادي، وكذلك استخدام إيران لمؤسساتها الموالية لها داخل العملية السياسية لاستبعاد وإقصاء رموز من المعسكر الثاني وسرعة الرد الأمريكي في استحداث هيئة تمييزية لإعادة هؤلاء المستبعدين، كل ذلك ربما يفسر العنف المزمن الذي يضرب العراق بين الحين والآخر ويتصاعد كلما اقتربنا من الانتخابات كنوع من الرسائل التي يتبادلها اللاعبون الرئيسيون والثانويون على حد سواء ويبقي العراق مفتوحًا على كل الاحتمالات .

font change