تركيا وحكومة إقليم كردستان .. تعاون بعد عداء

تركيا وحكومة إقليم كردستان .. تعاون بعد عداء

[escenic_image id="5516609"]

طوال ما يقرب من عقد من الزمان، ظلت العلاقة الثابتة بين تركيا وحكومة إقليم كردستان في العراق تثير اهتمام المعلقين الإقليميين، مما يعد إنجازًا كبيرًا في منطقة اعتادت على الشراكات المفاجئة والتحول غير المتوقع في العلاقات بين الأعداء الألداء. ولكن ما حدث الآن هو أن عقودًا من العداء التركي المعلن تجاه أي مظهر من مظاهر الحكم الذاتي الكردي في المنطقة قد تنحت جانبًا لتفسح الطريق أمام زيادة التعاون بين الطرفين، وتم تتويج ذلك بالاعتراف الفعلي من جانب تركيا بالحكم الذاتي الكردي في شمال العراق، مما يشكل تحديًا لإحدى المحرمات التركية المتعلقة بالقومية الكردية، وللكثير من المفاهيم السائدة حول الجغرافيا السياسية الإقليمية في المنطقة.

وتعود بداية القصة إلى الأيام الأولى لجمهورية تركيا. فعقب إنشاء الجمهورية، اعتبر مؤسسوهاـ من أتباع مصطفى كمال أتاتورك ـ أن التصريحات العنترية التي تدعو للقومية الكردية تمثل تهديدًا لرؤيتهم ومفهومهم حول الجمهورية. وقد أدى هذا إلى قيام أنقرة بممارسة أعنف وسائل القمع ضد القومية الكردية، والتي توجتها بمحاولة "تتريك" الأكراد، ونفى أي وجود للأمة الكردية، ومنع استخدام اللغة الكردية في المدارس والجامعات ووسائل الإعلام، حتى أن مصطلح "كردي" نفسه لم يعد يستخدم، وتمت الاستعاضة عنه بمصطلح "أتراك الجبال".

ولا تزال هناك ـ حتى يومنا هذاـ حملة لاجتثاث القومية الكردية. ومع ذلك، فقد منيت هذه الحملة بالفشل، نظرًا لظهور حركات كردية مختلفة، مثل حزب العمال الكردستاني، الذي قام بإشعال لهيب القومية الكردية من جديد. ومنذ ذلك الحين وأنقرة غارقة حتى أذنيها في حرب دموية في شرق الأناضول، وهى الحرب التي أودت بحياة عشرات الآلاف من الأرواح من كلا الجانبين، وشكلت تهديدًا مستمرًا للاستقرار الداخلي في تركيا.

ولم تقتصر كراهية أنقرة لأي مظهر من مظاهر القومية الكردية على تركيا فقط. فخلال نضالها الطويل ضد القومية الكردية أدركت تركيا بحسرة كيف يتنقل "أتراك الجبال" بأفكارهم وأسلحتهم بسهولة عبر الحدود بين إيران والعراق وتركيا، والتي تمتد لمسافات طويلة وتعاني من ضعف الحراسة الموجودة عليها. وقد ازدادت حدة هذا العداء بدرجة أكبر مع لجوء مقاتلي حزب العمال الكردستاني لإخوانهم في العراق للحصول على المأوى والحماية وشن الهجمات على أهداف تركية.

وقد اضطرت تركيا في تعاملها مع الأكراد في العراق إلى انتهاج سياسة خلاقة تختلف تمام الاختلاف عن السياسة التي تتبعها معهم إيران أو سوريا. فمع الراديكالية التي كانت تنتاب بغداد من حين لآخر، ومناوشاتها الصغيرة مع الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، لم تتردد تركيا في استخدام الورقة الكردية في محاولتها التصدي لبغداد. وهكذا تغاضت تركيا، في مناسبات عديدة، عن أعمال العنف التي كان يقوم بها الأكراد في شمال العراق، طالما أنه كان بإمكانها السيطرة على مواطنيها من الأكراد في تركيا. وبالرغم من ذلك، كلما شعرت تركيا بأن أعمال العنف التي كان يقوم بها الأكراد العراقيون تهدد وحدة العراق، كانت تتخلى عن سياساتها تلك، لدرجة تصل إلى التدخل العسكري في بعض الأحيان. ولم تكن هناك أي علامة أو بادرة في ذلك الوقت تدل على نية تركيا في الاعتراف الرسمي بوجود الأكراد.

ولكن كل هذا تغير في أعقاب حرب الخليج التي وقعت في عام 1991. فبعدما قام العراق بقمع انتفاضة أخرى من انتفاضات الأكراد، وهو الأمر الذي أدى إلى نزوح مئات الآلاف من اللاجئين الأكراد إلى تركيا، أصبح شمال العراق ملاذًا آمنًا للأكراد، وسرعان ما تحول إلى دولة فعلية تقودها حكومة إقليم كردستان. وساعد عدم الاستقرار والصراع الدائم بين مختلف الأحزاب الكردية داخل إقليم كردستان، على بعث الأمل من جديد لدى أنقرة في سقوط حكومة إقليم كردستان وأن تقضى نحبها بشكل طبيعي. ولكن كل هذه الآمال تلاشت مع غزو العراق في عام 2003. ففي خضم الفوضى التي أعقبت ذلك، وخطر اندلاع حرب أهلية، بات ينظر إلى حكومة إقليم كردستان على أنها جزيرة من جزر الاستقرار الخالية من العنف الطائفي، والتي تتمتع ـ فضلًا عن ذلك ـ بانتعاش اقتصادي كبير. ومن ثم وجدت تركيا نفسها أمام خيارين: التمسك بسياستها المتمثلة في عدم الاعتراف بوجود الأكراد، أو قبول الوضع الراهن، وتحقيق أقصى استفادة منه. وقد اختارت تركيا على مضض قبول الوضع الراهن والتعامل معه.

ومنذ ذلك الحين شهد التعاون بين تركيا وحكومة إقليم كردستان تقدمًا كبيرًا في مختلف المجالات، حيث أصبحت الشركات التركية والمقاولون الأتراك شركاء في العديد من المشروعات المربحة التي تتعلق بالتنقيب عن النفط والإعلام والبناء. فقد قامت الشركات التركية، على سبيل المثال، بتشييد مطار أربيل الدولي. كما افتتحت تركيا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي قنصلية لها في أربيل، عاصمة إقليم كردستان، وهو الأمر الذي أثار استياءً كبيرًا في بغداد، التي ترى في هذا الاعتراف المحدود خطوة جديدة نحو تحقيق الطموح الكردي في الانفصال عن العراق. وكانت الأحزاب الكردية قد وضعت ممثلين لها في أنقرة قبل وقت طويل، ليكونوا بمثابة سفراء دبلوماسيين لهم.


ومع ذلك، كان التوتر يسود العلاقات بين الطرفين في بعض الأحيان، نتيجة لما كان يقوم به حزب العمال الكردستاني، حيث دعت تركيا حكومة إقليم كردستان مرارًا لتخليص أراضيها من قواعد حزب العمال الكردستاني. كما كثفت تركيا في السنوات القليلة الماضية من عمليات التوغل العسكري التي تقوم بها، والتي تشبه الهجمات العسكرية الكبرى التي قامت تركيا بها خلال فترة التسعينيات. وبالرغم من أن حكومة إقليم كردستان قد انتقدت  هذا التدخل المسلح فإنها غضت الطرف عنها في مقابل الحصول على اعتراف رسمي بوجودها وشرعيتها من تركيا، مما عرضها لانتقادات متزايدة من الأكراد. بيد أن هذا لم يمنع العلاقة بين الطرفين من الازدهار.

إذن ما السر وراء هذا التحول في موقف تركيا؟ يعزو البعض هذا التحول إلى مصالح تركيا الاقتصادية في المنطقة، والتي يصل حجمها إلى مليارات الدولارات، حيث كانت شركات النفط التركية العملاقة مثل جينيل وإينرجى وبيتأويل من بين الجهات التي استفادت بشكل كبير من هذا التعاون. ويجادل آخرون بأن أنقرة، التي يحكمها حزب العدالة والتنمية ذو التوجه الإسلامي المعتدل  تعتبر الأكراد السنة حائط صد محتملًا ضد السيطرة الشيعية على العراق برعاية من إيران. ولكن كلا هذين الرأيين لا يقدمان سوى تفسير جزئي لهذه التطورات الأخيرة. كما يمكن بسهولة شديدة دحض الرأي الأخير.

فأولًا، تنأى القيادة العلمانية لحكومة إقليم كردستان بنفسها عن الارتباط  بالتيارات الإسلامية، ولم تقدم نفسها قط في أي وقت من الأوقات على أنها قيادة سنية، وفي الواقع عانى الأكراد كثيرًا من الإرهاب والتطرف بسبب الاعتقاد السائد بأن الأكراد عملاء للغرب.  وثانيًا، أثبتت أنقرة أنها رابطة الجأش تجاه تهديد الهلال الشيعي، على الأقل مقارنة بغيرها من الحكومات في المنطقة.

والتفسير الكامل وراء تغيير الموقف التركي نجده في تركيا نفسها، فزيادة الاندماج التدريجي لتركيا في الساحة الشرق أوسطية، جعلها تدرك، أكثر من أي وقت مضى، الأثر السلبي لغياب الاستقرار بشكل دائم على حدودها، خاصة في ضوء تطلعاتها إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فوجود حكومة كردية مستقرة وموالية للغرب يعد بديلًا أفضل بكثير من حالة عدم الاستقرار السائدة في المناطق الأخرى من العراق، وأفضل من مشهد تجمع مئات الآلاف من اللاجئين الأكراد على الحدود التركيةـ كما حدث عام 1991.

وعلاوة على ذلك، لم يكن للتقارب مع حكومة إقليم كردستان تأثير كبير على العلاقات التركية-الكردية داخل تركيا نفسها، فلا تزال أنقرة تقمع أي مؤشر على وجود القومية الكردية، حيث أصدرت المحكمة الدستورية التركية أخيرًا حكمًا بإلغاء حزب المجتمع الديمقراطي لقيامه بالدعوة لانفصال الأكراد، ولصلاته المزعومة مع حزب العمال الكردستاني. وإذا كان هناك أي تغيير إيجابي قد حدث في السنوات الأخيرة فيما يتعلق بالحقوق المدنية للأكراد في تركيا، فيجب إرجاع ذلك للضغوط الأوروبية ولجهود الأحزاب التركية، مثل حزب العدالة والتنمية، على سبيل المثال، من أجل كسب الأصوات الكردية، وفي الواقع، لا يساهم صمت حكومة إقليم كردستان تجاه هذا الموضوع سوى في خدمة الدعاية التركية.

وهذا التقارب لا يكشف الكثير عن توجهات تركيا بقدر ما يكشف عن ما تصبو إليه حكومة إقليم كردستان، حيث يعد الاعتراف المحدود، الذي حصلت عليه الأخيرة من تركيا، إنجازًا  كبيرًا في إطار سعيها للحصول على الشرعية، ومحليًا ودوليًا، ومع ذلك فإن مثل هذه الانتصارات الصغيرة تعد انتصارات مؤقتة، بالنظر إلى التغيير السريع الحادث في الخريطة الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يعيه الأكراد جيدًا أكثر من غيرهم. 

font change